قالت كومتي وهي طريحة الفراش بسبب المرض للعمدة وناياك سنغ: "هذه هي آخر أمنيتي في الحياة". رد العمدة بكل جد: "لاتقلقي على ذلك يا عمتي، سوف يحقق الرب أمنيتك، سأوظف العمال منذ اليوم على ذلك؛ وإذا شاءت الأقدار فسوف تستقين من مياه بئرك، لعلك لقد عددت النقود؛ كم هي؟
غمضت كومتي عينيه هنيهة، تجدد ذكرياتها المبعثرة متلفظة: "أخي، لا أدري كم الروبيات هي؟ كل ماهي هي في القِدر؛ أرجوك أن تكتفي بها، لكيلا نضطر إلى التكفف أمام الناس".
العمدة (حاملا القِدر بيده): "بالطبع سأفعل ذلك، وليس هنا من يساعد، لا يعطي أحد حفنة من التسول؛ فمن ذا الذي يتبرع بالمال لحفر البئر؛ هنيئا لك أنك أنفقت دخل عمرك بأكمله في سبيل الدين".
نطقت كومتي باعتزاز: "أخي، كنتَ صغيرا جدا عندما مات عمك، إنه لم يترك لي شيئا، كنت أقضي أياما وأياما جوعى وعطشى، فكل ما كان يملكه عمك نفد في علاجه، كان عابدا كبيرا للرب، فسرعان ما دعاه ربه، وأنت تراني منذ ذلك اليوم كيف أقطع أيامي؟ لقد طحنت في ليلة واحدة أربعين كيلو غراما من الغلال، وكل من كان يراني يقوم حائرا متعجبا، لا أدري من كان يقويني على ذلك، مازلت حريصة على أن أحفر بئرا باسمه في القرية، لابد من خلود الاسم الجميل له، وعلى هذا، يتمنى المرء الأولاد والعائلة.
هكذا، أوصت العجوز كومتي العمدة وناياك سنغ بحفر البئر، وماتت الليلة ذاتها، فالكلام الذي لفظته في آخر لحظة احتضارها هي:"لاتؤجل حفر البئر". كان الناس يخمنون أنها تملك الثروة الهائلة، ولكن لا أحد يدري أنها تملك ألفي روبية ولاغير؛ كانت تخفي ثروتها كالعيوب. وناياك سنغ عمدة القرية رجل مخلص ومؤتمن، فأمرته العجوز بتحقيق هذا الغرض النهائي المنشود.
لم ينفق العمدة مالا كثيرا في تجهيز جنازة العجوز، وبعيد إنهاء الطقوس والتقاليد، ابتدر إلى تقدير ميزانية اللَّبِنات والأحجار والإسمنت، والطين. كان هارناث سنغ تاجر الغلال، ظل يصغي إلى هذا المشروع فتفوه: " هل هناك بأس لو لم تحفر البئر لمدة شهور".
رد العمدة مستنكرا: "لا بأس بذلك، ولكن لا داعي للمماطلة". لقد تبرعت العجوز بما لها من النقود، سوف يكون لي اسم جميل بالمجان، لقد كانت أكدت كومتي أن نحفر البئر بأسرع ما بمكن".
قال هارناث: "أجل، كانت أكدت، ولكن السوق جيدة هذه الأيام؛ إن ندخر غلال ثلاثة آلاف روبية الآن نربح حتى نهاية الشتاء بثلاثة أضعاف، ولك قليل من الرشوة في الأرباح".
لقد تورط قلب العمدة في صراع بين الريبة والخوف؛ حبذا لو ربحنا ألفين وخمس مئة روبية بألفي روبية! سوف نقوم بزخرفة البئر، ولكنه كان يخاف؛ إذا ما خسر هارناث في التجارة فماذا سيحدث؛ ولم يلبث العمدة إلا أن قام ببوح هذه الريبة قائلا: "ماذا لو خسرت في التجارة"؟
هارناث متلهفا: "لماذا سنخسر؟ هل هناك شيء؟"
العمدة: "افترض لو خسرنا".
هارناث متوهجا: "قل، إنك لاتريد أن تعطيني النقود، وتتظاهر بالتدين".
كان العمدة يخاف على ابنه كالأشياخ الآخرين، قال في صوت خافت: "متى قلت لك إني سوف لا أعطيك النقود، ولكنها أمانة، فلابد من التدبر في ذلك، فمن يدري ظروف التجارة، إذا كسدت الأسواق"؟ أو أصاب الغلالَ السوسُ أو أوقد زبون نارا في مستودع البضائع؛ فلابد من التأكد من كل شيء".
هارناث ساخرا: "إذا كان هذا تفكيرك فلم لاتقول: ماذا لو سرق لص أو تهدمت الجدران، هذه أشياء عادية".
لم تبق لدى العمدة حيلة أو دليل، لقد حاول الجندي الضعيف، وخاض ساحة الوغى، ولكنه استكان بمجرد رؤية لمعان السيف.
العمدة مترددا: "كم تريد.."؟
وبعدما رأى هارناث سنغ المحارب المحتال أن خصمه يتخلف، نطق غاضبا: "أعطني جميع ما لديك من النقود، ماذا سأفعل بخمسين أو بمئة روبية، لقد رضي بذلك العمدة، لم ير أحد العجوز كومتي تعطي أحدا النقود، لم يخطر ببال أحد أن الدنيا تفعل الأفاعيل، ادخر هارناث سنغ الغلال في المخزن، تراكمت أكياس الغلال والحبوب، والعمدة الذي كان ينام نوما هنيئا، بدأ يحرس مخازن الغلال بطريقة لا يستطيع حتى فأرة أن تتسلل إلى الأكياس، كان يتخطفها العمدة بشكل تخيب فيه القطط، ومرت على هذا ستة شهور، تم بيع الغلال، وحصلت أرباح خمس مئة روبية.
قال هارناث سنغ: "خذ منها خمسين روبية" رد عليه العمدة منضجرا: "هل هذه صدقة تتبرع بها، لوكنتَ استقرضت هذا المبلغ من رأسمالي لكان الربا مائتي روبية". لم يُطل هارناث الكلام أكثر، وأعطى العمدة مئة وخمسين روبية، لم تسعد قريحة العمدة بمثل هذه السعادة قط، عندما دخل غرفته الليلة للنوم خيل له أن العجوز كومتي ماثلة أمامها، وهي مبتسمة، فأخذ قلبه يخفق، وإنه لم يكن نائما ولا سكران، كانت كومتي تبتسم ضاحكة أمامها، نعم، وتغمر وجهها الذابل النضارة والخضرة.
مرت سنون، وكان العمدة في تفكير استعادة الروبيات من هارناث، ولكن هارناث هو دائم المماطلة والتسويف، يسدد من الديون مبلغا زهيدا كالرشوة، ويلتمس آلاف الحيل في تسديد الرأسمالية رغم ارتفاع السوق، وتصعيد التجارة، حتى قال له العمدة ذات يوم: "لابد لك من تسديد ما تبقى عليك من الديون، ولا أبالي بأن تربح في التجارة أم تخسر". اعتذر إليه هارناث بشتى الحيل، ولكن العمدة بات مصرا على عزمه، رد هار ناث مكفهرا: "أعدك بتسديد كل ما عليّ من الديون بعيد بيع الغلال؛ أمهلني شهرين".
نطق العمدة مؤكدا: "من يدري هل سيُباع مالك؟ ومن يدري أنك ستسدد ما عليك من الديون في شهرين؟ أريد اليوم".
انتهض هارناث للتو غاضبا ورمى ألفي روبية إلى العمدة.
العمدة بقدر من الخجل: "كانت لديك الروبيات".
هارناث: "فهل يُتجر بالكلام".
العمدة: " أعطني الآن خمس مئة روبية، وسوف آخذ ما تبقى منها بعد شهرين، لست بحاجة إلى كاملها اليوم".
هارناث بقدر من الخيلاء: "لا أحتاج إلى هذه الروبيات، أنفقها أنت أم لا تنفق، هل مات الرأسماليون في الدنيا؟ فلماذا أتحمل تهددك؟”.
وضع العمدة الروبيات على المحراب، واضمحلت فيه حماسة حفر البئر.
لقد سدد هارناث ما عليه من الديون، ولكنه احتال في نفسه مكيدة أخرى؛ عندما ساد صمت رهيب في منتصف الليل، تسلل هارناث إلى غرفة العمدة ثقبا في الجدار، والعمدة يغط في نومه غطا، أراد هارناث أن يأخذ الصرتين المملوءتين بالنقود ويفر هاربا، ولكنه ما إن مد يديه، وجد العجوز كومتي ماثلة أمامه تتمسك بيديها الصرتين تمسكا قويا، فولى هارناث مذعورا.
وبعد هنيهة مد يديه ثانية ظنا بأنه هو شبح مخادع، ولكنها صارت الآن مخيفة جدا لم يطق هارناث أن يبقى هناك حتى للمح البصر، فولى هذه المرة أيضا هاربا من هناك، ولكنه خر صعقا على الأرض.
كان هارناث جمع كل هذه الروبيات ليدفعها إلى التجار، ضجره العمدة فدفعها إليه بنية أن يسرقها الليلة، مثيرا الفوضى والضجيج باسم اللصوص، حتى لا يشك أحد فيه، ولكنه بعدما فشل في مكره، بدأ التجار يتقاضونه، ولا يمكنه الآن المماطلة والتسويف أكثر بالمواعيد، قدم الأعذار والحيل، ولكن دون جدوى، إلى أن بدؤوا يهددونه بإقامة الدعوى عليه، حتى أقام واحد منهم الدعوى ضده بثلاث مئة روبية، لقد تورط العمدة المسكين في مشكلة.
كان هانارنث هو الذي يجلس في الدكان، ولاعلاقة للعمدة معه، ولكن مكانته كانت من أجل العمدة، ولاغير. وكان الناس يعتقدون أن العمدة هو رجل أمين صادق الوعد، ومخلص في المعاملات، رغم أن أحدا منهم لايتقاضاه، ولكنه كان يختفي من الجميع، وعزم على أن لاينفق من أموال البئر شيئا مهما كانت الظروف.
وذات ليلة، ورد خادم مسلم لأحد التجار قبالة دار العمدة، وشتمه بملء فيه، فاستشاط العمدة غضبا مرات وكرات، ونوى اقتلاع شواربه، ولكنه تصبر على ذلك قائلا لنفسه: "ما لي وله"، وليس على الوالد أن يسدد ما على ولده من الديون.
وعندما ذهب لتناول الطعام، قالت له زوجته: "ما هذه المشاجرات على الباب"؟
العمدة في أسلوب ضعيف: "هل أنا من أثار هذا الشجار"؟
الزوجة: "فمن؟ يقسم الولد أنه لا يملك إلا قليلا من النقود، وأنت من أخذت كل المال".
العمدة: "لم يكن لي أن آخذ المال كله، لا أحب أن أكفف أمام ولدي مرة تلو أخرى".
الزوجة: "هل تحب أن تجدع أنفك"؟
العمدة: "ماذا سأفعل؟ هلا يتم حفر البئر أبدا، لقد مضت خمس سنين".
الزوجة: "لم يتناول حتى الآن شيئا، وفي الواحد من يونيو أيضا غادر المائدة من دون أن يتناول شيئا".
العمدة: "هلا أقنعتِه بتناول شيء، لن يكسب المال بترك الأكل والشرب".
الزوجة: "لم لا تقنعه أنت"؟
العمدة: " ربما يظنني الآن عدوا له".
الزوجة: "دعني أعطه النقود الآن، وعندما ستكون النقود لديك قم بحفر البئر".
العمدة: "لا، وكلا، لن أرتكب جريمة الخداع مثله حتى ولو قضي على منزلي".
ولكن زوجته لم تكترث بكل هذا وذاك، وقفزت إلى الداخل، وكادت تلقي يدها على الصرة إذ أطلقت صيحة وولت مدبرة، يهتز جسمها كالقيثارة.
العمدة مرتعبا: "ما بك؟ هل أصابك الدوار؟"
ألقت المرأة نظرة مذعورة على المحراب، وقالت: "ها هي ذي السعلاة ماثلة هناك".
رأى العمدة إلى المحراب نفسه، وقال: "من السعلاة هذه؟ لا أرى شيئا هناك".
الزوجة: "يخفق قلبي خفقا، كأن العجوز تلك لقد أمسكت بيدي".
العمدة: "كل ذلك وهم، لقد مضت خمس سنين على وفاة العجوز، هل هي لازالت واقفة هناك؟"
الزوجة: "لقد رأيت رأي العين، إنها هي عينها، كان ولدي يقول إنه أيضا رآها البارحة واضعة يدها على صرة النقود".
العمدة: "متى كان ولدي ورد غرفتي الليلة البارحة؟"
الزوجة: "أتى هنا الليلة ليطلب منك بعض النقود، ولكنه هرع مسرعا بعدما رآها عند الصرة".
العمدة: "حسناً، ادخلي أنت الغرفة، ودعيني أر ماذا هناك".
الزوجة (واضعة يديها على الأذنين): "كلا، لن أدخل هذه الغرفة أبداً".
العمدة: "دعيني أر ماذا هناك".
أخذ العمدة صرتين كلتيهما بيده، ولم يقع في أي نوع من الارتياب، ولم ير هناك حتى شبح للعجوز كومتي، وكانت زوجته تطل على الغرفة من لدن الباب، خرج العمدة وقال له متباهيا: "لم أر شيئا في أي مكان، لو كانت هناك لما كانت غائبة الآن".
الزوجة: "لاندري لم لا تتراءى لك، ربما كانت عطوفة معك، فلم تظهر لك".
العمدة: "لست أنت إلا متوهمة".
الزوجة: "نادِ ولدك وسله".
العمدة: "أنا واقف هنا، فلم لاتتأكدين من الأمر".
اجترأت الزوجة قليلا، وتقدمت إلى المحراب، ووضعت يدها على الصرة خائفة مرتقبة إذا بها صيحة شديدة وهي تهرب من هناك إلى فناء الدار، وأتى العمدة أيضا إلى الفناء سائلا إياها بكل حيرة: "ماذا هناك"؟ لم هربت؟ لا يتراءى لي هناك شيء".
الزوجة (مرتجفة): "خل المكان، كدتَ تقضي على نفسي، لاندري ما بعيونك لا ترى شيئا! السعلاة تلك لازالت هناك".!
إذ وصل هارناث، فرآى أمها ساقطة على الأرض، فسأل: "مابك، كيف حالك؟"
الزوجة: "شاهدت السعلاة نفسها مرة أخرى اليوم، وددت يا بني أن أوفر لك بعض الروبيات، وبكل تأكيد سوف تُحفرُ البئرُ عند توفر النقود عاجلا أم آجلا؛ ولكنني ما إن وضعت يدي على الصرة أمسكت السعلاة بيدي، وكدت أموت".
هارناث: "لابد من استدعاء الراقي الذي يخلِّص المكان منها".
العمدة: "هل كنت أيضا رأيتها البارحة"؟
هارناث: "أجل، كنت أتيت هنا البارحة، لأستشيرك في أمر، وإثر ما دخلت الغرفة، فوجئت برؤية تلك السعلاة عند المحراب، فهربت مذعورا".
العمدة: "إذن، اذهب من هنا الآن".
الزوجة: "من سيذهب؟ لن يذهب ابني؛ حتى ولو أعطاني أحد مئة ألف روبية".
هارناث: "لن أذهب أبداً".
العمدة: "لا أرى شيئا هناك، ماهذه المشكلة؟
هارناث: لعلها تهابك؛ لابد من إحضار الراقي اليوم.
العمدة: لا أستطيع أن أفهم شيئا، لا ندري ما الأمر؟ على كل حال، ماذا عن محاكمة بيجو باندي؟
كان هارناث يكره العمدة لحد لايريد أن يشاركه شيئا عن دكانه، حملق النظر إلى الفناء متفوها بعض الكلمات وكأنه يخاطب الهواء: "سنرى ماذا سيحدث، ربما سيقضي علي، ولكن لايمكنني أن أقيء ما قد ابتلعته منذ زمن".
العمدة: ولوجرت المحاكمة ضدك، ماذا ستفعل؟
هارناث: لايوجد في الدكان من البضائع إلا ما يقدر بأربع مئة أو خمس مئة روبية، وسوف تباع بالمزايدة.
العمدة: سوف لايبقى لتجارتك عين ولا أثر.
هارناث: إلى متى أبكي تجارتي، ولو كنت أعلم أن حفر البئر كان عاجلا لهذا الحد لما كنت شرعت في تجارتي.
كانت الأقوات موجودة من ذي قبل؛ لا مفر لي إلا أن أُسجن لشهور.
الأم: سوف أحرق وجه من يسجنك؛ أيُسجَنُ ولدي وأنا حية!.
تفلسف هارناث قائلا: "ألا، وإن الوالد ليس هو إلا سبب الولادة، لاعلاقة له بالعاطفة والمحبة".
كان العمدة يحب ابنه كثيرا، ولكنه شك في أن ينهب مال العجوز بالمماطلة والتسويف، فاستلمه منه بإلحاح، ولكنه عندما تأكد من أن هارناث حقا في المشكلة، سلمه روبيات كومتي خوف أن يُسجَن؛ وتستهان عائلته في المجتمع، ويباع ما في الدكان بالمزايدة، فجأة نادى شخص من الخارج: "يا هارناث سنغ".
اندهش هارناث وتغير لونه، سأل العمدة: "من بالخارج"؟
"مُوَقِّع الحجز" “هل جاء لحجز الدكان". "أجل، يبدو ذلك".
"بكم المحاكمة"؟
"بألف ومئتي روبية".
"ألا يؤجل الموقع بالرشوة".
"عساه أن يؤجل، ولكن الرأسمالي معه، فطبعا لقد أخذ منه ما شاء من الرشوة".
"إذن، آته ألفاً ومئتي روبية من مال كومتي"،
"لا تأخذ من مالها، لاندري أي نازلة ستنزل بنا"
"لا أحد ينهب مالها، هاهي ذي الروبيات؛ خذها مني".
خاف العمدة أن يَمثُلَ له أيضا شبح كومتي، ولكن زال شكه، أخرج ألفاً ومئتي روبية من صرة، ووضعها في صرة أخرى، وأعطاها هارناث، ولم تتبق منها حتى روبية واحدة حتى المساء، لقد مر اثنا عشر عاما، ومات العمدة، ومات هارناث أيضا، ظل العمدة متألما لحفر البئر ما دام حيا، حتى ظل يردد كلمة "البئر" عند وفاته. وقد قل المال في الدكان، وتحطمت تجارته كلها إثر وفاة العمدة، لم يقتنع هارناث بربح فلس أو فلوس، بل حاول اكتساب أضعاف مضاعفة من الأرباح، فبدأ القمار والرهان، ولم تمر عليه سنة إلا وقد دمر دكانه، وذهبت الأواني، والمجوهرات، والخلاخل ضحية القمار والنرد.
مات هارناث بعد وفاة العمدة بسنة، ولم يبق للأم من تعول عليه، مرضت، ولكن لم يتيسر لها العلاج، ولفظت هي أيضا أنفاسها الأخيرة بعد مكابدة الهموم والمصاعب بعد بضعة أشهر. بقيت في العائلة الكنة الحامل، ولم يكن لها من يعتني بها، لاتطيق العمل في مثل هذه الظروف، فقضت ستة شهور بشق الأنفس بخياطة ملابس الجيران "سوف تنجبين مولودا ذكرا". كانت الأمارات كلها دالة على ذلك، وهي الدعامة الوحيدة في حياتها، ولكنها أنجبت أنثى، فخاب أملها، لقد بلغت الأم في القساوة مبلغها، حتى لم تستطع أن ترضع المولودة الجديدة قط، ولكنها بإقناع الجيران حاولت أن ترضع، ولكن صدرها لم يدر حتى قطرة واحدة من الحليب، فاض قلب الأم المشؤوم بالأمومة والترحم، لو در صدرها قطرة واحدة من الحليب لكانت سعيدة.
طفق قلب الأم يبكي الدموع المنهمرة برؤية هذا الوجه البريء الجميل لهذه الطفلة المسكينة، باتت الطفلة مغمورة بالعيون المملوءة بالأماني الرائعة، والأدعية الوفيرة، والحب الغزير، كما تتمتع الأزهار بأنوار القمر الباردة في الليالي القمراء. ولكن لم يكن في نصيبها سعادة حب الأمومة، حاولت الأم إحياءها ببعض دمها، وحليب البقر، ولكن صحتها ظلت تتدهور يوما تلو يوم. وذات يوم، رآها الناس وهي جثة هامدة فوق الأرض، وطفلتها تمتص الحلمات متمسكة بصدر أمها الميتة. ولكن أنى لها من الحليب في جسم مصاب بالفقر والآلام، وبعدما شبت الطفلة عينها بفضل الجيران، وصلت المكان الذي كان به منزل العجوز كومتي، لقد كانت آثار الكوخ مندرسة منذ زمن، ولم يكن به شيء إلا من الجدران المتهدمة هنا وهناك، ومن يدري؟ لِمَ بدأت الفتاة تحفر الأرض بالمجرف، وظلت تحفر من الظهيرة إلى أن غربت الشمس، لا طعام ولاشراب، ولاخوف عليها ولافزع، لقد جن الليل، وغشى الدجى، ولكنها ظلت تحفر الأرض من دون أن تبالي بشيء، ولم يكن المزارعون يمرون بهذا المكان خوفا، ولكن هذه الفتاة مابرحت تخرج التراب من عمق الحفير، ولكن عندما حلكت الليلة غادرت.
وفي اليوم التالي، في الصباح الباكر، اقتلعت الأعشاب أكثر من ذي قبل، ثم وصلت الظهيرة مكان الحفر، ولكنها اليوم لم تكن وحيدة، كان معها ولدان آخران أيضا؛ وظلوا يحفرون الأرض إلى أن أمسوا، كانت الفتاة تحفر الأرض داخل الحفير، والولدان ينحيان التراب.
وفي اليوم الثالث، رافقهم ولدان آخران في هذه اللعبة؛ ظلوا يلعبون حتى المساء، وقد تعمق الحفير اليوم ذراعين، وحفزت هذه العملية أولاد القرية وبناتها بنشاط عجيب.
وفي اليوم الرابع، كثر الحافرون، وعملوا بطريقة منتظمة، فعمق الحفير أربعة أذرع، ولكن لم يكن الناس ماعدا الأطفال مطلعين على ذلك.
وذي ليلة، وصل فلاح باحثا عن جاموسه هذا التل، ففر منه هاربا برؤية ركام من التراب، وحفير كبير، ومصباح منير، ورآه الآخرون أيضا؛ كان ثمة العديد من الرجال، فلم يخفهم، إذ رآى فتاة جالسة هناك، فسألها شخص: "هل أنت حفرت هذا الحفير"؟
الفتاة: أجل!
"ماذا ستفعلين بهذا الحفير"
"سوف أجعله بئرا".
"كيف ستجعلينه بئرا"؟
"سوف أحفر عمقا أكثر، كما حفرت حتى الآن، يلعب أولاد القرية كلهم هنا".
"يبدو أنك سوف تهلكين نفسك وغيرك من الأولاد، ألا! لاتحفرنَّ من الغد!".
لم يحضر الأولاد في اليوم التالي، وأصبحت هي أيضا أجيرة في بعض الحقول، ولكنها نورت المصباح في الليل، وباتت تحفر البئر.
ضربها سكان القرية، وحجزها في غرفة، ولكنها ما إن انتهزت فرصة وصلت تحفر البئر.
عادة، يكون سكان القرى عاطفيين؛ لقد أعجبتهم هذه العلاقة الروحية للفتاة، فانشغلوا جميعا بحفر البئر.
على جانب، كان الناس يحفرون البئر، وعلى جانب آخر، كانت الفتاة تصنع اللبنات، والأولاد أجمعون يعملون برفقتها، وفي الليالي المقمرة، عندما كانوا نياما، تنعكف الفتاة على صنع اللبنات؛ من يدري! من أين لها هذا الجد والصبر والمثابرة!
حتى طلع ذلك الصبح الجميل إذ تم حفر البئر، وشيد فناؤها، ونامت الفتاة اليوم بأكمله بجانب البئر، متمتعة بالبهجة والسعادة، وهي تغني وتتهلل طربا.
ولكن في الصباح التالي، لم توجد على فناء البئر إلا جثتها، ومنذ ذلك اليوم، أصبح حديث الناس أن هذه هي العجوز كومتي! وسميت البئر بــ"بئر الساقية".
** أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة بنارس الهندوسية، فارانسي، الهند
* يعد بريم تشند زعيما وعملاقا في الساحة الأدبية الهندية في لغتي "الهندي" و"الأردو". كتب ما يفوق الثلاثمائة قصة، بالإضافة إلى عدد من الروايات ومسرحيتين.
لكم كل الشكر يا مجيب المبدعين ومجيب الشعراء والمترجمين، ومجيب المنتجين والمنجزين، حفرت بئرا وسقيت العطشى من زمرة الكاتبين، أجريت نهرا يسبح على ظهره الطلاب المتلهفون، فجرت بحرا ينبع منه المياه إلى الشعاب والوديان والقاحلين. بوركت وأنت على رأس المشيخة والشبان من المدرسين والمتعلمين والدارسين... هنيئا لكم جهودكم في سبيل النهوض بأقلام الشباب والواعدين