قصة: رحلة رفقة بورخيس
بقلم: محمد أكويندي/ المغرب
"إن الخيال البشري أداة للبقاء"
ألبيرتو مانويل _______________
على متن كوتشي مراكشي التقيتُ ببورخيس، ما أثارني في البدء مقبض عكازته الآبنوسية المجلوة كالمرآة التي انعكس عليها شُعاع شمس تلك الظهيرة حتى كاد بريقها يعمي بصري.
لم يعد الأمر حُلما، إنّها واحدة من المفاجآت في ذاك الصيف اللّاهب بالصّهد. جَلستْ إلى جَانِبهِ امرأة شقراء تصغره سنّاً.
حين تشبتَ بمقبض عكازته بكلتا يديه، خَفَتَ بريق الشعاع البرّاق، و هكذا استطعتُ أن أتبينَ وجهه بشكل واضح : حاجبان كثان، وأنف خَنِس ، وشفتان غليظتان، وذقن عريض، كانت قسمات وجهه شبيهة بقسمات عرّاف إغريقي !
همز السائق الشاب بطن الحصان الأدهم، الذي استجاب لتلك الحركة اللّاسعة برفع رأسه عالياً حتّى رنّ صوت جرس نُحاسي بِرّنات متتالية من تحت عنقه.
تحرك الكوتشي منطلقا، وسمعتُ همسَ بورخيس يردّد اسم زوجته : كُودَاما.. كُودَاما.. عِوضَ أن تجيبه، أطبقتْ كفها على كفيها المتشبثتين بمقبض العكازة، زحف قليلا حتى ألصق كتفه الأيمن بكتفها الأيسر.. جعلَ أذنه الكبيرة الحجم لَصق فمها، حتى يستطيع سماع كل نأمة تصدر منها.
سألها بحياء : هل يرافق رحلتنا أحد؟
أجابته: هناك رجل في الخلف.
صمتَ لفترةٍ وجيزةٍ، ثم قال لها: أيمكنك وصف ملامحه وملابسه بدقة؟
سحبتْ كفها من فوق كفيه وسوّت خصلات شعرها التّي داعبتها هَبّة ريح خفيفة، وأجابته مداعبة أياه: تخيل أحد حكماء الأندلس.
أحنى رأسه قليلا وعقب عليها ساخراً:
لم أشم رائحة الطيب الزكية التي تميز الحكماء والفلاسفة.
في تلك الأثناء كان الحصان يقذف روثه داخل كيس ملتصق بمؤخرته.
ضحكت كُودَاما، والتفتْ نحوي لترى ردّة فعلي من سخرية زوجها، تظاهرتُ بالشرود والنظر إلى التّلاع والروابي البعيدة، كانت مدخنة بيت ريفي معزول فوق هضبة تقذف دُخاناً أبيض.. فجأة، فرمل حصار العجلات، وشتم السائق متسولة بالبقرة كادت تدهسها عجلة الكوتشي. تتبعت عيون كُودَاما المرأة المُسنة حتى عبرتْ إلى الطرف الآخر.
تنهد بورخيس تنهيدة عميقة حتى رفعت ماريا وجهها سائلة بعلها : أيؤلمك شيئا ما؟ أجابها على مضض: ما يؤرقني بمراكش ذكرى قُرطُبة ..ارتفع صوت الآذان لصلاة العصر. كان السائق الشاب رافعاً سبابته إلى السماء مردداً :
(لا إله إلا الله)
حضن بورخيس عكازته إلى صدره، وأخذ يجوس ملمسها بكلتا يديه، التفت بفمه إلى أذن كُودَاما، وقال لها: كان أبو الوليد على روحه الرحمة والسلام، يطل من الشرفة المشربية فرأى ، تحته، في البهو الأرضي الضيق، بعض الصبيان يلعبون شبه عُراة. كان أحدهم ،واقفا على كَتِفيْ آخر يمثل المؤذن بصورة جلية : عيناه مغمضتان بإحكام بينما كان يتلو
الصبي (لا إله إلا الله) أما الذي يحمله دون أن يصدر نأمة، فكان يمثل الصومعة، وكان الآخر راكعاً على ركبتيه جاثياً في التّراب، يمثل جماعة من المصلين.
ضحكت كُودَاما وهي تهز كتفيه من شِدّة الفرح صائحة :
يا لشقاوة ذاكرتك، انكمش الزوج على نفسه كمن يتقي ضربة خفيفة ممازحة موجهة إليه ،ثم لوّى عنقه جهة أذنها وهمس لها : ألم أقول لك دوما:
بأنني مُتَعْفِنٌ بالأدب.
ثم أردف: لقد غاب عن ابن رشد مفهوم المسرح، والتبست عليه كلمتا كوميديا وتراجيديا في ترجمتهما كتاب الشعر لأرسطو ولذا كان تلافيهما مستحيلا.
أرخى السائق اللّجام فوق ظهر الحصان، وجلس يتابع رغوةً بيضاء تتقاطر من فم البهيمة بفعل الرّسن، وبخار منخريها يتعالى، مع صعود العقبة الكأداء.
كفى! كفى! مِحْنَتهُ مع أبي يعقوب المنصور، صاحت كُودَاما.
كانت كلماتها هاته مُناصرة لأبي الوليد في وجه زوجها. باعد بورخيس ما بين كتفيهما حتى أصبحا مثل فج بين جبلين، وصاح بصوت جهوري: ياعزيزتي، لو نعتَ صاحب الكوتشي بعدَ قليلٍ المتسولة بالزّرافة، لغيرنا مجرى حديثنا هذا إلى محنة أبو الوليد الحقيقية، وإن كانت في الأصل كذبة كبيرة، تَلُوكها ألسنة العوام من المسلمين العرب.
أرجوك كوداما أن تحتكمي إلى العقل. في ترجمته لكتاب الحيوان لأرسطوطاليس، ذكر الزرافة التي مِثْلَها يَمْتلكها مَلِكُ البربر، وكان يقصد أبو يعقوب المنصور ملك البرين، وهذا ما أثار غضبه، مِمّا جعل علاقتهما تصاب بالفتور وهناك من الظرفاء من أسّرّ إلى صُحبه هَازئاً: الزّرافة مُشْتعِلة .
تلقف الخبر السعايا والوشاة، وذاع الخبر بين المسلمين العرب.
وهناك، من يرجع مِحْنته كونه أقرّ بأن كوكب الزهرة أحد الآلهة، ورموه بالزندقة والكفر، وشككوا في إيمانه.
صاحَ السائق في وجهي أنا المُتناوّم فوق المقعد الخلفي: هذه هي حدائق المنارة.
كانت الأغراس مشذبه بعناية فائقة، وأثر فن البستنة تشهد للبستانيين المهرة في ذلك.
رَامَ الشاب بالكوتشي إلى جادّة الطريق، وطلب منّا عشر دقائق فقط لزيارة حوض المنارة..
ترجلت كُودَاما أولا، ثم مدّت يدها إلى زوجها لتساعده عن النزول.
كنتُ آخر نازل من العربة ، رأيتُ بورخيس يسند ظهره إلى جذع نخلة سامقة محتمياً بظلها وإلى جانبه وقفت كوداما .كانت النخلة الوحيدة في تلك المنطقة التي تعطف بظلها الوارف ، عصر ذاك النهار،وقفتُ مصطفاً معهما على خط الظّل الممدود. قالت كوداما لزوجها، ألم تستنشق نسائم حدائق الاباما الأرجنتينية هُنا؟ رفع قدمه اليُمنى وأسندها إلى جذع النخلة بينما اعتمد على رجله اليُسرى، وجعل عكازته نيابة عن الرِّجل الأخرى المستندة لجذع النخلة، ثم عقب عليها مبتسماً : أنا الآن، في وضع عبدالرحمان الداخل، مُغَترّبٌ، كان المسكين يخاطب بحدائق الرُّصافة، نخلة إفريقية:
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبة # فمثلك في الإقْصَاء والمُنْتَأى مثلي.
سمحت قامة كُودَاما الطويلة بالنسبة لوضع بورخيس المنحني قليلا، بتسوية منديله البارز من جيب سترته الفوّاح بماء كولنيا،مَدحتْ رائحة عطره الزكية، فرّد عليها ساخرا: وأيْنَ مِنْهَا رَائحة أميرك الأندلسي؟
يبدو أنكَ لا تبادلني نفس الحب الذي أكنّه إليك؟ انفرجتْ شفتاه قليلا، تأهبا لتقبيلها فاستجابت لقبلته، ثم غازلها لا داعي لتكرار ما قلته فيك مراراً، ابعدت وجهها عن وجهه قليلا وخاطبته: ماذا قلت في عربون حبك لمحبتي ؟
استوى واقفا ومستندا براحتيه على مقبض عكازته، وهمس بصوت حزين :
أنتِ وَحْدتِي وعَتمتِي وجوعَ قلبي.
صاحَ السائق فينا لقد حان وقْتَ انتهاء الزّيارة، وقفنا إلى جانب الكوتشي ننتظر ريثما يَفْرِغُ الحصان مَثانته، أزال السائق مِخلاة مدلاة
عن عنق الحصان، ووضعها في خزّان خلف العربة.
قفلنا عائدين وكان بورخيس يجاري خبب الحصان بنقر أصابعه فوق عكازته وحاولتْ كوداما أن تصرفه عن ذلك فهمس في أذنها : يا لعوبة، تحبين كتابة التانغو بدل الاستماع لإيقاعه؟
ردت عليه بنبرة فيها نوع من التبرم : لا تنتظر مني أن أرقن إليك محاضرتك الأربع للتانغو ،هذا كل ما في الأمر !
إلى هذا الحد ؟
فرقع السائق سوطه في الهواء، حتى يحثُ الحصان على الاسراع في سيره ،كان وضع جلوسنا قد تغير ، هكذا أصبحت أجلس وراء ظهر كوداما، مما جعلني أتأمل هيئة بورخيس العجوز ،كان بدينا بعض الشيء، بطول لابأس به ومتصلبا ،بوجه شاحب ومكتنز، بقدمين صغيرتين بصورة لافتة، وبيدٍ كانت ، عند مداعبة زوجته لها، تبدو دون عظام ، رخوة، كما لو أنه كان منزعجا من اضطراه لتحمل هذه الملامسة التي لا مهرب منها. وكان في حركته تردد، ويبدو كأنه يفتش عن كلماته ويستأذن لقولها .
عانقته كوداما وضمته إلى صدرها، وهمست في أذنه بصوت خفيض: في شرفة مقهى الأركانة، المطلة على ساحة جامع الفنا، سأتحول إلى شخصية البيرتو مانغويل، لأصف إليك كل شيء هناك بِدقة ،كما كان يفعل معكَ داخل قاعة السينما.
نقر عكازته ثلاث مرات، مع خشب الكوتشي، ليرفع ستارة حزنه، ورد عليها بصوت واهن وهيئة حزينة : ما يؤرقني بمراكش ذكرى قُرطبة .. قُرطبة التّي هربتُ إليها من أسر زواجي السيء الذّكر من ألسا . نعم ،كما هرب إليها جثمان ابن رشد وكتبه .
أجابته بخوف شديد: هل تتنبأ بموتك فيها ؟
أحنى رأسه كأنه يخاطب ذيل الحصان : على أي حال فأيُّ مكانٍ -لا على سبيل التعيين - يطيب فيه الموت.