كانت كمية القهوة تقل في الفنجان شيئاً فشيئاً، الفقاعات تطفو على سطحها كأنها أمواج في بحيرة ضيقة، تضطرب كلما لامست شاربيه، فتبتل شفتاه وأسنانه، وتستمد ملامحه من لونها الفاحم القدرة على التأمل والتفكير في أيامه السالفة وكم سكب خلالها من قهوة في وعائه.
كرّر قوله عدة مرات:
الأحلام تحترق في ذاكرته احتراق السيجارة أمام منخاريه الواسعين، يتحدى المرئيات ويراهن الزمن، ثم يبتسم في حسرة، تسري حرارة الابتسامة في أوصال زوجته فتخاطبه:
ينظر إليها نظرة بلهاء قائلا في نفسه:
- لويزة زوجتي أصبحت منذ أسبوع فقط من سكان الحضر، تتنفس هواءهم في صمت، وكأنها عاشرت المدن منذ هجرة آدم وحواء إلى الأرض...!
- كيف حال البنت حليمة؟
- هي أمامك في الفراش، لم تنخفض درجة الحرارة عندها، مسكينة كادت أن تلفظ أنفاسها أثناء الليل؟
ويسألها الأدب منزعجا:
- هل كانت حالتها خطيرة إلى هذه الدرجة؟
- لا، ليس بسبب المرض، رأس أخيها عاشور الذي توسّد صدرها مدة من الليل.
يتنفس الأدب الصعداء وعيناه تنتقلان بين أبنائه النائمين على أرض الغرفة، ثم يقول متنهدا:
وترد عليه زوجته في دلال مقصود:
سأل منفعلا:
- ماذا فعل أيتها المرأة؟
- ألا ترى الفيلا والسيارة ووو...؟
قال لها زوجها:
- لا تنسي يا لويزة أن جارنا من مجاهدي حرب التحرير.
- وأنت ألست مجاهدا؟!
سأل على نفسه وذكريات الثورة تمر أمامه:
- أين هم المجاهدون الذين كانوا يتردّدون على البيت طيلة الحرب، الذين جاؤوا أول مرة إلى قريتنا وقالوا:
-إننا نحارب الكفار من أجل العيش في ظل الكرامة والحرية،
هل اســتشــهدوا جميعا؟ غير معقــول، إنهّم كثيــرون، ما هذه التناقضات التي أراها تنبت على صدر أمتي، أين هي العدالة الاجتماعية التي تمنّاها كل شهيد قبل وفاته،
كرّرت سؤالها:
- ألست مجاهدا، ألم تكن ممن حملوا الثورة على أكتافهم؟!
- ليست لي وثيقة تثبت ذلك يا زوجتي العزيزة.
- ومعارفك القديمة؟
- آه منك ومن أسئلتك التافهة المتكررة، قلت لك مرارا:
- اصبري وصابري، لقد كوّنت ملفا للانضمام إلى صفوف المجاهدين في سبيل الحق.
قالت لويزة مستبشرة:
- إذن سنشتري سيارة ونسكن "فيلا" مع حديقة عن قريب.
- إن شاء الله، وإن لم يكن ذلك فسيعوضنا الله خيرا منه في الجنة.
ركّزت بصرها في عينيه مخاطبة إياهما في صمت، ثم ما لبث لسانها أن تحرك قائلا:
***** ******
(سامحني،، ما بك؟ ألا ترى؟ زد، إلى الأمام،،)
كانت هذه الكلمات تخترق مسمعيه كلما امتدت خطاه نحو ساحة السوق، استعذ بها وحشر نفسه في (كرنفال) من الأمواج البشرية، رأى نفسه صغيرا صغيراً..
الدروب كثيرة وعباد الله أكثر، دفعته الأجسام المزدحمة إلى الاقتراب من أول صوت ينادي في مدخل السوق الأسبوعي:
فرح علي وقال يحدث نفسه:
تحرّك إلى اليمين ثم إلى اليسار وقال:
(الأشخاص... مجموعة من الشباب).
- قلت له، هيا أعد الساعة إلى مكانها.
- ألم تصدق، قلت لك بأنّني أعدتها منذ حين.
- انزل بها من السماء، انتظر، (يحاول تفتيشه)
- ليس من حقّك تفتيشي، من تكون أنت؟!
هزّ علي رأسه قائلا في حسرة:
النداءات تدعوه من كل صوب كأنها إذاعات التبشير العالمية...
قال علي العبارة السابقة في بلاهة عجيبة، ثم أردف سائلا في تعجب:
- لكن من أين تتغذى هذه المخلوقات البشرية؟
- أين تعمل كلها؟
الحمد لله لست البطّال الوحيد، لكن النقود كيف يحصلون عليها يا ترى؟ أرى الأمواج البشرية في كل شارع تزاحم العمران، وكأنّ أهل هذه البلاد في استقالة جماعية، أو أنهم يشيّعون جنازة ميت اسمه العمل...!
أه، لو يعلمون بأن العمل شرف وعبادة لتحققت المعجزة.
تقدّم منه طفل في سن ابنه:
نافسه طفل آخر:
أشار علي بيده قائلا:
وجد نفسه في مهرجان جديد، في سوق الخضر، صراخ كصراخ الموتى يوم البعث، بدأ العرق يسيل من جبينه على شعر لحيته الظريفة،، امتلأ شهيقه بالغبار الممزوج بدخان احتراق البنزين في محركات السيارات، أحسّ بأنه في بداية الاختناق.. اشرأبّ عنقه يبحث عن شيء ما، ثم توجه مسرعا يشق الصفوف ويقتحم الأكتاف في حركة غريبة حتى وصل إلى مكان خال من وطأة المشاة، وجد كهلا يتربع على حصير فتذكر وصية ابنه قبل يومين:
فقال للكهل:
سلّم له بائع الكتب كتيبا صغيرا أصفر اللون، كان عنوانه (قرعة الأنبياء).
- امتقع لون وجه علي فأعاد الكتيب لصاحبه ويده تبحث في جيوبه عن شيء قد أفل، كرّ راجعا من حيث أتى، ينظر في الأرض المغطاة بالأقدام وإلى الوجوه فيراها وكأنها مغطاة بلباس التهمة، كان يقول في نفسه:
- هذا، لا، هذا سرق دراهمي، لا هو...
عاد إلى كل مكان مرّ به، لم يعثر على شيء، استوقف انتباهه شيخ ذو لحية كثّة، عليه ثياب بالية، يمشي في هدوء مشيرا بعصاه إلى الباعة ولسانه يردد في صوت جنوني:
شعر علي بالغربة ثم سارع إلى تنفيذ فكرة خطرت على باله:
جلس أمامها القرفصاء، ونظر نحو يدها التي كانت تحمل سبحة صغيرة، بنية اللون، أحلامه تتراصف في مخيلته تراصف حبّات السبحة في الخيط، قصّ لها ما وقع له فبدأت تنظر فأله، وتقرأ طالعه:
- ستعود إليك درهمك، ستعود إليك إذا اشتريت هذا الحرز على بركة سيدي صالح.
- قبض علي على يديها بقوة وفرائصه تهتزّ انفعالا لأمر عجيب:
- سيدي صالح، هل تعرفين مكانه؟
نطقت متنهدة في فخر ممزوج بالحسرة:
وقف مندهشا:
لم تغرب شمس ذلك اليوم حتى وجد علي نفسه مع أمه وزوجته وأبنائه في طريقهم عائدين إلى قرية سيدي صالح،،،
وصار يردّد عندما وصل إلى مشارفها كلمات الشيخ:
-(جاءتك الموت يا تارك...)
***** *****
أحس علي بيد ناعمة تمر على جبينه في هدوء ففتح عينيه قائلا في فزع:
كانت زوجته أمام سريره تقول له في حيرة:
- قم يا علي، إن كبش العيد قد فرّ من الحمام وهو على سطح العمارة، حاول أن تدركه قبل أن يلقي نفسه من عل.
- نهض علي من فراشه بسرعة وخرج إلى شرفة شقّته، رأى الكبش يتخبط في دمائه وسط الشارع وجموع الناس حوله، وسمع الأطفال يرددون:
- كبش علي انتحر.
تأمل علي ذلك المنظر في صمت، رأى فيه المتاعب التي تحملها المدينة في جوفها المتعفن، وتذكّر بيته الريفي الفسيح وبستانه اليانع، فقرّر الهروب من المدينة الغاضبة والعودة إلى ذاته.