عندما وقفت سيلينا أمام المرآة، تذكرت كلمة والدها، التي كان يرددها كثيراً.
"البيانو أنيق ولا يقبل غير الأناقة من مستعمله."
تتأنق. تلبس الخفيف الأصفر في فصل الربيع، الأبيض في الصيف بعد أن تخترقه بلون حار كالشال الأحمر كما تفعل الآن، في الخريف والشتاء، يصبح اللون الداكن هو خيارها. وكلما ترنحت قليلا في الشارع، شعرت بأن شيئاً ما في الشارع مزهو بها بامتلاء كبير.
وعندما تتخطى العتبة تصبح ابنة الخارج. كل شيء فيها ينضع بالحياة حتى ولو كانت بيروت لا تتوانى عن منح الموت في كل الزوايا والظلال الخفية.
"البيانو لا يحتمل شيئا غير الجمال والإدهاش".
جلست على الكرسي قليلا تسترجع بعض المقاطع التي حضرتها للأمسية اليوم. وهي تعرف أنه عليها أيضاً إرضاء الجمهور بما يريده. جمهور نوعي. خمس نجوم VIP.نزل فينيسيا مدهش وله خيارات عالية في كل شيء. لو لم أكن عازفة بيانو في بيكاديللي قبل حرقه، ما قبلوا بي.
فتحت كراسة مذكراتها كما تعودت أن تفعل كل صباح، قبل الخروج، لأنها في المساء تعود منهكة، بالكاد تأخذ دش، ثم تحاول مشاهدة فيلم عالمي تنام في منتصفه. نيتفليكس وسعت من خياراتها، قبل أن تؤنبها ابنتها نينا التي كثيرا ما تدخل متأخرة من "جورنال المحقق"
أول جملة كتبتها أعادتها إلى سؤالها القديم:
" لماذا أجمّع كل هذه الأسماء والشكوك حول حادث مرعب ومليء بالحيرة، مر عليه أكثر من عشرين سنة؟ ماذا يعني هذا سوى أن بيروت مدينة قاتلة ببرودة. لي يقيني الذي أحمله كالحجر الصلب على قلبي. لا أحد يعرفه. في ذلك المساء كان سكرانا ومشتعلا ومقهورا. شكك في كل شيء حتى في نفسه "لابد أن أكون ابن قحبة" إذا لا يمكن أن أكون فهذا الحظ المتعثر. حتى نينا الصغيرة وقتها نظر إلى أصابعها ويديها وشكل ساقيها ورجليها قبل أن يقولها وتدوي صفعتي على وجهه بعنف: وهذه اللقيطة سويتها مع مين؟" رد الصفعة عليّ عشرات المرات حتى شعرت بأنه سيقتلني. ظل يصرخ بشكل هستيري. "شو عرفني؟ تظلين مع عصابة بيكاديللي. لازم يتحرق. بل بيروت كلها لازم تحترق هي سبب هذه الدعارة اللي جعلت الفلسطينيين يركبونا. وبدل توجيه السلاح ضدهم، رحنا دفنا قنابلنا في أجساد لبعضنا. وحياتك لو كنت أعرف يوم الاجتياح الإسرائيلي أن ياسر عرفات كان متخفيا هناك في مرآب بيكاديللي، كنت بعته بالرخيص للإسرائيليين. كانوا يبحثون عنه لإذلاله أمام العالم. تمنيت أن أصرخ بأعلى صوتي، واشتمه بكل الكلمات القبيحة، لكني ما استطعت لأني كنت أعرف الحرائق التي كانت بداخله. في لحظة فكرت أن أدخر كل جهدي وأرميه من أعلى طابق. لكنه حسنا فعل. حمل صحيفة مازوت، خمس لترات، كان يخفيها دوما في الزاوية الخالية من البيت. مجرد احتياط كما يقول دائما. هذه الإشاعة التي اسمها بيروت، غير مأمونة الجوانب. في ثانية واحدة يمكن أن ينقلب عليك وتصبح عدوه، بل وطريدته الأساسية التي عليه أن ينهي حسابه معها. سأحرقها كما فعل نيرون بروما. سأنتقم ضد كل من كان وراء مأساتي. قتلوا أخي في فندق بوريفاج لأنه ما حكى شيئا عن العائلة. أذاقوه كل ألوان التعذيب بتهمة التخابر مع إسرائيل. فشلت ثلاث مرات أيام الحرب حرق فندق الذل لكني فشلت. الحراسة كانت كبيرة والمخابرات تتشمم كل شيء. وفي لحظات الغيرة، فكرت أيضا في حرق بيكاديللي وما أفلحت. قلبي وقتها لم يطاوعني. المكان نفسه بدأ يتحول إلى هيكل عظمي. شو راح ينفعني لو حكيت لنينا هذه الرواية؟ أنا أعرف أن البيكاديللي. لماذا أُلبِسني تهمة لا فائدة من ورائها؟ المكان يموت من تلقاء نفسه بعد أن أغلق وأهمل كليا." هذا هو أنطوان زوجي لا يعرف إلا التهديدات والشتائم، لكنه ولا مرة أقدم على فعل الحرق. لهذا لم آخذ كلامه أبدا مأخذ الجد. لكني على يقين أن الحارق هو. في ليلة خروجه الأخير، حدث الحرق ليلا، بعد منتصف الليل. كل الكلام الذي حيك حول الحرق لم يدخل مخي أبدا. تماس كهربائي؟ عقب سيجارة التصق بمادة بلاستيكية من ديكور مسرحية مروان النجار، فأحرق كل شيء، يد إجرامية قامت بذلك لقتل ما بقي حيا وواقفا في لبنان؟ لم أحك لابنتي لينا هذا الفضل من حياة والدها، فهي لا تعرف إلا صورة الظلم ومقتل عمها تحت التعذيب في بوريفاج. لم أقل لها أنه عندما كان في حالة سكر وتخدير، هدد بالحرق قال بأنهم لن يعثروا عنه، سيلتحق بجيش الجنوب. " شو عطوني حتى يحاسبوني؟ لا شيء. على العكس من ذلك، دولة إسرائيل منحت عائلات وأهالي عناصر جيش لبنان الجنوبي، ومنها عائلتي، الكثير من المحفزات، لتشجيع الجميع على التعامل معها: السماح لأفراد عائلة الجندي في جيش لحد بدخول إسرائيل والعمل في البساتين والمطاعم والمؤسسات المدنية كافة، وتأمين الطبابة والعلاج على نفقة الدولة. ظللت على صمتي حتى خرج يترنح وترك الباب مشرعة."
"نقطة. اتوقف هوني."
ثم أغلقت كراستها. وضعتها بمحاذاة البيانو، في مكانها الاعتيادي، مع قلم الباركر الجميل الذي ورثته عن عاصي رحباني ليلة انطفاء الضوء في المسرح.
"أحرقوه، الله يحرقهم... شو راح يستفيدون يا سالي، بهيك جنون؟ لا شيء"
سمعت صوت والدها يأتي من بعيد، كأنه لم يمت برصاصة قناص البناية المقابلة التي فجرت قلبه. لقد تفادى القناص يومها رأس والدها على غير عادة القتلة الذين يجدون متعة لا توصف في التصاق بقايا المخ والجبهة والقفا والعينين، بالأرضية والحائط الملطخين بالدم وسيول المواد اللزجة. اختار قلبه لتكون الميتة سريه وأنيقة. كان القناص يعتقد أن القلب هو أجمل ما كان يملكه.
أغمضت سلينا عينيها لكيلا ترى إلا ما يمنحها الراحة.
نظرت إلى الساعة. نينا منهمكة في إعداد قهوتها العربية قبل الذهاب للنوم. دخلت فجرا. ظنتها سلينا أنها ستقضي الليلة بين ذراعي حبيبها الدرزي، لكنها سبقتها حتى للسؤال:
- هلا ماما حبيبتي. لهلا ما نمت. سهرت في جورنال المحقق. يريدون فضح كل العصابة التي قادت البلاد إلى الهلاك وابتذال الليرة.
- كثير يا ماما عليك.
- الشغف يخفف من كل المصاعب.
كيف أحبت درزيا، وهي من عائلة مسيحية؟ يا للعار. كلام ظلت عماتها العوانس الثلاث، يرددنه بخجل. فترد عليهم بعنف:
"- طيب، وبعدين؟ هذا خياري. وكان صديقي في الجامعة الأمريكية. من نصبكم آلهة صغيرة تحكمون على الناس؟ لا دين للقلوب إلا دين الحب، حتى ولو فشل في منتصف الطريق. يتحمل هذا القلب مسؤولية خياراته"
ثم تنزل الستار نهائيا وتخرج دون أن تمنحهن أي شرح أو تبرير.
تلتفت نحو سيلينا:
- بكير على فينيسيا؟
- لا قلبي. راح شوف مع الفندق الجديد، يبحثون عن عازفة بيانو متفرغة. اتصلوا بي بعد أن عرفوا من أكون، وتاريخي في بيكاديللي وأني ابنة وتلميذة أكبر عازف بيانو في بيروت: المعلم جوزيف، كما كانوا يسمونه.
- جدو مفخرة الله يرحمه. بس ارتاحي لك شوي.
- شطط الحياة يا نينا. البيانو كل شيء في حياتي. كلما تذكرت بيكاديللي أشتعل داخلي نجوما وغضبا. ليش؟ عشرون سنة وأكثر، وما يزال الألم على حالته الأولى. لا شيء تغير أبداً. في أي مكان أعزف فيه، أتخيلني في ركض البيكاديللي وأنا أرى البيانو يصعد من تحت، فتنفتح قطعتي الخشب ليعود الوضع إلى حاله، ويتربع البيانو المكان. ألغي كل شيء من ذهني إلا المكان الذي في رأسي.
- ما صح لي أشوفه في عزه، لكني كلما مررت عليه في شارع الحمراء أشعر بجيل ملأ المكان ثم انسحب في صمت وحزن، لأن بيروت التي بناها، لم تعد بيروت. البارحة فتحوا قضية تحويل الأملاك العامة إلى كبار التجار والمضاربين في البلاد ومنها البيكاديللي. ولا نعرف من سيحاسب من؟ شيء خطير.
- بالنسبة للبيكاديللي، خلص ما راح يستطيعون. استلمته الدولة. أصبح من الودائع المحمية.
- لهذا يقولون إن الحرق لم يكن حادث تماس. جريمة موصوفة القصد من ورائها دفع الورثاء إلى البيع والتخلص من التركة الثقيلة.
- ممكن جدا.
- البارحة لما حكوا عندنا في الجريدة عن البيكاديللي، التفتوا كلهم نحوي على أساس أني معنية بالموضوع، لأنهم يعرفون أن أمي كانت العازفة رقم واحد في هذا المسرح. جورنال المحقق متحمس. أعجبهم ما قمت به عن فندق بوريفاج ومخائه. كل ما دخله لا يمكنه أن يتحمل رائحته والصراخات الخفية التي فيه. يزرع الخوف على الرغم من أن المالكين الجدد يريدون تغيير الصورة وتحويله إلى فندق خمسة نجوم وجميل.
- خفت عليك. القتلة في كل مكان. اقترحوا عليّ العمل فيه فور الانتهاء منه، لكني رفضت. سرقت منه وظيفته وتحول على مكان للتعذيب. كل من دخلهن لا يخرج منه سالما. المهم راح شوف الفندق الجديد وأمر إلى درسي في الجامعة الأمريكية، وأذهب بعدها إلى فندق فينيسيا لساعتين. أكون هون السادسة مساء.
- أوكي ماما. راح أنزل عند جماعتي، وأعود شوي بكير لأبحث في الموضوع.
- باي حبيبتي.
- باي ماما.
ثم خرجت.
لبيروت مزاجها وطباعها. كانت حرارة شهر أوت قد بدأت منذ الصباح الباكر.