الفتى العكّاوي[1]
بقلم: عائشة بنور، الجزائر
القصة الفائزة في مسابقة منتدى المثقفين في أمريكا وكندا 2016.
بيروت 8 يوليو 1972..
تستيقـظ المدينة على صراخ وعويل غـادة المفجوعة، تبكي الحازمية وجعها، تلبس المدينة الحزينة لباس الحداد، تتــوشح بأكاليل من الياسمين، تودع بعيون دامعة عريس مدينتها المسجَّـى...
ينزل الخبر على غادة كالصاعقة، قيل لها:
- الرَّجل أشــلاؤه ممزقة، وذراعه فوق غصن الشجرة ينزف عطرا، وأحلامه الكبيرة اغتيلت و.و....
غادة لم تصدق الخبر وقد اهتزَّت الأرض من تحت قدميها، ثم راحت تعيد شريط ذكرياتها معه.
غسان لم يكن لها سوى الوطن الجريح، والحلم الأبدي المتجدِّد بين حنايا الذاكرة. غسان كان فلسطين، وكان البلبل الذي يغرد في سمائها، والوجع المتنقل بين الضِّفة والأخرى، يحمل فلسطين في قلبه، وعلى ظهره حيثما حلَّ به المطاف، وأين أرست سفنه الشراعية يسكن وجعه.
كان يقول لها في رسائله:
- "أنتِ في جِلدي، وأحسِّك مثلما أحس فلسطين ضياعها كارثة بلا أي بديل، وحبِّي شيء في صلب لحمي ودمي، وغيابها دموع تستحيل معها لعبة الاحتيال".
كان حينما يتكلَّم ترخي سمعها مندهشة حالمة، وهو يتحدث عن الوطن الجريح، يكشف أمامها خارطة فلسطين، ويضع قلمه وسطها قائلا:
- هنا كنتُ أسكن، وهنا بيافا ترعرعتُ، ومن هنا هٌجِّرت إلى جنوبي لبنان، وإلى دمشق ارتحلتُ، ومع هذا الترحال كبر الوجع والحنين، وعذبتُ هنا وهناك....
تقول غادة وهي تنوح كحمامة مهيضة الجناح:
آه غسان.. البارحة ...
البارحة استقبلتك بكثير من الفرح، واليوم وقد تملّكني الخوف أفْجَع فيك، وما بقي منك إلاّ ذراعك مرميا ينزف دما، وساعتك في المعصم تدق وتدق، وصوت درويشي يردِّد في سمعي غاضبا[2]:
"سقطت ذراعك فالتقطها
واضرب عدوك لا مفر
وسقطت قربك فالتقطني
واضرب عدوك بي
فأنت الآن حرُ
وحرُ وحرُ"
يتواصل أنين غادة من الوجع، وهي تصرخ قائلة:
- غسان ...آه يا غسان ...
غسان عاشق ثائر، وخائب مثل الملايين في هذا العالم، وهو الذي جمع بين حبين كبيرين، حبّ الأرض وحبّ امرأة.
كانت تقول دائما لصديقتها رُولَا:
- "نعم. كان ثمَّة رجل اسمه غسان كنفاني". الرَّجل الذي أقلق راحتي، وأقلقت وجدانه. رجلٌ أستعيده في ذاكرتي التي يسكنها حيًّا، وهو الذي أتعبته علب الدُّخان، وامتلأ صدره بدخانها الملوث.
هو الرَّجل الذي أنهك جسده المريض بالنقرس، وإبر الأنسولين الشيطانية التي تغرّز في وجعه، وهو الطفل المشاكس الذي حرم من بيت في وطنه ومن وطنه، ولم يسمح له العدو بالحياة، ففجره إلى أشلاء فتناثر عطره يملأ الأرض ... فلسطين.
ترفع سماعة الهاتف وتتصل.. تتصل وتتصل ولا أحد يجيب، لا أحد يخمد ثورة بركانها، لا أحد يسكن لوعتها، ويطفئ لهيب حرقتها، لا أحد يكفكف دمعها، لا أحد يضمها إلى صدره، لا أحد ... لا أحد...
تبتسم غادة في حالة من الهستيرية كالمجنونة التائهة في شوارع دمشق، وهي تبحث عن وجه غسان بين الوجوه، لعلها تراه.
كل العيون من حولها دامعة، والوجوه حزينة، والمدينة شاحبة تلبس لباس الحداد، الحازمية ترثي وجعها، وتتخذ من قلمه وكوفيته تمثال حرّيتها، الرَّجل لم يمت فكل المواليد سميت باسمه، وغادة مازالت تجوب شوارع المدينة التي تشهد على حبها ووجعها وأحلامها، تبحث عنه في حاراتها الدمشقية بالقلعة والجامع الأموي، وقصر العظم، وقصر الخضراء..
وغسان لم يعد بعد، وظلَّت عقارب الساعة تدق وتدق وتدق.. وأنغام فيروز تملأ الفضاء الرحب الذي ضاق في عينيْها....
و بأيدينا سنعيد بهاء القدس...
بأيدينا للقدس سلام....
بأيدينا للقدس سلام...
كانت تقول لها:
- كنت أغتسل وجعي بعرق الوطن الذي ينزُّ من جبينه، وأشمُّ رائحة الأرض على صدره، وأعشق رجلا "دون كيشوتيا" أحببته وعشقته على الورق.
آهٍ، أيها الفتى العكاوي...
غسان لم أجدك، ولم أجد جسدك مسجى ينتظر الصلاة، غير أنَّ رجلا اسمه غسان كنفاني في حياتي، ورحل في 8 يوليو 1972، والمدينة ترفع عزاءك إلى السماء قائلة لي:
" إنِ اشتقتِ يوما لقبر حبيبِكِ، مُرِّي به في الصباح[3]
وصُبِّي عليه من الدمعِ، صُبِّي من الدمع فوق الترابِ،
مصابك فوق الذي نستطيعْ
ستخرجُ عكَّا إلى السهل، رافعةً كفَّها للسماءْ.
ألاّ من رأى وجه كنعان، في أيِّ منفى، نقيم العزاءْ؟!!"