تسطع الشمس على النوافذ لكنها لا توقظ القلب. أيّام ساكنات والأحلام لا تغادر ليلها، تطل كل صباح برؤوسها من جحورها ثم تتراجع أمام صراخ الأطفال، تبديل الحفاظات، تحضير الرضاعات، صفير الطناجر، بعثرة حذاء الزوج والجوارب...
تعود الأحلام خائبة إلى أوكارها
أرمي نفسي وسط حشود الناس وجموع المشترين وعربات الباعة المتجولين لأبلغ السوق.
ينكفئ طقسي السرّي القديم على نفسه .... ينفر، يهرب، يتوارى ويومئ لي من بعيد أن اتبعيني ... أهم بالهروب يصرخ الطفل أن احمليني، تتباطأ الرجل، تثقل القفة أتذكر ابني النائم وحده بالبيت فأسرع خطوي. تزداد الهرولة بين السوق والبيت يوما بعد يوم.
يصرخ الحلم المحبط
يهمس الطقس السري القديم:
متى سنمارس جنوننا وطفولتنا؟
متى سنعيش إبداعيا على الأرض؟ "
يميل الظل يطفئ وهج الشارع
أتذكر موعد الغداء وعودة الزوج.
أسرع أكثر.
تستوقفني فجأة يد مصافحة لم ألمسها منذ أربع سنوات.
"صباح الخير يا مدام!"
أصحّح " بل ابنان، الآخر بالبيت ".
أبلع غصتي: الشعر صار كالكحول السريّ رائحته من رائحة المنكر.
يلاحقني الدكتور بأسئلته:
يبدي الدكتور استغرابا
ما علاقة الشعر بالأطفال؟
أو هكذا أنتن " النسوان " لا تنتظرن من الدنيا سوى عريس إذا وجدتنه اسقطتن العالم وأقبرتن مواهبكن ". ....".
مضى الدكتور الى حاله ومضيت إلى البيت:
كأنني أعتّبه لأول مرة.
كأنه يستقبل امرأة غيري.
كلمات الدكتور تسبقني إلى أركانه .... تخلخلها..... تقوّضها ... انحني على سرير ابني أتفقده.
صراخه يختلط بصراخات أخرى في داخلي.. أشياء البيت توترني، تعثرني، تبعثرني... فوضاه تؤججني كجمرة خامدة تحت الرماد هبّت عليها رياح شتوية.
أركض بساعات النهار نحو ليل لن يأتي هذه الليلة كما يأتي كل ليلة.
في السرير تمتد يد زوجي تمسح الجسد طولا وعرضا فلا تأخذ طريقها كالعادة إلى منعرجاته ومنزلقاته.
يستعصي الجسد.... تتلقى اليد أولى خيباتها.
ترسم مغتاضة علامات استفهامها.
بينما كلمات الدكتور جعفر العلاق تدّب تحت الجلد دبيب الدود في العفن. والشعر؟ ... أين هو الشعر من حياتك؟ ... هكذا أنتن النسوان... إذا تزوجتن... أقبرتن مواهبكن ..."
تمضي اليد متوسّلة حينا معنّفة حينا آخر. ...لا يزداد الجسد إلا تخشبا... تتوتر اليد تشد بعنف طيّات اللحم .... بينما الدماء تجري بنيران جديدة لا تطالها اليد التي تعبث قليلا ... تتسكع على سطح الجسد ثم يغلب عليها النعاس فتسقط هاجعة.
وفي انعكاسات نور متقاطع متكسّر على أجساد لم تعد تركن لبعضها اسمع شخيره فيهدأ روعي ويرتخي جسدي.
أمسك قلما وانتشر من جديد بين البياض.
تقبل عليَ أحلامي كما يقبل الفلاح على النهر.
أستعيد طقسي السري القديم.
تفيض النفس بما يتزاحم فيها...
يلين الجسد كغصن ريان يورق من جديد ....
فجأة ينقطع الشخير.
تعود اليد آليا تجوس بين الوريقات اليانعة. ..
"ماذا أصابكِ منذ قليل؟
" أتركني رجاء أريد أن أكتب
"أكتبي في أوقات الفراغ...
" هذا الليل لي!
تمسّني رياح جنونية... أهّب واقفة كشجرة تهرب من فأس حطاب يريد شقها شطرين، لتواجه معزولة العاصفة.
لم أخلع قميص نومي تلك الليلة ولكني كنت كشجرة خريف تسقط عنها، أوراقها شيئا فشيئا ...لم يعد هناك ما يدعو للتستر على الحلم.
يكسوني العناد ويغلفني درع من دروع تلك الحروب القديمة المندلعة بين الموت والحياة.
الملم أوراقي وأخرج كأنني أهرب حشيشا أو مخدرات ... ترافقني ظلال سوداء حتى قاعة الجلوس التي وجدتها باردة.
تجرني رجلاني إلى المطبخ المكان الوحيد الذي يحتفظ بحرارته ورائحته في هذا البيت. أعددت قهوة تركية سبقتني رائحتها إلى الصالون. أغلقت بابه على نفسي. اعتذرت للبياض الذي كان ينتظرني، كعاشق صبّ يعود إلى حبيبته بعد طول جفاء. عانقت الحروف بعضها.
على هذه المساحة البيضاء سيحدث النصر.
سيأخذ المداد لون العناد
عاد الليل إلى طقوسه وعادت الحروف إلى الورق. كما تعود الطيور المهاجرة إلى أوطانها وامتلأت سمائي
بأسراب السنونو والخطاف ...وانفتحت في الكون سماوات جديدة
وبدأت أعيد ترتيب العالم من جديد
وأهيئ نفسي لعمر لا يفنى ...
لما أنخلع الباب وانتصبت على العتبة قامة رجل كنت أعرفه. لكنه بدا لي الليلة بشعا مترهلا أكثر من العادة ...كقاطع طريق منزوع من سلاحه، لا يزيّنه سيفه تقدم نحوي كالحيوان الجريح.
أنا لا أفعل سوى المطالبة بحقوقي ".
هو أيضا عنيد والمسألة بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت.
انحنى عليّ وقد خلت أنفاسه من كل حرارة وأًفرغت حركاته من كل إغراء.
دفعته بمرفقي. شدّني بعنف...
نظرت البيت فبدا لي غبارا ثائرا وقد قوّضت أركانه.
هبت رياح في داخلي. تبعثرني بين الخضوع والتمرد فكرت بابنيَ النائمين في الغرفة الاخرى ...
استيقظت فيّ امرأة راقدة من غابر الأزمنة:
" إن أنت استسلمت فسأغادرك إلى الأبد."
جاء صوت الحيوان الجريح:
جاء صوت القلم:
أنا الذي أخرجتك من القطيع فلا تعودي لعصا الراعي."
"لا أدري أي شيطان آخر دخل بصوته على الخط.
" لا تكبري المسائل وتخربي بيتك بيديك تعرفين زوجك عنيد ولا ينام مهزوما. وتعرفين كيف ينتقم وقد هدّدك سابقا بالطلاق.
ثم تركني وخرج. عند الباب التفت إليّ قائلا:
بإمكانك أن تكتبي الآن! ...
قمت إلى الدش أفتحه أطلت الوقوف تحته... ساعات والماء يغمرني ولا يغسلني.... عندما خرجت من الحمام لم أجده.
كان قد غادر إلى الجامعة ليبدأ محاضراته. عن الحريات وحقوق الإنسان.
حياة الرايس قاصة وروائية ومسرحية وشاعرة تونسية