قصة: دموع المكان
بقلم: د. مسلم الطّعّان/ عراقيّ مقيم في أستراليا
في أيام طفولته كان يحب المطر، و يكره البقاء في البيت الطينيّ الذي تبتّل جدرانه بالمطر لكنّه يبقى صامداً وعصيّاً على السقوط. تصبح باحته الداخلية بُركةً من الماء تعيش لبضع سويعات في الحوش، كما كان الناس يسمّونه في تلك الأيام . كانت تلك البُركة مثيرةً لشهيّة اللعب لديه، و كانت والدته تنهره من فعل ذلك خوفاً عليه من المرض لأنها تخشى تكرار إصابته بمرض التايفوئيد الذي جعله قاب قوسين أو أدنى من حافة الموت، حيث تركت تلك التجربة آثار لسعات الجمر في جهات رأسه القرويّ الأربعة، لكي يستعيد الرمق الأخير الذي كاد أن يتوقف و تتوقف معه ساعة الحياة.
في سنوات عمره المتأخرة حصلت لديه حالة أشبه ما تكون بطلاق أو إنفصال مطلق عن ذلك الكائن المائيّ. لا يخرج أبداً عندما تسحّ السماء ما في جعبتها من ذخيرة مطرية إلا لحاجة ملّحة للغاية. كان يلزم البيت و يبقى ملتصقاً بشبّاك غرفته. ينظر بتأملٍ صوب زخّات المطر، و لكن ثمّة مطر آخر تعلو أصوات طبول سمفونيّته من الداخل.
- هل هناك مطر داخلي، و كيف تكون سمفونيّته؟!
ربما يتساءل أحدهم عندما يستمع لمثل ذلك الكلام. بعد أن أستمر ذلك الأداء المطري لليلتين متتاليتين ونصف نهار كامل، وبعد نفاد مؤونة حبوب ضغطه المزمن، قرّر مُجبَراً أن يذهب للصيدلية في السوق القريب، بَيدَ أنّ وصفة الطبيب قد هربت من بين يديه ولم تعد. طبيب العائلة يبعد عن البيت مسافة ثلاثين كيلومتراً تقريباً، و هو لا يستطيع أن يقود سيارته في مثل هذا الجو الماطر. خامرته فكرة مراجعة المركز الطبّي القريب في ذات السوق القريب لعلّ الطبيب الباكستاني المسلم الذي التقاه ذات يوم أن يكتب له دواء الضغط المزمن. دلف إلى المركز الطبي وكان يحمل كيساً من قماش عليه دوائر زرقاء يضع فيه دفتر ملاحظات صغير وقلم جاف أسود يفضّل الكتابة به على الدوام. بعدَ أن سجّل إسمه لدى موظفة الإستقبال، جلس على أحد المقاعد منتظراً دوره في ذلك المركز الذي يكتضّ بالمراجعين من المرضى الأطفال وكبار السن. إنتظر لنصف ساعة وسمع الطبيب ينادي بإسمه. بعد أداء طقوس السلام بادره الطبيب قائلاً:
-هل تعيش لوحدك في هذه الأيام، أم مع عائلتك؟!
- نعم. أعيش لوحدي دكتور.
بصراحته المعهودة، قال ذلك و إبتسمَ في وجه الطبيب مع شّكٍ بدأت أظافره تخدش بجدران قلبه الذي يرتفع فيه منسوب ضغط الدم. سؤال الطبيب المفاجئ له جعله يغرق في بُركةٍ من الأسئلة:
كيف عرف الطبيب بأنني أعيش لوحدي في هذه الأيام؟ هل ظهرت لديه معلومات في الكمبيوتر الذي أمامه بأنني عدت هذه المرّة لوحدي، و لم يصاحبني في رحلتي الأخيرة زوجتي و ولدي الصغير ؟!
شرح للطبيب تفاصيل قدومه من بلده الأم وحيداً، و بعد ذلك أخذ وصفة الدواء للصيدلية المجاورة للمركز الطبّي. السماء لم تزل مدلهمة بالغيوم وكانت تنذر بالكثير من عروض مسرحها المطريّ، و لكن بعد زخة مطر خفيفة تفرّق شمل الغيوم، و أشرقت الشمس لبعض الوقت. في تلك اللحظة تذكر زوجته و ولده المصاب بفرط الحركة و التوقف المفاجئ عن الكلام، عندما كانا يطلبان منه أن يقوم بجولة قصيرة في السيارة قُبيل العودة للشقة الصغيرة. قرّر أن يذهب لذات المكان الذي إعتاد أن يأخذهما إليه. دخل في الشارع المحاذي للغابة، الشارع الذي إعتاد فيه ولده أن يفتح شباك السيارة الخلفي و يخرج رأسه لينظر للسماء و الأشجار العالية. أدار وجهه للخلف كما كان يفعل سابقاً لقراءة أسارير وجه ولده عندما يصل لذلك المكان. إرتطم وجهه بجدار فراغ المقعد الخلفي و خلوّهِ من وجود ولده و زوجته. خنقته العبرة و بكى بحُرقة و راح يردّد إسم ولده بصوتٍ عال مع إنهمار شلال الدموع من عينيه. إنطلقت من قفص صدره حسرة حارّة أعقبتها شهقة بنبرةٍ جمريّةٍ جنوبيّة:
-أحّاه يا بويَه...اليوم أريد أحباب روحي...!
سَحّت السماء دموعها هي الأخرى مواساةً له، أم إنَّ المكان الذي إعتادَ أن يقوم بجولته العائلية فيه، بات يشاطره غصّةَ تلك اللحظة القاسية. تمتمَ بكلمات ذات نبرة تساؤلية و هو ينظر إلى المطر الذي علت أصوات طبول سمفونيّته:
هل هذه دموع السماء، أم إنّها دموع المكان الذي لم يعد يرانا نحن الثلاثة معا، كما إعتادَ على على الإحتفاء بإيقاع زيارتنا له في الأيام الماضية ؟!