لا تذهبي... أنا آسف
(القصة الفائزة بالجائزة الثالثة في الفئة الأولى، فئة الدكتوراه في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
عادل عفان *
حصل كل من قاسم وعائشة على وثيقة الطلاق اليوم وانصرفا من المحكمة سوياً إلى منزلهما مع أقاربهما، وكانت علامات النصر جلية على وجهَيهما لأن معركة الطلاق وإجراءاته دامت أربع سنوات إلى أن حُسمت القضية اليوم.
لقد مر على زواج قاسم وعائشة عشر سنوات، لكنهما ما بقيا على علاقة بعضهما مع البعض إلا ست سنوات، منها أربع سنوات انقضت في إجراءات الطلاق.
فور خروجهما من المحكمة، أخرجت عائشة من ملفها قائمة بأمتعة المهور التي كان من المقرر أخذها من منزل زوجه السابق، وأما قاسم فأعدّ قائمة من الحلي التي كان من المقرر أخذها من عائشة كي يقوما بتسوية الحساب بأسرع ما يمكن... وأصدرت المحكمة أمرا بأن يدفع قاسم مبلغ مئة ألف روبية إلي عائشة في النفقة الزوجية.
وصل كل من عائشة وقاسم الي منزلهما في سيارة واحدة، ومع أنهما نجحا في الحصول علي الطلاق بتدخل من المحكمة، لماذا لا يرقص قلبهما طربا؟ قد قضي كل منهما أربع سنوات في الجري وراء المحامين في أروقة المحكمة. كان على عائشة أن تحدد الأغراض التي جلبت معها من بيت أبويها في المهر. لهذا السبب كانت ذاهبة إلى منزل زوجها بعد أربع سنوات ولن تأتي مرة أخرى الى هذا البيت بعد تسلم أغراض المهر. ذهب جميع الأقارب إلى منازلهم. ولم يبق سوى ثلاثة، عائشة ووالدتها وقاسم.
وكان قاسم يعيش وحده في المنزل بعد الانفصال من عائشة ولا يزال الآباء والإخوة يعيشون في القرية. سيبقى الابن الوحيد لهما مع عائشة حتى يبلغ سن الرشد وفقًا لقرار المحكمة. ويحق لقاسم أن يقابله مرة واحدة في كل شهر.
أصبحت الذكريات القديمة تتجدد في مخيلتها بمجرد دخولها المنزل الذي قامت عائشة بتزيينه بجهد كبير. كل شيء كان بُني أمام عينيها فقد شاهدت منزلهما يتحوّل من كوخ إلي بيت رائع، وكان منزلهما شيئاً من أحلامها الجميلة. فقد حقق قاسم حلمها بشغف كبير وجهد جهيد.
استلقى قاسم على الأريكة متعبًا بمجرد دخوله المنزل وقال لها بلطف "خذي ما شئت فلن أمنعك من أي شيء".
ألقت عائشة نظرة إلى قاسم بعناية. كم تغير كل شيء فيه خلال هذه السنوات الأربع الماضية. فقد لاح الشيب في شعره ولحيته، ونحل جسمه فلم يبق منه إلا نصفه واختفى ماء الوجه وبريقه.
توجهت عائشة إلى المخزن حيث وُضعت أمتعة مهورها. وكانت الأمتعة قديمة الطراز، لذا تم وضعها في المخزن مثل الخردة. كم حصل من المهر؟ وكان لهما زواج حب وقد اتفق أفراد الأسرة على زواجهما على كره ومضضٍ.
كان زواج الحب شيئاً غير مألوف، ينظر له المجتمع نظرة شك وريبة في دوامه، فيترقب الناس سماع خبر الافتراق أو الانفصال في حالات زواج الحب.
صفع قاسم عائشة مرة على أمر تافه بعد أن خسر وظيفته في زمن جائحة كورونا في حالة من التوتر النفسي، فذهبت عائشة إلى منزل امها في حالة غضب واحتقان. ثم بدأت المنازعات بينهما واشتدت، وانقلبت الأسرتان إلى خصمين، شقيق قاسم وزوجته من جانب ووالدة عائشة من جانب آخر حتى رُفعت القضية إلى المحكمة وتم الطلاق بعد أربع سنوات من المقاضاة في المحكمة. فلم ترجع عائشة الي منزل زوجها ولم يذهب قاسم لأخذها وحال بينهما "الأنا"كالسد العالي.
قالت والدة عائشة "أين أغراضك؟ إنها غير موجودة هنا. لا بد أن باعها هذا الرجل الوقح؟"
"اسكتي يا أمي"
لا أعرف لماذا لم تحب عائشة وصف قاسم بالوقح.
ثم بدأت عملية رفع الأغراض الموجودة في المخزن حسب القائمة واحدة تلو الأخرى، ورفعت الأشياء من باقي الغرف، وبعد أن تأكدت عائشة من أخذ جميع أغراضها سلمت عائشة الحقيبة المليئة بالحلي إلى قاسم.
لكن قاسم أعاد الحقيبة إليها وقال احتفظي بها فلا أريدها، فقد تحتاجين لها عند المصيبة." وقيمة الحلي لا تقل عن مليون روبية.
"لماذا ، كم مرة كان محاميك يصرخ بالحلي في المحكمة"
"قضية المحكمة انتهت في المحكمة يا عائشة، حتى أنت أثبت بأنني وقح وأسوأ حيوان في العالم."
صرخت والدة عائشة عليه عند سماع هذا.
"لا نريد ولا نحتاج إلى الحلي ولو كانت قيمتها مليوناً."
"لماذا؟" قاله قاسم قائماً من الأريكة.
"تمامًا هكذا" استدارت عائشة بعيداً.
"كيف تقضين بقية حياتك؟ خذيها، إنها ستكون مفيدة لك".
استدار قاسم أيضًا قائلا هذا، وذهب إلى غرفة أخرى. ربما كان يحاول إخفاء دموعه.
كانت والدة عائشة مشغولة بالاتصال بسائق السيارة.
نالت عائشة الفرصة فاتجهت إلى تلك الغرفة التي كان فيها قاسم جالسا على الكرسي وكان يبكي ويحاول أن يقمع الطوفان الهائج والمائج في قلبه. لم تره عائشة يبكي قط فأحست في نفسها بالتعاطف نحوه، لكنها لم تنجرف في تيار العاطفية.
قال بصرامة: إذا كنت قلقة، فلماذا طلقتني؟
"أنا لم أطلقك"
"لقد قمتِ بالتوقيع على وثيقة الطلاق أيضًا"
"ألا يمكنكَ الاعتذار؟"
متى منحت عائلتكِ الفرصة؟ كلما حاولت الاتصال بك هاتفيا لم أتمكن من مكالمتك.
ألم يمكن أن تأتي إلى منزل أمي؟
لم أكن قادرا على ذلك.
جاءت والدة عائشة فأمسكت بيدها وأخذتها إلى الخارج. "لماذا تنظرين إليه الآن؟ ألم تنته العلاقة الآن؟
فبدأت تنتظر الوالدة وابنتها السيارة خارج المنزل وعائشة كانت تنظر إلى السماء وتتخيل إلى أين تتجه الحياة بعد اليوم، وبدأ يخفق قلبها بشدة ويرتعش كل عضو من أعضاءها كأن عظامها تتكسر وتتألم وكادت أن يغمي عليها من شدة الهلع والقلق...
في ذلك الحين ألقت نظرها على الأريكة التي كانت تجلس عليها. كيف اشترت هي وقاسم تلك الأريكة بعد بحث طويل عنها. لقد أعجبت بها عندما كانت تتجول في المدينة بأكملها لاقتناء تلك الأريكة.
ثم اتجهت عيناها إلى نبات الريحان الجاف أمامها. وكانت تعتني بتلك الشجرة كثيرا. كما أنها غادرت المنزل غادر نبات الريحان معها.
عندما ازداد الذعر والخوف قامت من مكانها ودخلت الغرفة فمنعت الأم من الخلف لكنها تجاهلت. وكان قاسم مستلقيًا على السرير، فشعرت بالشفقة عليه مرة أخرى ولكنها رأت أن كل شيء قد انتهى الآن، لذا يجب عليها ألا تكون عاطفية تجاهه.
أدارت نظرها حول الغرفة فقد أصبحت الغرفة بأكملها فوضوية، وكانت جميع الأغراض مرمية على الأرض منثورة في جميع الأطراف وكانت خيوط العنكبوت تتدلى في كل زاوية. فكم كرهت شبكات العنكبوت، ولم يمر عليه يوم إلا ونظفت الغرفة بكل شوق وعناية.
ثم نظرت إلى الصورة المعلقة على الجدار المغطاة بالغبار فأخذتها بيدها ومررت يدها على الصورة حتى لاحت صورة لهما لحفل الزفاف وهي تعانق قاسم فلم تستطع أن تمنع جفونها من الامتلاء بالدموع وأصبحت الصورة ضبابية مما دفعتها الى أن تجدد الذكريات الجميلة وخاصة عندما كان يعود من المكتب في المساء كانت تحضر القهوة له ليشرب معها كل يوم.، يا لها من أيام جميلة، ليتها تعود.
بعد قليلٍ جاءت الأم مرة أخرى وأمسكت بيدها وأخذتها إلى الخارج لان السيارة كانت تنتظر لهما.
تم تحميل البضائع في السيارة وشغل السائق سيارته فجلست عائشة مع أمها وعيناها مركزتان على المنزل كأنها تتفقد شخصا كان يودعها كل يوم عندما تخرج من المنزل.. وأما قاسم فكان قلبه يخفق بسرعة وتنهمر دموعه حتى أن سمع صوت السيارة فقام من مجلسه وخرج من منزله مسرعا حتى وقف أمام السيارة..
فجأة جلس قاسم على ركبتيه ممسكًا أذنيه.
وقال - "لا تذهبي، أنا آسف"
ربما كانت هذه هي الكلمات التي كانت تنتظر عائشة لسماعها منذ أربع سنوات. فتحطمت سدود الصبر وتدفقت مياه عينيها المتجمعة والمتلاطمة في لحظة واحدة كما تتدفق مياه السدود والأنهار الفائضة، ولم تلبث إلا وأن أخرجت ورقة قرار المحكمة ومزقتها قبل أن تقول والدتها شيئا رمت بنفسها في أحضانه وانفجر كل منهما باكيين من شدة الولع والشوق في القلبين.
وفي السماء تجمعت السحب ورعدت وبدأت تمطر بوابل من المطر الغزير، فاجتمعت مياه العيون بمياه المطر، وأيهما أغزر يا ترى؟ كأن السماء وافقت على لقائهما من جديد.
وقفت والدة عائشة على بعد عنهما، وبكت من شدة الفرح إذ رأت ابنتها في فرح شديد بعد أربع سنوات من المعاناة والبكاء، أما ورقة المحكمة فلا قيمة لها أمام المشاعر الحقيقية، وبدأت تندم على سلوكها من ابنتها وزوج ابنتها..... يا ليتها لم تحل دون علاقتهما، إن كان الاعتذار يمكنه أن ينقذ علاقة من الخراب فلابد من الاعتذار قبل فوات الأوان.
**********
* باحث الدكتوراه، المركز الثقافي العربي الهندي، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، الهند.