العروس الكسولة
بقلم: د. محمد أجمل[1]
بينما الأسرة مشغولة في تحضير الغذاء والأب وابنه "داني" يسقيان الأشجار بالخارج، انشغلت بالمكالمة، "إيمان، يا بنيتي، ما الذي يجعلكِ دائماً على هاتفك، إذا قلتُ لك شيئاً، أو طلبت منك أن تقومي ببعض الأعمال، تأخذين وقتا طويلا في تنفيذه!"، قالت الجدّة العجوز لإيمان بعدما رأتها تتحدث مع صديقتها على هاتفها، فقالت: " نعم يا جدتي!، هل تقولين لي شيئاً؟" سألت إيمان جدتَها باستغراب.
"بنيتي، أخرجي سماعة الهاتف من أذنيك كي تسمعي ما يُقال لك."يا إلهي! غير معقول هذا الجيل، لا يُرى إلّا وهو ملتصق بالجوال، جيل مجنون حقّا.. راحت تتمتم الجدّة من ضجرها، ثمّ أردفت:
"يا إيمان، يا بنيتي! ساعدي والدتك في الأعمال المنزلية، ستكتسبين خبرة وصحّة، وسينقص وزنك أيضاَ، وتخففي قلق أمّك الدائم بشأن مستقبلك كبنتٍ... "تنهدت الجدة تنهداً عميقاً حمل داخله أعباء الجيل بأكمله.
جاء هادي مسرعا وهو ينادي: " إيمان! اكوِي لي قميصي، سأذهب إلى مكتبي فوراً واحتاج أن ألبسه".
"هادي! هل أنا الوحيدة هنا لتقوم بذلك؟؛ كنت أنوي الذهاب للقراءة في صالة الدراسة.” ردّت إيمان على الفور وهرولت إلى غرفتها، وبدأت في التحدث إلى صديقتها ساره والسماعة في أذنيها دون النظر حولها.
"ماذا أقول لك يا ساره؛ كلّ من رآني من أفراد عائلتي كلفني بعمل أو آخر، انتقلت أختي الكبرى إلى أميركا بعد زفافها وارتاحت، والآن بقيت هنا فقط أعيش لأخدم الجميع، لقد سئمت ذلك حقا، وأي أحد يطلب مني شيئا أعطيه عذرا للدراسة، وأهرع إلى غرفتي" ثم أتبعتها بضحكة تهكميّة سمعها هادي والجدّة خارجا وهما يتبادلان نظرات الحزن على إيمان وحالها.
كانت إيمان الابنة الصغرى لخليل، وهو الابن الوحيد للجدة (آمنة). وكان لدى خليل خمسة أبناء، أكبرهم سامي يعمل في دولة قطر، تليه هاجر التي هاجرت إلى أميركا بعد زواجها، ثم هادي الذي كان يعمل في شركة متعددة الجنسيات في بانغلور، وبعده إيمان التي كانت تدرس في إحدى جامعات بانغلور، بينما طه الأصغر سناً بين جميع الأبناء كان طالباً في كلية ويدرس في مرحلة البكالوريوس. وكانت ليلى (أم الجميع) تقلق في أكثر الأحيان حيال إيمان الكسلانة.
وكانت خادمة تأتي لأداء الأعمال المنزلية، لكن ليلى ربّة البيت كانت تقوم بمعظم الأعمال بنفسها. وبعد أن تزوّجت هاجر في سن مبكّرة، تريد الآن أن ترتاح وتفرح بزواج إيمان أيضا في القريب العاجل، إذا جاء العريس المناسب لها، لكن إيمان كسلانة في كل شيء.
وكانت ليلى تستاء من سلوك إيمان وتصرفاتها، وتنصحها في معظم أوقاتها سائلة إيّاها: ماذا ستفعلين حين تذهبين إلى بيت زوجك؟"، فلا تردّ إيمان بما يشفي الصدور بل تقول مستهزئة: "حينها سيساعدني زوجي ولن يطلب مني القيام بشيء يتعبني أو أكره القيام به، ثمّ إنّي لا أزال صغيرة ... "
جلست ليلى بجانب حماتها آمنة تشتكي لها الوضع وتظهر أمامها عن قلقها: "يا أمي! أنا منزعجة بشدة من استهتار إيمان في تصرفاتها وتقاعسها عن الأعمال المنزليّة، فماذا أفعل معها يا ترى؟ ومن سيرضى بها زوجة له؟"
قالت الأم: "يا ليلى أنت محقة يا ابنتي، لكنك لا تقلقي، كل شيء سيكون على ما يرام، إذا ذهبت إلى بيت زوجها سيتعين عليها القيام بكلّ الأعمال بمفردها لأنّها ستكون مجبرة، أمّا الآن فنحن ندفع ثمن دلالنا لها منذ الصغر".
أجابت ليلى:"دائما ما كنت تقولين لي إنك أعجبت بي لنشاطي يا أمّي فكيف ستعجب بها أمّ العريس يا أمّاه؟".
"حقّا يا ابنتي عندما جئنا لخطبتك أعجبتنا سرعتك ونظافتك يا ليلى، كنت كالنحلة تطيرين في أرجاء البيت حاملة القهوة والشاي، وعيناك على كلّ ناقص تكملينه، إضافة إلى ابتسامتك التي لا أزال أذكرها بعد مرور ثلاثين عاما" تبسمت الجدّة ووضعت يدها على ليلى: "ما زلتِ كذلك وذكية جدا، لا تبدين كأم لخمسة أطفال. لا أعرف لماذا لم تشبهك إيمان!؟". قالت آمنة تخفيفا لمخاوف زوجة ابنها.
ثمّ أضافت: "سترين ماذا سأفعل، سأبحث لها عن عريس بنفسي ليريها النجوم في وضح النهار."
جلست ليلى مندهشة لما تقوله الأم: "هل هناك خطبة ترينها مناسبة لها !؟".
" تلقيت اتصالاً من فهيمة بالأمس تطلب مني مشورة في خطبة مناسبة لحماها "فرحان"، وكانت تلمّح لإيمان وتسأل عنها، وذكرت في سياق الحديث أنها تحبها ... وفهيمة هي ابنة خالتي، كما تعلمين."
أجابت ليلى بطاعة وحسن إصغاء: "أعلم يا أمي، أعلم!"
أردفت الجدّة: "زوجها في البحرية وليس هناك سوى حموها وهو يعمل في الجيش، وحماتها "فاطمة" طيّبة وتتمتع بأخلاق حميدة، ذهبت منذ أسبوع إلى المملكة المتحدة لزيارة ابنها الأكبر الذي يعيش هناك، وطلبت من فهيمة أن يسرعا في تزويج "فرحان" ليطمئن قلبها على كلّ أولادها... سأتصل بفهيمة لأتبادل معها أفكاري هذه وعندما تعود "فاطمة" تأتي مع فهيمة لمقابلتنا، فما رأيك يا أمّ العروس؟" شعرت ليلى بالطمأنينة وتبسمت ثم استأذنت لتذهب إلى المطبخ لتحضير العشاء.
في الليل، عندما فرغ الجميع من العشاء، طلبت الأمّ من إيمان، "يا ابنتي المدللة! اغسلي الأواني ونظّفي المطبخ".
"يا إلهي! أماه، أنت في كل وقت تطلبين منّي أن أعمل شيئاً"، قالت إيمان بشيء من الانزعاج.
لا تنزعجي يا بنيتي! إنها مسألة شهور فقط، قالت ليلى مبتسمة وهي تتبادل النظرات مع حماتها".
استغربت البنت المدللة كلام أمّها ولم تفهمه ولم تحاول الاستفسار عنه، فغسل الأواني بالنسبة لها كان همّا يحجب عقلها عن التفكير أو التدبّر في أيّ كلام آخر.
"يا بني خليل، أريد أن أتحدث إليك". قالت آمنة لابنها، فأجابها: "نعم يا أمي، كلّي لك آذان صاغية".
"يا بني! هناك خطبة لإيمان مع حمو فهيمة، إنه عريس مناسب لها، يعمل لواء في الجيش، وغالبا ما يتم تعيينه في مدن مختلفة، أما أنا فاخترته لإيمان، حماة فهيمة تقيم في المملكة المتحدة، عندما تعود من سفرها، تأتي بها فهيمة إلى بيتنا للخطبة، فما رأيك؟
قال خليل متبسّماً: "نعم يا أمي، ما ترينه أنسب سيكون فيه خير، إيمان حفيدتك، وحتماً لن تختاري لها إلّا الأفضل".
بعد أسبوعين جاءت فهيمة مع حماتها فاطمة وفرحان لخطبة إيمان. أحب الجميع العريس، وتمّ ترتيب الزواج بسرعة لأنّ إجازة فرحان قصيرة وكلّ شيء كان مرتباً وجاهزاً. الآن أصبحت "إيمان فرحان" وأصبحت زوجة ابن فاطمة، كانت فاطمة سعيدة جداً، بقيت إيمان مع أسرة صهرها لبضعة أيام، وفي غضون ذلك جاء أمر تعيين "فرحان" وغادر إلى "جامو" و"كشمير" مع إيمان، تمّ إيواء فرحان من قبل الجيش وأعطي له خادم أيضا، لكنه كان معتاداً على القيام بأعماله بنفسه، ويقوم بكل شيء في الوقت المحدد له، الذي يعدّ جزءاً من واجباته.
انتبهت إيمان لنظام فرحان وحسن ترتيبه والتزامه، وحبّها له جعلها تغيّر من طبعها لتعجبه في كلّ الأحوال.
في الصباح، استيقظ فرحان مبكراً، وقام بإعداد الفطور لنفسه وأيقظ لإيمان أيضا: "استيقظي يا سيدتي ها هو الفطور جاهز. "
أسرعت إيمان إلى المطبخ ورأت أن الفطور جاهز على مائدة الطعام، تذكرت عادتها في البيت؛ كانت توقظني أمي من النوم في البيت وأقول أنّ نومي لم يكتمل بعد، ولكنّ الأمر هنا أصبح يجلب العار لها بينها وبين نفسها...
تناولا الفطور، استعدّ فرحان ليغادر إلى الثكنة وقامت إيمان لتودّع زوجها.
"يا عقيلتي! لقد رحبت بك اليوم، ولكنك الآن حرم "فرحان" الذي يتطلب تدريبها على الالتزام بالمواعيد، والصحو مبكراً، والنوم مبكراً وفي وقت محدد، وكل شيء يجب القيام به في الوقت المحدد. لذلك اعتقد أنّه يجب أن تعتادي يا أميرتي منذ اليوم الأول بأن نبدأ صباحنا باكراً." قال هذا فرحان مبتسماً وحياها مغادراً.
ابتسمت إيمان قائلة في نفسها: كان الصباح لطيفا اليوم يا حبيبي.
كان كلام فرحان كفيلا بأن يمتلئ قلبها بالشعور بالمسؤولية وشحنها بالطاقة اللازمة لأداء واجباتها نحو زوجٍ لم يظهر منه إلّا الحب والتعاون والتفاهم واللّطف.
بدأت إيمان يومها بتنظيف المنزل ورتبت كل شيء في البيت، وحضّرت الطعام قبل أن يأتي زوجها.
عندما عاد فرحان إلى البيت، رأى زوجته جاهزة بكل فرحة وبهجة، ابتسم وقال في نفسه: إن والدتي اختارت لي عروس أحلامي.
في بداية الأمر، كانت إيمان قلقة بشأن كيفية القيام بالأعمال بمفردها، لكن فرحان قدّم لها الدعم المطلوب. واعتادت إيمان على القيام بالأعمال المنزلية بنفسها وتحكمت أيضاً في وزنها، واتبعت نظاما غذائيا متوازنا، كان من أثرها المحمود انخفاض وزنها أيضًا وأصبحت الآن أكثر خفة ونشاطاً.
ذات يوم أثناء حديثها عبر مكالمة فيديو، كانت الأسرة تودّ رؤية العروس في بيتها شعرت ليلى بسعادة غامرة لرؤية إيمان. قالت الجدة التي كانت جالسة بالقرب: " حقًا يا إيمان! لقد غيرتِ نفسك كثيراً ". ضحكت إيمان بصوت مرتفع وقالت:
"إنّه الحبّ يا جدتي، ثمّ إنّ هذا بيتي ليس فيه أمّي التي كانت تدللني، بل أصبح واجبي الآن تدليل زوجي."
وفي أوّل زيارتها لبيت العريس دُهشت الأسرة بالتغيّر الجذري البادي على ابنتهم، وكأنّ لسان حالهم يقول: هل هي إيمان ذاتها الكسولة التي لم تكن تقوم بأي عمل في البيت؟ وكأنهم فهموا ما ألمحت إليه إيمان: إنه الحب الذي يغير كل شيء، نعم! الحب قد يزيح الجبل من مكانه وقد يذيب الحجر!
أستاذ مساعد بمركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو - نيودلهي
ماشاء الله، القصة ممتعة جدا