من الشكوى إلى الشكر
د. محمد أجمل
الهند
------------------
سألت سعاد زوجها حارث بصوتها الخشن: "لماذا تسخر دائما مما أقوله؟"
ما إن سمع حارث ذلك الكلام حتى طارت الابتسامة من وجهه، ونظر إلى عيني سعاد فوجدهما مغرورقتين بالدموع التي حاولت سعاد إخفاءها بمهارة أنثوية فائقة.
وواصلت كلامها قائلة: "طلبت منك شراء شرشف سرير فقط، ولم أطلب منك شراء سيارة لي!"
"أعلم أنك محقة فيما تقولين يا سعاد لكن ..." أراد حارث أن يخفف من نبرة كلامه، لكنها قاطعته قائلة:
"ماذا؟ أنت تسخر مني منذ الأشهر الثلاثة الماضية، وكلما أصررت عليك وجدتك تتذرع دوما بتأجيل الأمر إلى الشهر المقبل. ما هي قيمة شرشف السرير؟ وفي الشهر الماضي ألقيت محاضرة طويلة عن الإسراف في شراء مزهرية. وأنا من أدبر أمور البيت، ولذا أريد أن يبدو منزلي جميلًا ...؟'' ثم غطت سعاد وجهها بكلتا يديها وأجهشت بالبكاء.
تسمّر حارث في مكانه، وخفض رأسه وهو يستمع إلى كلام سعاد، وبدا شاردا في فكره، إلا أنه استجمع قواه ونظر إليها، ولزم الصمت للحظات كما لو كان يختار أنسب الكلمات يهدئ بها من حدة نبرة كلامها.
وأخيرا أمسك بيديها وقال لها: "أنا محرج جدا، وحقا أهتم بمشاعرك، وأتوقع أن يزيد راتبي الشهر المقبل بإذن الله، وأنا أجتهد في عملي بجد، وآمل بصدق أن يرسل مشرفي تقريراً جيداً عني إلى إدارة المؤسسة ".
"كم سيزداد راتبك! خمسمائة روبية؟ ألف روبية؟ "ماذا سنجني منه؟"سألته سعاد متهكمة، بينما الدموع تنهمر على خديها.
"ليس الأمر كذلك، سيزداد راتبي بثلاثة آلاف روبية". قال حارث مبتسما وهو يمسح دموعها بيديه.
وافترت شفتا سعاد عن ابتسامة لدى رؤيتها وجه حارث تكسوه الابتسامة، وبدت مزهوة بنفسها وخيّل إليها كأنهما في جنينة تتمايل أغصان أشجارها تحت وقع النسيم العليل عقب هطول الأمطار الخفيفة عقب تساقط الرذاذ الذي يزيد الجو لطفا وبهاء، هكذا تغير وجه الحياة في نظرها وإن كان الجو حارا في الخارج.
"يا أخي حارث! تضررت الفرامل الخلفية لدراجتك النارية، يستلزم الأمر تصليحها واستبدالها بأخرى جديدة". اقترح ميكانيكي الدراجة على حارث بينما فمه ملآن بالتبغ يمضغه، ولذا رفع وجهه فوق أثناء حديثه كيلا يسقط شيء من المادة المسكرة على الأرض.
وتحسّس حارث جيبه، فوجد أن ميزانيته لم تكن تسعفه في الوقت الحالي، فاضطر إلى أن يختلق عذرا فقال:
"لا يا صديقي! قد أكون متأخرا في وصولي إلى مكتبي، وسأقوم به في حين عودتي منه، بس الآن شدّدْ الفرامل شوي بما يكفي."
شدّد الميكانيكي الفرامل قدر الإمكان بينما كرّر ضرورة تغييرها قائلا: "كما يحلو لك يا أخي! لكن لا تنس أن تلقاني لدى عودتك، فقد تخونك الفرامل الخلفية في أي وقت، ولا يمكنك أن تعتمد كثيراً على الفرامل الأمامية وحدها".
ردّ عليه حارث قائلا: "حسنا"، ثم انطلق بدراجته صوب المكتب. وكعادته كل يوم، ما فتئ يفكر في صعوباته المالية، ووظيفته المتواضعة كمشغل الحاسوب، ومسؤولياته المكتبية اللامتناهية بينما راتبه ضئيل جدا.
وكان حارث يتوقع زيادة في راتبه من الشهر المقبل، وهذا الأمل كان يعزز عزمه ويشحذ همته، وكان قد أعد قائمة بالمهام التي كان ينوي القيام بها والتي لم يتمكن من إنجازها نظرا إلى الضائقة المالية التي كان يمر بها. وكان من أهم هذه المهام شراء شرشف سرير لسعاد والقيام بتصليح دراجته، وطول الطريق ألفى حارث نفسه غارقا في التفكير بينما وجد الشمس تسكب نارا على وجه الأرض وتلسع ألسنتها وجوه الناس، ولما وصل المكتب كان يتصبب عرقا.
سألت سعاد بصوت عالٍ بعد أن رنّ جرس الباب: "من هناك ...؟" ولما لم تجد أي رد على استفسارها، توجهت نحو الباب وهي تتمتم في نفسها، وفي الواقع، تعودت عقب مغادرة حارث البيت على تزجية وقتها في الترفيه والتسلية عن نفسها بمشاهدة المسلسات التلفزيونية المفضلة لديها، ولذلك لم يعجبها رنين الجرس وهذا التدخل المفاجئ، وكررت سؤالها؛ من بالباب؟ ثم فتحت الباب.
نكهة! ...أنت...؟''
عند رؤية ابنة عمها وصديقة طفولتها "نكهة" أمامها وذلك بعد سنوات عديدة، تفاجأت سعاد واعتنقتها بحرارة.
قالت نكهة معربة عن إحراجها المصطنع: "اسمحي لي بالدخول أولاً يا سعاد".
طرحت سعاد عدة أسئلة دون تمهل أثناء جلوسها في غرفة الصالون سائلة من نكهة: "متى أتيت من أميركا؟ أين الأخ خالد؟ لماذا لم تخبريني قبل مجيئك هنا؟"
أجابته نكهة قائلة: "مهلا مهلا! سأخبرك بكل شيء، لا تقلقي، لكن احضري لي أولاً كوباً من الشراب الحلو البارد حتى أتمكن من تحمل أشعة الشمس الحارقة والطقس الحار هنا".
"نعم نعم! لم لا! سأحضر لك شراباً حالاً".
ولطالما اعتبرت سعاد الذهاب إلى المطبخ في الطقس الحار عقاباً لها، إلا أنها بدت اليوم سعيدة، ولذلك لم تقم بتحضير الشراب فقط بل قامت أيضا بقلي لحم الأضاحي جاءها من منزل والدتها، ورأت أن حرارة الجو الحار لا تهم شيئاً أمام دفء اللقاء مع صديقة طفولتها.
وبعد مرور بعض الوقت تبسطت الصديقتان في الكلام، وانغمستا في الحديث، وبدأتا تضحكان وهما تتذكران اللحظات السعيدة التي أمضتاها معاً في الأيام الماضية بينما تتناولان الشراب الحلو البارد والكباب اللذيذ الساخن.
سألت نكهة لسعاد خلال الحديث "ماذا يفعل الأخ حارث هذه الأيام؟"
أجابت سعاد قائلة: "هو يعمل كمشغل الحاسوب في شركة".
فوجئت نكهة بهذا الجواب، فاندفعت تسأل: "شقيقنا حارث المثقف، مهندس البرمجيات يعمل هذا العمل البسيط؟"
وصارحته سعاد قائلة: "نعم يا أختي! لكن ماذا يمكن للناس أن يفعلوه، وأنت تعلمين جيدا بالمشاكل التي يواجها الناس في الحصول على الوظائف في بلدنا؟ ولكن بحمد الله يكفي لنا مما يكسبه حارث من المال وسيزداد راتبه بثلاثة آلاف روبية اعتباراً من الشهر المقبل إن شاء الله."
"ماذا... ثلاثة آلاف فقط...؟" تساءلت نكهة دون كلفة، وبما أن راتب زوجها كان عدة آلاف روبية، فإن مبلغ ثلاثة آلاف روبية كان يبدو ضئيلا جدًا بالنسبة لها، وبالمناسبة، رأت وجه سعاد اصفر لونه، فتداركت الوضع وغيرت مسار الكلام قائلة:
"أصلا أقصد أن مبلغ ثلاثة آلاف روبية ليس قليلا، قولي للأخ حارث يستمر في عمله، وحتما سيجلب هذا المبلغ البركة له بإذن الله".
"إن شاء الله..." ردت سعاد أيضًا على مشاعر نكهة الطيبة، وقد بدا كلاهما غارقا مرة أخرى في ذكرياتهما الماضية الجميلة.
ورأى حارث أن الشمس لم تهدأ حرارتها منذ الثلاثة الأسابيع الماضية، وكعادته في بقية الأيام كان يتصبب عرقا لدى وصوله إلى مكتبه اليوم، ولذا خلع خوذته الثقيلة من رأسه، و ألقى السترة التي تقيه من الغبار أيضا، وقد خطر بباله أن يتخلص من ربطة العنق المعلقة مثل حبل المشنقة حول رقبته، لكنه اضطر إلى إبقائها من أجل القواعد المكتبية والبروتوكولات الرسمية. وما إن جلس على مقعده حتى طلبه مدير الشركة ليتحدث إليه في أمر.
"يا لها من مصيبة." تمتم حارث في نفسه، بينما اختلجت في رأسه أفكار عديدة، وشعر داخل نفسه أن حرارة الشمس القاسية وأمر طلبه من قبل المدير قد عكّر صفو حياته تماما.
ولما ذهب حارث إلى مكتب المدير، أجلسه على كرسي في غرفته، وبشر لحارث بنبرة هادئة ولطيفة قائلا:
"السيد حارث! نحن سعداء جدًا بأدائك الممتاز، ولذا قررنا زيادة في راتبك بثلاثة آلاف روبية اعتباراً من هذا الشهر. ونأمل أن تستمر في تقديم خدماتك للشركة وإسهاماتك وبمواظبتك وتفانيك في العمل".
أما بالنسبة لحارث، فقد أتت كلمات المدير مثل موجة ريح باردة بعد أيام قضاها في معاناة وقلق كبيرين، أنسته المشاق التي تحملها أثناء قيادته للدراجة النارية في الحر الشديد في عزّ النهار.
وجاشت بصدر حارث موجة فرحة بالغة فانبرى يشكر المدير قائلا: "شكرا جزيلا يا سيدي الكريم! سأعمل بجد لصالحكم وصالح الشركة في كل حين وآن بإذن الله، و نهض وتقدم إلى المدير وصافحه بإخلاص ثم عاد إلى مقعده.
وتملكته مشاعر فرحة كبيرة، وأحس بطمأنينة كان ينشدها منذ أيام مضت، وشعر بموجات الهدوء والطمأنينة تسري داخل نفسه، وتجري في أعماقه مجرى الدم، ولم يبق له إلا أن يسرع في العودة إلى بيته ويخبر سعاد بذلك.
ورأى أن الجو تغير فجأة، وأضحت السماء ملبدة بالغيوم، وبدأت السماء تمطرا مطرا خفيفا، وهبت ريح باردة تحمل رائحة التربة المبللة بعد أيام من الجفاف القاسي، بينما أنهى حارث ساعات عمله المكتبية وركب دراجته عائدا إلى بيته، وهو يمر بالطرق التي رشتها مياه الأمطار، ويستمتع بمناظر الأشجار الخضراء والبيئة النظيفة.
وسعاد بنفسها كانت تنتظر لحارث بفارغ الصبر، واستطابت فرصة هطول المطر وشغلت نفسها في تجهيز الباكورا والشاي.
بينما كانت منشغلة في قلي الباكورا، إذ طرق شخص على الباب بشدة.
"من يطرق الباب بشدة هكذا؟"، أرادت سعاد أن تقول هذه الجملة وهي تفتح الباب، لكن كلماتها بقيت في فمها لأن طفل الجارة الذي طرق الباب سبقها قائلا وهو يلهث:
"يا عمتي! "تعرّض العم حارث لحادث وهو مستلق على الطريق أمام بيتنا"
"ماذا...كيف هكذا.... أيما حدث.... ولماذا؟" ولم يكن بوسعها أن تتحدث أكثر.
شعرت سعاد بأن الأرض تنهار تحت قدميها، وركضت صوب الشارع العام القريب من منزلها. وكان المشهد الذي رأته ملأت قلبه بأنوع القلق والخوف والاضطراب. وكان الناس يتناقلون فيما بينهم أن سائق الدراجة النارية المسرعة ربما استخدم الفرامل الأمامية تفاديا الاصطدام بالشاحنة القادمة من الاتجاه المخالف، وبما أن الطريق كانت مبللة فإنه لم يتمكن من الحفاظ على توازنه فسقط واصطدم مع الشاحنة المارة. وكان الرجال الموجودون يتهامسون فيما بينهم، لكن سعاد لم تلق بالا لما كانت ألسنة الناس تتناقله، وشعرت كأنها تحترق بداخلها في وسط صحراء حارة تحت أشعة الشمس الحارقة، ولم يكن هناك سوى صوت صفعات حروق الشمس الذي يصدح ويرن في أذنيها.
وجاءت سيارة الإسعاف على الفور لتأخذ حارث المصاب بجروح شديدة إلى المستشفى الذي كان يقع بالقرب من موقع الحادث لحسن الحظ، وأجريت عملية جراحية عليه على الفور التي استغرقت خمس ساعات...كانت سعاد في هذه الساعات تبتهل إلى الله أشد الابتهال لينقذ حياة زوجه...فلن تتصور الحياة بدونه، وأقسمت بأن الله إذا أنقذه وشفاه فلن تشكو أبدا مما تعانيه من الضيق المالي وستشكر الله في السراء والضراء.
وبلغ الخبر إلى مدير الشركة الذي أسرع إلى المستشفى وطمأن زوجة حارث بأنه سيكون كل خير بإذن الله وإن الشركة سوف تتحمل نفقات علاجه، وسوف تدفع له الراتب مادام يخضع للعلاج فهو موظف محترم ومخلص للشركة.
وانتهت ساعات الانتظار الثقيلة جداً على سعاد، يا لها من ساعات ثقيلة مثل القيامة الكبرى...خرج الطبيب من غرفة العملية وقال: بشرى لكم...إنها معجزة. لقد أنقذه الله بمنه وفضله غير أن إصاباته كانت خطيرة جدا، فلنحمد الله.
وعاد حارث إلى بيته بعد أسبوع، وبعد شهر شفي كاملا...وتغيرت حياة سعاد تماما...من زوجة شاكية باكية إلى زوجة صابرة شاكرة قنوعة محتسبة...وعاد حارث إلى عمله وسط تصفيق حار من مديره وزملائه الذين ساندوه أثناء علاجه خير مساندة.
۞۞۞