كان المجذاف قد اصطدم بشيءٍ صلبٍ وأنا أغرزه لأدفع المشحوف الى الأمام في عمق الهور.. كنت أدفع بالمجذاف أو ما نسمّيه المرْدي الذي يصل طوله ربما ثلثي عصا لاعب الزانة بهدوء من يريد سبر غور ما يراه أمامه من عالمٍ غريب.. كان الماء قد نشف من الهور وصارت أعماقه لا تُعطي صدراً للماء بقدر ما تمنح رائحةً زنخةً كأنها تحمل في روحها رائحة الأسماك النافقة أو حتى الحيوانات التي تركها أهالي الأهوار ونزحوا الى المدن.. لم يكن انغراز عصا المردي طبيعياً كما هي في المسافات التي قطعتها حتى وصلت الى حافات أهوارٍ أخرى تطلّ على مدينة العمارة.. بل شعرت به وكأنه ينزل الى منطقةٍ عميقةٍ ويصطدم بكتلةٍ صخريةٍ، جعلتني أتوقف لمسافةٍ وأعود الى ذات المكان، لأدفع عصا المردي من جديدٍ وأتأكّد من أن المردي لم يكذب، وأعيد ضرب القاع بحافة العصا عدة مرات كمن يختبر سمعه وردة فعل الضربة على ذراعه.
للحظةٍ شعرت بخوفٍ حين ترتد العصا ومعها رنينٌ يجعل من عضلة يدي ترتجف مصعوقةً باهتزازٍ غريبٍ مثل ذاك الذي تخلّفه صعقةٌ كهربائيةٌ خفيفة.. كنت وحدي أظلّل القداسة التي هيمنت على تفكيري، في البحث عن نقطة الضوء، محاولاً البحث عن قبضة طينٍ تحكي لي إن الماء أصيل هنا وأنه يخفي ما انْفقد من أسطورةٍ ظلّت هي المهيمنة على الحكايات الخرافية كما يسميها أبي.
مرّة قال لي: صرت مهووساً بالأسطورة وأخاف عليك من الجنون.
وراح يكيل الشتائم لجلجامش الذي سمعه مني وكأنني أردّد أحد الشياطين، حين ذكرت له إنه أقدم من نوحٍ وأنه كان ابن إلهٍ وإنه هو الإله عند البعض ويقال ان نصفه بشر والنصف الآخر إله.. صرخ بوجهي أن أصمت واستغفر الله لأن ما أقوله هو الكفر.
لم يكن قول أبي مصادفةً تقبض روحها وأنا أشقّ بقايا القصب الأخضر في عرض الهور.. بل كان يلاحقني كلّما رحت الى العمق البعيد في المدى المندفع من المشحوف الغاطس في الماء، ومقدّمته تنفتح باتجاهي اليمين واليسار مثلما كان ينفتح حين أدفعه بذراعي وأنا أسبح في نهر الفرات بالقرب من جسر الحديدي في مدينة سوق الشيوخ.
****
كنت مشغولاً بما يدور في رأسي من أنني سأكون المنقّب والعاثر على الأثمن مما ضاع من أسطورة ملحمة جلجامش.. اختارني القدر أن أكون من يكمل ما نقص من الملحمة التي لا يعرف العالم أين اللوح المفقود وها أنا يختارني القدر لأخترق هذا العالم المخيف الممتد بين مدن الجنوب لأتحرّك دون مبالاةٍ بما يمكن أن يخيفني متسلّحاً بالقوة والإصرار. كنت أرى القاع.. وبقايا سيقان القصب الباحثة عن جذورها.. وثمة ديدانٌ وحيدةٌ تتحرّك بين بقايا أوراقٍ ساقطةٍ أو جذورٍ مقطوعةٍ.. فخفت ألّا تكون هناك أفعى الهور العملاقة التي تخيف كل شيء والتي قال عنها أبي إنها التي أكلت كلّ الحيوانات والبشر بعد أن تم تنشف الهور في الحرب مع إيران.. كل شيء أمامي واضحا إلّا الحفرة التي نزلت فيها عصا المردي الذي عدت من جديد أضربها من جديدٍ لثلاث مرّاتٍ وكانت ردّة الفعل هي ذاتها.. الارتطام بشيءٍ قوي.. صخرة أو قطعة حديد ربما على شكل صندوقٍ.. كان شيء ما يسري من العصا الى يدي الى جسدي كلّه ولا ينتهي إلّا بعد أن أرفع العصا الى الأعلى.. وتذكّرت تحذيرات أبي وتخيّلت إن العربيد الذي تحدّث عنه سيخرج لي فانتفخت روحي رعباً حتى إني كدت أتراجع عن مهمتي في الإبحار وحيداً في الأعماق لتحقيق رؤية جاءتني من جلجامش وانكيدو من إنهما مرّا هنا في رحلة العودة بعد المواجهة مع خمبابا وبعد أن احتسيا الشراب في حانة سيدوري.
في ليلتها كنت منبهراً بما أسمعه عن الحكاية التي تحوّلت الى ملحمة.. وكان صوت جلجامش يجعلني أهتزّ بين ذبذبات مكهربةٍ وهو يسألني عن سرّ اهتمامي بالملحمة، وحين أخبرته من أني توصّلت الى إن ما نعانيه اليوم سببه تلك الحقب التي استغلّت الانسان.. سمعت ضحكته القوية حتى تخيلت أنى البيت سيسقط وان ابي سيستيقظ ويتّهمني الكفر الإلحاد من جديد.. وسمعت أنكيدو يقول.. وهل اكتملت معرفتك أو نبوءتك؟ لم أجد جواباً.. لكن جلجامش وهو يشير الى أن الحكاية لم تنته بعد، راح يحدّثني عن لوحٍ سقط من سفينتهم المصنوعة من قصب البردي، مكتوب فيه ما آلت إليه الأمور بل مكتوبٌ فيه ما يتوقّعه من مصيرٍ للعالم.. وحين سألته عن الرؤية.. قال عليك بالبحث أن أخذت سير طلوع الشمس امام عينيك.. وقال جملته التي ثقبت رأسي وجعلتني افز مرعوبا من النوم: في المياه دائما هناك حياة وفي بطن الماء ما يسكن من الأسرار وهناك في الهور ستجد ما لم يجده أحدٌ قبلك.
***
كان حيزوم المشحوف قد ارتفع قليلاً حيث انحدر باتجاه الماء فأحدث فوضى الارتباك من شيءٍ نابتٍ في الأرض.. وحين أمعنت النظر وجدت عصا المردي تنزل الى عمقٍ أكثر من عمق الماء الذي أدفعه وكأن حفرةً صغيرةً في القاع المستوي كانت بمحيط لا يتعد المترين.. لم أزل خائفاً ولا حركةً سوى إعادة غرز العصا حول المكان الذين شعرت بحرارةٍ كبيرةٍ تخرج منه وتلفح وجهي دون أن تكون هناك حركةٌ غريبة.. كانت العصا تنزل بحدود المتر في الأماكن العادية وحين أضغط أكثر فإن قلا من نهاية العصا تنزل ليندفع المشحوف فأرى ظلّي يتحرّك.. ولكن حين أغرز العصا في المكان الصخري كما شئت أن أسمه فإن أكثر من مترين ونصف المتر تنزل العصا وتتحرّك سورة الماء في دائرة الحفرة وأشعر بحرارةٍ ساخنةٍ تخرج ولا أرى لظلّي هدوءاً بل أجده يتصاعد هسيساً الى الأعلى. فتساءلت.. هل حقا هذا عمق الهور؟
قال لي أبي محذراً إياي من الذهاب الى هناك بحجّة إن الهور الآن بلا حياة هجرته الطيور عافته الحيوانات ولم يعد للأبقار والجاموس مكاناً، كل شيء انحسر حتى الماء.. ولكنه وهو يداعب حبّات مسبحته السوداء بين راحتيه كمن يريد أن يطلق العنان لغنائه الريفي المدغم بالأنين قال: على زماننا قبل أن ينحسر الماء عن الحياة كان المردي الذي طوله ثلاثة أمتار لا يصل الى القاع والذي يغرق في بعض السورات لا يمكن انقاذه لان الطناطل والعرابيد تأكله.
كنت أضحك في سرّي عن العقل الباطن لأبي إذا ما ذكرت له إن التاريخ نقل لنا أساطير الأولين وحكاياتهم ومنهم جلجامش وجماعته وإن هناك ألواحاً هي بمثابة الكتب في الوقت الراهن سجّلوا فيها حركتهم وبطولاتهم.
***
لا أدري للحظةٍ تخيّلت طنطلاً كبيراً جدا يصل رأسه الى السماء يخرج لي من بطن الحفرة العميقة.. كان يشتعل ناراً ويفتح شدقيه ويمدّ ذراعين من شرر.. صورة انتابتني من حكايات أبي ومن تلك المشاهد التي ينتجها أصحاب الأفلام السينمائية المرعبة.. ضحكت وغرزت عصا المردي في الحفرة لأتأكد للمرّة العاشرة ربما كم يبلغ عمق الحفرة.. وحالما أغمضت عيني وأنا ألتقط الأنفاس، أطلّ جلجامش برأسه المنفوش الشعر الذي يصل الى أسفل كتفيه وملابسه المصنوعة من الجلد والتي لا تغطي ركبتيه يهزّ المشحوف ويرفع كفّاً أكبر من وجهي ويشير لي بأصبعٍ مدوّرٍ بحجم دائرة العصا التي أمسكها بلفّ كلّ راحتي حولها.. وأسمعه يقول: ابق هنا.. هنا ضالتك.. لقد وصلت الى المكان الذي لا أحد يعرفه منذ آلاف السنين.. هنا دفن مدوّن الاسطورة لوحنا المفقود بعد أن أمرناه أن يوزّع الألواح على الأرض.
كنت مشدوها وأنا أسمع بشكلٍ واضحٍ صوت جلجامش، ولم أكن مثل تلك الأفكار التي دوّنت فيها قصصي متخيّلاً الأحداث ومسترسلاً بربطها.. إن الهور هو العالم الأول الذي هبط عليه آدم..
سمعت: إياك إن تخبر أحداً.. ستنزل عليك لعنتنا، لم يحن بعد الكشف عن اللوح المفقود.. لم أفهم منه شيئاً ورجوته أن يتحدّث أكثر، وشعرت بحركةٍ عنيفةٍ أصابت المشحوف جعلتني اهتزّ يميناً ويساراً حتى كدت أسقط في الماء. فتحت عيني لم أجد في مدى رؤيتي إلّا طيراً وحيداً يشبه طائر النقار، يقف على جذع شجرةٍ يابسةٍ وحيدةٍ، طار حلما رآني أقف ممسكاً بعصا المردي يحلق في السماء بدورتين ليعود موجها منقاره باتجاهي.
***
طردت من رأسي كل الكلام والصور التي تنتابني بل وطردت حتى الطنين الذي أراد الاستقرار في أذني.. نزلت وغطس أكثر من نصف جسدي في الماء، فاندفع المشحوف الى الأمام مسافة مترٍ عن مكان الحفرة.. غرزت العصا في منتصفها وجعلت الشمس في خطٍ مستقيمٍ معها.. رأيت الضوء ينزل الى العمق، وبدأت أدقّ في الحفرة فارتدّ صدىً يشبه الضرب على صخرةٍ جلمود.. ثبّتُّ العصا داخل الحفرة وأمسكت بها بكل قواي ودفعت خوفي.. أخذت نفساً ونزلت الى العمق فاتحاً عيني، وراحت أصابعي تنبش في القاع، فتلمست أشياءً طينيةً وصخرةً صغيرةً أزحتها بقدمي وشعرت بشيءٍ ما ينغرز بأخمص قدمي اليمنى.. وبسرعةٍ أمسكت بشيء ليّنٍ على شكل لفافةٍ مطويةٍ بعنايةٍ في وسطه شيءٌ صلبٌ.
فجأة اهتزّ المكان وانفجرت الحفرة وانبثق الماء بصوتٍ جبّارٍ.. كأن عين ماءٍ خرجت من عمق الهور وقذفتني الى الأعلى مثلما انقذفت العصا معي طائرةً تزيح الهواء لأسقط وسط المشحوف الذي اندفع سريعاً الى عين الشمس التي وجدتها تسقط في الأفق.. وثمة صوتٌ يصرخ بي: ألم أقل لك إيّاك أن تفشي السرّ فتلاحقك لعنتنا.
***
كانت غائباً ربما عن الوعي حين وجدت جسدي وسط المشحوف نائماً على وجهي واللّفافة التي سحبتها من تحت الصخرة في يدي، كانت مصنوعةً من جلد أسدٍ أو نمرٍ مشدودة الأطراف بعنايةٍ حتى لا يدخلها الماء.. فتحتها على ضوء ما يسّاقط من الشمس في الأفق الغربي.. فخرج لي لوحٌ عليه رسومٌ مثل تلك التي وجدتها في المتحف عن الألواح الأحد عشر للملحمة.. ولكني لا أفهم ما مكتوب.
سمعت صوتاً جهوريا خيّل لي أنه يصل الآفاق كلها: هذا هو اللّوح المفقود أيها العنيد.. كتبنا فيه ما يمكن أن نكون عليه في العالم السفلي الذي لم يتخيّل أحدٌ منكم كيف يكون.. إنه نبوءتنا وصراعنا الأزلي والسرّ المدفون دائماً في روح الماء...
لم أسمع بعد شيئاً.. أنقطع الصوت وسمعت حفيف طائرٍ قرب رأسي.. راح ينقر في اللّوح.. كنت خائفاً ومرعوباً أن يحمله بمنقاره ويغيب.. وكان آخر ما سمعته صوت سقوط اللّوح في مياه الأهوار التي دفعتني بعيداً بسرعةٍ رمتني عند حواف المدن العتيقة.