قصة: القرد الذي توقّف عن القفز
بقلم: مجيب الرحمن/ الهند
في قلب عاصمة البلد، حيث تلتقي الأبراج الفاخرة بالأحياء الشعبية عبر نفق طويل يسمّى "ممر التنمية"، كانت تقع حديقة الحيوانات الوطنية، أحد أقدم معالم المدينة. لكنها لم تكن حديقة فقط، بل كانت واجهة سياسية – نافذة تُعرض فيها "صورة الدولة الحديثة"، المنضبطة، النظيفة، الهادئة، الخالية من الفوضى.
في قفص متوسط الحجم، كان يعيش القرد سليم. كان مختلفًا. يقفز بلا توقف، يصرخ أحيانًا، يقلد الحراس، يسخر من الزوار، يعكس تصرفاتهم. كان يقلّد المدير وهو يتحدث في الهاتف، يقلّد المذيعين في نشرات الأخبار، يقلّد الواعظ وهو يقول: "اصبروا... وادفعوا الضرائب، فالدين يطلب الطاعة".
ضحك الأطفال، ثم الكبار، ثم بدأت الضحكات تتراجع. تحوّل سليم من مهرّج إلى مرآة… ومن مرآة إلى خطر.
ظهر تقرير على القناة الثالثة، بعنوان:
"قرد الحديقة... سلوك عدواني يشوّه صورة المدينة!"
ظهر خبير نفسي يقول:
– "نحن لا نتحدث فقط عن قرد، بل عن رمزية التمرد غير المنضبط."
وأضاف آخر، يرتدي بدلة أنيقة:
– "هذا يؤثر على الأطفال... تبرير السخرية من السلطة مرفوض أخلاقيًا."
صفّق الجمهور في البرنامج، وهزّوا رؤوسهم بالموافقة. وبدأت صور سليم تُحذف من الكتيبات السياحية.
وفي إحدى المدارس الخاصة، سأل طفل أمه:
– "ماما، لماذا القرد سليم يقلد الحارس؟"
قالت الأم:
– "لا تتكلم عن أشياء غير لائقة. ركّز على دراستك."
قاطعتها المعلمة:
– "القرد هذا غير محترم. لا نريد لأطفالنا أن يشبّهوا أنفسهم به."
ثم وُزّعت نشرة توجيهية على المدارس تحت عنوان:
"حماية الطفل من التأثر بسلوكيات مضادة للمجتمع."
وفيها صورة ظلية لسليم، فوقها عبارة:
"الحرية ليست فوضى."
وفي خطبة الجمعة، قال الإمام بتجهم:
– "انضباط السلوك هو من الإيمان، والتقليد والسخرية من ولاة الأمور باب من أبواب الفتنة. حتى الحيوان يجب أن يُهذّب. فالخلق الإسلامي يشمل الإنسان وكل ما حوله."
تنهّد العجائز، وقال أحدهم:
– "نحن في زمن الأقنعة… حتى القرد صار يحتاج إلى فتوى."
نُقل سليم إلى قسم "إعادة التأهيل السلوكي"، وهو مبنى منفصل في الحديقة، تديره "هيئة التنسيق السلوكي العام"، التي تأسست بقرار وزاري بعد "أزمة الببغاء الصارخ" العام الماضي.
في هذا المبنى، تُخضع "الحيوانات المزعجة" لبرامج تهذيب، تشمل:
"احترام المجتمع مسؤولية، الاندماج أمان، الخروج عن السلوك تهديد."
في البداية، قاوم سليم. قفز رغم الظلام. صرخ رغم التجويع. ولكن... شيء فِي عينيه بدأ يخفت. صار يلتفت كثيرًا. يقلّل من حركته. يضحك، ثم يعضّ شفتيه ندمًا.
قال له أحد الزملاء في الزنزانة المجاورة، دبّ ضخم له وجه مفكر:
– "لا تفكّر كثيرًا، يا سليم. هم لا يريدوننا أن نهدأ، بل أن ننسى أننا كنا نتحرك."
عاد سليم. لم يقفز. جلس في الزاوية. أدار ظهره للزوار. يضع يده تحت ذقنه، ويتأمل بصمت.
قال أحد الزوار:
– "أخيرًا، أصبح محترمًا."
وردّت زوجته:
– "هكذا يجب أن يكون الحيوان في الأماكن العامة."
نُظّمت زيارات مدرسية لمشاهدة "قرد الانضباط"، وأُلقيت محاضرات من مسؤولين عن "أثر ضبط السلوك على نجاح السياسات البيئية".
وأصبح سليم شعارًا للتهذيب الوطني. صُنع منه تمثال صغير وُضع أمام مدخل الحديقة. تحته لوحة تقول:
"من قفز بلا إذن… إلى رمز للسكينة."
وفي يوم من الأيام، أُدخل قرد جديد، اسمه رامي. كان يشبه سليم حين كان حرًّا. يقفز، يضحك، يسخر، يقلّد الشرطة وهم يضربون المتظاهرين. صاح أحد الحراس:
– "احذروا! هذا القرد مصاب بعدوى الحرية."
جلس سليم في زاويته، ينظر إلى رامي. تاقت عروقه للقفز، لكنه بقي صامتًا.
اقترب رامي وقال:
– "هل تريد القفز؟ أنت كنت مشهورًا، أليس كذلك؟"
رد سليم بصوت حزين:
– "كنت أظنني حرًّا... لكنني كنت في مشهدٍ مكتوب. القفص أوسع الآن، لكن الحبال في الداخل."
نظر رامي حوله وقال:
– "لن أهدأ."
قال سليم:
– "وأنا... لم أعد أقدر."
(فكرة القصة مستوحاة من القصة الشهيرة "النمور في اليوم العاشر" للقاص السوري الشهير زكريا تامر- مع جزيل الشكر والتقدير والمحبة للكاتب الكبير).