الهنــد التـي أحبهـا
الكاتب: روسكين بوند[1]
ترجمة: د. محمد أجمل[2]
قبل بضع سنوات، كانت هناك جماعة من الفتيات يعشن في التلال أو في قرى من الهند يذهبن إلى المدرسة. كن يساعدن في المنزل حتى يبلغن العمر الكافي للزواج. وهذا ما لم يكن متعارفا عليه من قبل. ولكن الآن فإن عدد الفتيات يعادل عدد الأولاد الذين يذهبون إلى المدرسة.
بيندرا هي فتاة ذات شخصية منفتحة - واثقة من نفسها- تبلغ من العمر أربعة عشر عاماً. رأيتها تتجاذب أطراف الحديث مع رفقائها في الطريق. كنت أسير في طريقي فالتقيت بوالدها -وهو حارس غابة ويعرفني جيدا- عبر غابات دودار خلف لاندور.
لقد اعتدت رؤية بيندرا كل يوم تقريبا. ولكنها ولمدة أسبوع لم أرها ولم تظهر أمامي، فسألت أخاها إن كان هناك أي خطب.
فأجابني قائلا: "أوه، لا شيء. إنها فقط تساعد والدتي في جمع العشب، قريبا ستنتهي الرياح الموسمية وسيجف العشب لذلك قمنا بجمعه وتخزينه للأبقار في الشتاء."
قلت له: "ولماذا لا تجمع العشب أنت أيضا؟"
_أوه، أنا لدي مباراة كريكيت اليوم. ثم ذهب مسرعا ليلتحق بزملائه في الفريق، فهو مختلف عن أخته حيث يفضل التمتع بأداء واجباته.
أصبحت لعبة الكريكت -التي كانت في يوم من الأيام لعبة النخبة، التي أصبحت لعبة الجماهير الآن - حيث تعوّد الأولاد على لعب الكريكت وهم يظهرون في مناسبات عديدة خاصة وبمناسبة العطلة يسرعون إلى أقرب ملعب، في أي جزء من هذا البلد الشاسع، أو رقعة مفتوحة من الأرض مع المضرب والكرة وأي معدات كريكيت أخرى يمكنهم رصفها معاً. عندما أشاهد بعضهم يلعبون، أندهش من تميزهم وبراعتهم الفائقة في لعبهم وتناسقهم. بعض الفرق المحلية جيدة، إن لم تكن أفضل من أي فريق من المدارس الخاصة، حيث توجد مرافق أفضل، لكن الأولاد من العائلات الفقيرة أو من الطبقة المتوسطة لم يحصلوا أبداً على الدعم الضروري للفت انتباه أولئك الذين يختارون فرق الولاية أو المنتخبات الوطنية، وذلك لأنه ليست لديهم علاقة برجال النفوذ والسلطة فيجب عليهم أن يستمروا في اللعب من أجل حبهم للعب فقط، أو مشاهدة انجازات أبطالهم الأكثر حظًا على التلفزيون.
*******
مع اقتراب فصل الشتاء وقصر الأيام، توجب على أولئك الأطفال الذين يعيشون بعيداً الإسراع في نشاطهم من أجل العودة إلى المنزل قبل حلول الظلام. وفي أحد الأيام وجد رانبير وأصدقاؤه أن الظلام قد حلّ قبل أن يصلوا إلى منتصف الطريق، فاعترضهم رجل كبير في السن فسأله قائلا: كم الساعة ياعم؟ وهو كان يسير في طريق شديد الانحدار عبر عشة آيفي.
يعتاد الشباب من الفتى والفتاة أن يسمي كل من لقيه من الرجال بالعم، أتساءل كيف بدأت العادة، ربما ترجع أصولها إلى الحكاية الخرافية عن النمر الذي امتنع عن الانقضاض عليك إذا أطلقت عليه لقب "العم"، النمور لا تأكل أقاربهم! هل يأكلون؟ قد لا تنجح الحيلة إذا كان النمر أنثى، هل تسميها "عمة" لأنها (أو معلمتك!) تنزل عليك؟
يحل الظلام عند السادسة، وبحلول ذلك الوقت يحب رانبير أن يكون خارج غابة دودار وعلى طريقها المفتوحة المؤدية إلى القرية. القمر والنجوم وأضواء القرية كافية، لكن ليس في الغابة، حيث يكون الظلام هناك شديداً حتى أثناء النهار، ويمكن أن يكون الهجوم الصامت للخفافيش وأصوات الثعالب الطائرة، وصيحة البومة المخيفة، مقلقاً بعض الشيء للأطفال الأكثر قسوة، وذات مرة طارد دب رانبير والصبيان الآخرين.
عندما أخبرني عن ذلك، قلت: "حسناً، نحن نعلم الآن أنه يمكنك الجري أسرع من دب!"
نعم، ولكن عليك الجري على منحدر عندما يطاردك دُبٌّ، "تحدث كشخص لديه خبرة طويلة في الهروب من الدِّبَبَة، "فإنهن يركضن بشكل أسرع!"
قلت: "سأتذكر ذلك، شكراً على نصيحتك"، ولم أكن أتوقع أن تسمية الدب "العم" من شأنه أن يساعد.
عادة ما يكون رانبير بصحبة أصدقائه يغنون على طول طريقهم، لأن الغناء الصاخب للأولاد الصغار سوف يسكت البوم ويخيف شياطين الغابة، أحدهم يعزف على فلوت، وموسيقى الفلوت في الجبال ساحرة دائمًا.
***********
ليس في التلال فقط، وإنما في جميع أنحاء الهند، يمر الأطفال في طريقهم باستمرار من وإلى مدارسهم بظروف تشمل العواصف الترابية في صحراء راجستان والعواصف الثلجية في لاداخ وكشمير. وفي المدن والبلدات الكبيرة توجد حافلات مدرسية، ولكن في المناطق الريفية النائية، قد يكون الذهاب إلى المدرسة معاناة كثيرة للأطفال و يواجهون مشكلة للوصول إلى المدرسة.
معظم الأطفال متساوون مع أي عقبات قد تنشأ، فأولئك الشباب الذين يعيشون في حي غانجام في أوريسا، وفي حالة عدم وجود جسر، يسبحون أو يعبرون نهر ذهانئي كل يوم للوصول إلى مدرستهم. لدي صورة لهم في دفتر القصاصات التي تخصني، حاملين الكتب والحقائب في يد واحدة، ويقومون بالسباحة بضرب الصدر أو بمجداف الكلب باليد الأخرى، ويقومون بصنع سلسلة لمساعدة بعضهم البعض على العبور.
أينما ذهبت في الهند، ستجد أطفالاً يساعدون الأسرة في كسب لقمة العيش، سواء كان ذلك بتجفيف الأسماك على ساحل مالابار، أو جمع براعم الزعفران في كشمير، أو رعي الجمال و الماشية في قرية في راجستان أو غوجرات.
الأكثر حظًا فقط هم الذين يمكنهم تحمل تكاليف إرسال أطفالهم إلى مدارس إنجليزية خاصة أو مدارس "عامة"، وهؤلاء الأطفال محظوظون حقاً، فبعض هذه المؤسسات مدارس ممتازة، وجيدة وغالباً ما تكون أفضل من نظيراتها في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، سواء كان ذلك في مدن أجمير، بانغلور، نيودلهي، تشانديغار، كانبور أو كولكاتا، أفضل المدارس تضع معايير عالية جداً. وأدى نمو الطبقة الوسطى المزدهرة إلى زيادة الطلب على التعليم الجيد، ولكن مع انتشار المدارس الخاصة، تتأثر المعايير أيضاً، ويجب على العديد من الآباء قبول الدرجة الثانية.
الغالبية العظمى من أطفالنا ما زالوا يذهبون إلى المدارس التي تديرها الدولة أو البلدية، وهي تختلف مستوياتها من الجيد إلى الدنيء، بناءً على كيفية تشغيلهم ومكان وجودهم، ليس من غير المألوف وجود فصل دراسي من دون نوافذ، أو بسقف يسمح بهطول الأمطار الموسمية، مع ذلك يتعلم الأطفال من المجتمعات المختلفة العيش والنمو معا، وأما المشقة فهي تفعمنا بالشعور بالأخوة.
يخبرنا الإحصاء أن إثنين من كل خمسة من السكان في الفئة العمرية من خمسة إلى خمسة عشر عاماً، ما يقرب من نصف سكاننا في طريقهم إلى المدرسة.
وهنا أقف عند نافذتي، أشاهد بعضاً منهم يمرون - أولاداً وبنات، كبيرهم وصغيرهم ، بعضهم بائس، وبعضهم ذكي، وبعضهم مؤذ، وبعضهم جاد، لكنهم جميعاً يذهبون إلى مكان ما - آملين تحقيق مستقبل أفضل.
[1] روسكين بوند، من مواليد عام 1934م في كسول في ولاية هيماشال براديش لأبوين بريطانيين في الهند المستعمرة، توفي أبوه الذي كان يعمل في الجيش البريطاني وكان شابا، أكمل تعليمه في شيملا، واستقر في مسوري، بدأ بوند يكتب روايات وقصصا منذ صغره، وكتب حوالي 500 قصة، وعددا من الروايات، كتب روايته الأولى "الغرفة على السقف" في عام 1957 وفازت بجائزة جون ليولين رهايس، وكتب 64 كتابا للأطفال، ويعد أشهر كاتب للأطفال في الهند باللغة الإنجليزية، حاز جوائز عديدة منها، جائزة ساهتيا أكادمي، وبادما شري، وبادما بهوشان، وجائزة جون ليولين رهايس، وكتب أيضا سيناريو لبعض الأفلام الهندية.
[2] أستاذ مساعد بمركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.