مزمور 1
أنا معتادٌ على الصراخ المدويِّ لبياناتِهم الممجوجة وخطبهم ووعودِهم العاقرة .
والاستماع إلى أصداءِ الأرجِ القديم لمآسي الماضي الذي ينبعثُ مثلَ هذياناتٍ محمومة كل يوم .
والمطاردةِ المستمرة لبعضهم البعض بسطوة وبُغض منذ الازل منذُ خراب بابل وانطفاء النجم الاخير وموتِ الملك بالاستئذاب بفعل الكرسي المسحور .
كيف تحملت كلَّ هذا .. ؟ وتخلصت من الاقبية المظلمة ولن تصبحَ جثةً مجهولةً يهاجمُها الغبارُ والذبابُ وتحاصرُها وجوهُ الغرباءِ في ازقَّة المدينةِ المدورةِ المشحونة بالبدو, السُّراق , العرافين ، القوادين والقحاب .
كيف تحملت الأسئلةَ المدبَّبةَ ومشقَّةَ الصمت وألمَ الانتظار
كيف طاردت فراشاتِ التمنياتِ في الحلم دونَ هوادة ؟
في السرير وحيداً والليلُ أكثر إمعاناً في الوحدة في ارض الجذور والأسلاف أو في يباب المنافي الموحشة
الضوء الأزرق في الشوارع العتيقة بهذا الشتاء السرمديِّ .
كيف اعتدتَ الرحيل صوبَ البحار المتجمدة وجبال الجليد على حين غرة تاركاً إخوتكَ كهنة آلهة الشمس يحتضنون الفراتَ , يكابدونَ جمعَ القرابين للحاكم جهنم وحروبه باسم الربِّ .
مزمور2
لاذاكرةَ للثلوج ولا مزاريبَ للريح ولاوجهَ للبحيرات الرائقة التي تهاجمُها النوارسُ بعنف .
كيف أضرمتَ نيرانَ زرادشت وفتحت أبوابَ جهنَّم ؟!
احترقتْ الذكرياتُ واستحالتْ إلى رمادٍ ونثرتَها القوى المقدَّسةُ في كلِّ مكان وطأتُه قدماك .
أنا معتادٌ على الظلام وطلقِ المخاضاتِ في الأماكنِ الغريبةِ والأرصفة المترعة ببول السكارى والنفاياتِ البشرية والمحطاتِ الغادرة الموحشة التي تحتضنُ المجانين والمشردين عند المساء . رقم في عداد الأرقام بهذا العالم الساخط على نفسِهِ حدّ الجنون والبذخ , عالمٌ مخبولٌ ومختل بكلِّ شيء .
أخذتُ على عاتقي أن أمدَّ مرقى جنوني إلى الأعلى وأتسلق .. أتسلق حتَّى الرمق الأخير
أمتطي الغيومَ البعيدةَ لاقتطاف "نجمة سهيل" , أسير في الليل الطويل بخطوات عاقرةٍ وحيداً وأعزل حتى الفجر, الى أن يتعالى آذان الله الرائق ويملأُ السماء . حتى الصباح الباكر وصوت فيروز السماوي
(أنا عندي حنين ... )
منذُ اتحاد الرغبةِ المتوحشةِ والسلطةِ البلهاء في أعماق هذا العالم المتشبِّث بالتاريخ .
منذُ سقوط الشهب التي لا تعنيني , والنجوم الكاذبة التي رتقوها على الاكتاف فظنوا انها تشع فاطلقوا كذبتهم وصدقوها وأمتلأتْ رؤسُهم ملقاً حدَّ الانفجار .
منذُ الانتزاع من الغرق الرحيم في المشيمة المقدسة , منذ أن تخلَّصتُ من التفاف الحبل السريِّ الذي كاد أنْ يخنقني .
الأشجار تتخلى عن أوراقها دون ضجر والأرحام تلفظُ حملَها عاريا ليس هناك مخلوق يخرجُ من الظلمات إلى النور مرتدياً حذاءً أوتاجاً ومهما لبث سيعود للظلمات دونهما.
هو انعتاق المصير عن السرب أو القطيع عاجلا ام آجلا .. لامفرَّ.
شهواتٌ تتمطى دونَ خجل وحواس تتثاءبُ وتتململُ بشدَّة وعنفوان تتمرَّغ على أرض الفجيعة أو تطير في سماء التأمل والانتظار .
تسحقها مخالبٌ وحشيةٌ , وتقلعها الأسلحة الفتاكة للعالم المتحضر من الوجود دون ذنب أو وجه حق أو تفويض من أحد
ولا أحدَ يواسينا ...
لا أحدَ يُحدِّثُ الربَّ عنا
مزمور3
منذ أن وزَّعَ الزنوجُ أقمارَهم على الغرباء والبرابرة , فكسَّروها حجراً حجراً , وخربت البلاد . ملأَ الخونة والجواسيس أيديَهم بالمغانم والأسلاب . أصبحوا لعناتِ لامردَّ لها ولا تهزمُها أقوى التعويذات ولا أدعية الأمهاتِ ولا أفواه الأطفال الفاغرة جوعا ولا بكاء الثكالى .
اقتلعوا أشجار الحنَّاء وأزهقوا أرواحَ شجر السِّدر العتيد وماتَ النخيلُ واقفاً مقطوعَ الرؤوس ولازال الزنوج يكسحونَ سباخ الملح ويلعقون جراحَهم ببكاءٍ مرٍّ , ويتصارعونَ مع صبر أيوب . يحلمون بعثوق الماضي في مخيلتِهم السرية يمارسونَ الاستمناء , يتناسلونَ مثلَ القطط يتخبطون في سواقي النفط الآسن الذي ملأت رائحتُه العطنهُ البلادَ ونشر مواعين الطاعون والسرطان بدل سلالِ الرُّطب والبمبر والنبق . خربَ شذاذ الآفاق والخصيان الشناشيل وأناخوها على الأرض دون رحمة وحطموها بحقد ومجون .
لكن تذكر ..
كيف عبرتَ كلَّ هذه الجغرافيا اللامكنونة ؟
وهذه البحيراتِ المتجلِّدةِ ومدنِ الثلج والرخام حيث النساء اللاتي خلقن من عسل وكرستال بعيون زرقاء صافية عميقة تستطيع أن ترى تجلياتِكَ عبرها بوضوح دونَ غبش , تستفزُّ مجسَّاتكَ الذاوية من الخوف والتحريم .
إن الأنبياء ما عادوا يعيشون مع البشر , والملائكة اللامرئين صنو الأموات.
بانتظار يوم الحشر المريع الذي سيتبين فيه الخيط الأبيض من الأسود . قد يطول أو بلمح البصر
لكن تذكر ..
كل ما يكفي المرء لحظة صفاء لاتنخسها أحقاد أوطمع أو كذب أو خوف مهما كان شكله أولونه.
لحظةٌ لاتُثقل الوجود بحجم قطرة ماء في محيط الحياة كفيلة أن تكون أبديةً لا متناهية .
مزمور4
لكن تذكَّر ..
العصفور يغني كلَّ يوم للجميع دون تملق أو مصلحة بلاكلل أو تقاعس, الوردة للأمير والعاشق والفقير وعابر السبيل أوعلى القبر أوفي يد عروس تشيع عطرها لكل المخلوقات والنجمة رغم خداعها تلمع في عيون احقر المخلوقات نذالة وفي عيونِ البحارة ومنْ أشتد بهم السهاد وعابري الصحراء اللامتناهية الأسرار.
فكن عصفوراً أو وردة أونجمة . ضوء النهار أو ضوء شمعة في هزيع الليل او أغنية تتدثَّر بها روحُك العاريةُ من برد الغربة والوحدة
أيُّها الفتى العالق في تخوم الروح وطين الأرض ..
أيُّها الماثل مثلَ خيوطِ الملح على حيطان سومر العتيقة ..
إنَّك مثلُ نهر لايدري أين يرحل ومتى يتوقف ويجفُّ …
إنَّك جرةُ نبيذٍ ملفوفةٍ بليفِ النخلِ مدفونهٌ منذُ فجر السلالاتِ لا تتعفن , ختم سومري لايمحى , تمثال أكدي لايبلى .
أنظر إلى ضفاف الروح بسلام واستلقي على عشب أحلامك الهيولية بسكينة . قرصُ وجه حبيبتك السمراء يكفيكَ ويقيكَ من الجوع والعطش , ضحكُ الأطفال يشفيك من المرض ويطرد دود الذاكرة وينقي الروح ويحيي الامل الرميم .
مزمور 5
لكنْ تذكَّرْ ..
مدامةَ استكان الشاي اللذيذ في "مقهى عابد"* "بشارع اللاتوازن" **الذي ما زالَ يموجُ بالأبكار والثيب في كلِّ مساء ترجمهم سهام النظرات المحرومة من كلِّ صوب , تذكر طعمَ صبير القهوة المرة في " مقهى الشيوعيين" أحفاد "أبا ذر" , لمة الأصدقاء في مقاهي الأرصفة وطقوسها الرتيبة , بعثرهم المجهول والحروب وأكلهم الحصارُ بضراوة وأثقلتهم حكمة الشيخوخة المبكرة والوهم الرحيم ونثروا على اصقاع الارض رمموا اجنحتهم وتبؤا الريح متورطين في اصطياد لحظة فرح كلما اقتربوا منها هربت إلى حيث لا مستقرٌّ ...
*مقهى عابد عبارة عن موقد أباريق الشاي وكراسي صغيرة من الصفيح على الرصيف في الهواء الطلق اختفت بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 الذي يفترض أن يكون آخر احتلال للعراق , كما اختفت كل الآثار والأرشيف والذاكرة الجمعية للأمة العراقية .
**شارع " اللاتوازن" اسم اطلقته أيام المراهقة على شارع الجمهورية الذي يعج بالنساء من مختلف الصنوف ودكاكين غير متجانسة الوظائف في مدينتي الناصرية . التي كل شوارعها لا متوازنة رغم استقامتها وتعامدها خططها المهندس البلجيكي "جوليوس تلي” juLius TiLLy عام 1869 . ورغم إنها مدينة في مهب الريح إلاأنها صامدة بعناد مثل خرائب أور. وشارع " اللاتوازن" شهد مقتل القائد البريطاني جيفرسون على يد نائب العريف حسين رخيص ابان الاحتلال البريطاني .