قصة: التفاح الأحمر الحزين
بقلم: ميَّادة مهنَّا سليمان/ سوريا
رَنَّ جَرَسُ الحِصَّةِ الأخيرَةِ، فَفَرِحَ طُلَّابُ الصَّفِّ الرَّابعِ بِدُخُولِ مُعَلِّمَةِ الرَّسمِ، وَبَدؤوا يُخرِجونَ دَفَاتِرَهُم، وألوَانَهُم بِحَمَاسٍ كَبيرٍ.
بعدَ أنْ ألقَتِ المُعَلِّمةُ التَّحِيَّةَ علَيهِم، قَالَتْ لَهُم:
أُرِيدُ مِنكُمُ اليَومَ أنْ تَرسُموا لِي أشيَاءَ فَقَدتُموهَا، أو أخَذَهَا أحدٌ مِنكُم، ولمْ تَستَطِيعوا نِسيَانَها، ثُمَّ رَفعَتْ وَرَقةً، وَقَالَتْ:
رَسَمتُ لَكُم سِلسِلَتِي الذَّهبيَّةَ الَّتِي فَقَدتُها العَامَ المَاضِي، وأشعُرُ بِالحُزنِ حِينَ أذكُرُها، لِأنَّها هَدِيَّةٌ مِنْ أُمِّي رَحِمَهَا اللهُ. بَاشِروا الرَّسْمَ الآنَ، وَأرُونِي إبدَاعَاتِكُم.
بَدَأَ الأَطفَالُ يَرسُمونَ، وَكَانَتِ المُعَلِّمَةُ تُرَاقِبُ وجُوهَهُمْ، وَأنَامِلَهُمُ الطَّرِيَّةَ، وَهِيَ تُلَوِّنُ. بَعدَ بِضعِ دَقَائِقَ نَادَتْ لانا المُعلِّمَةَ، كَي تَرَى مَا رَسَمَتْ. وقَفَتِ المُعَلِّمَةُ قُربَهَا، وَسَألَتهَا:
ما هذِهِ الشَّتلَةُ اليَابِسَةُ يَا لانا؟
رَدَّتْ لانا بِأسىً:
إنَّها شتلةُ النَّرجِسِ الَّتي أُحِبُّها، لقدْ ذبُلَتْ، ومَاتَتْ!
رَبَّتَتِ المُعَلِّمَةُ عَلَى رَأسِهَا، وقَالَتْ:
لا تَحزَنِي، إنَّها ستَعِيشُ مُجدَّدَاً فِي آذَارَ المُقبِلَ، فَنَحنُ فِي فَصلِ الشِّتَاءِ، وَهَذَا الفَصلُ لَا يُناسِبُ ورودَ النَّرجِسِ، هَيَّا ارسُمِي بِجانِبِهَا شَتلَةً خَضَرَاءَ مُتَفَتِّحَةً، وَافرَحِي.
ابتَسَمَتْ لانا، وعاوَدتِ الرَّسمَ بِحَماسٍ.
لاحَظَتِ المُعَلِّمَةُ أنَّ مُحَمَّدَاً أنهَى الرَّسمَ، فاقتَربَتْ مِنهُ، وَسَألَتهُ:
حَدِّثنِي عَنْ هَذِهِ الكُرَةِ يَا بُنيَّ!
قالَ مُحَمَّدٌ:
إنَّها هَدِيَّةٌ مِنْ أبي، وَلَكِنِّي لَعِبتُ يومَ الجُمُعةِ بِهَا فِي الصَّالةِ، فكَسَرتُ التُّحفَةَ المُفَضَّلةَ لَدَى أبي، لقدْ غَضِبَ كثيرًا، وَبَّخَني، ثُمَّ حَرَمَنِي مِنهَا!
آهٍ، لَقَدْ كَانَتْ كُرَةً زَرقَاءَ جَمِيلَةً!
ابتَسَمتِ المُعلِّمةُ، وقالَتْ لهُ:
هلِ اعتَذَرَتَ مِنْ أَبِيكَ؟
قالَ مُحمَّدٌ: لا!
قالتِ المُعلِّمَةُ: حِينَ تَعودُ، اعتَذِرْ، وَعِدْهُ بِألَّا تَلعَبَ بِهَا فِي المنزِلِ، بلْ فِي الملعَبِ مَع رِفاقِكَ، وَبِالتَّأكيدِ سَيُعيدُها إلَيكَ.
تَفاءَلَ مُحمَّدٌ بِكلامِ مُعلِّمتِهِ، وشَرَعَ يُلَوِّنُ الكُرَةَ بِاللونِ الأزرَقِ.
التَفَتَتِ المُعلِّمةُ، فَإذْ بنورَا قدْ أنهتِ التَّلوينَ، فَسَألَتهَا المُعلِّمةُ:
يا لَجَمَالِ هَذَا الثَّوبِ يا نورَا، هلْ أضَعتِهِ؟
رَدَّتْ نورَا بِأسَىً:
لا، لَكِنِّي خَسِرتُهُ، لقدْ أعطَتهُ أُمِّي لِابنَةِ جِيرَانِنا، وقَالَتْ لِي:
لدَيكِ أثوَابٌ كَثِيرَةٌ، ورامَا طِفلَةٌ يَتِيمَةٌ!
احتَضَنَتها المُعَلِّمةُ، ومسَحَتْ دَمعَةً سَالَتْ علَى خَدِّها،وقالتْ:
يَا حَبيبَتي، لمْ تَخسَري أبدَاً، أنتِ لا تَعلَمينَ كمِ اللهُ يُحِبُّ الأشخَاصَ الَّذينَ يُسَاعِدونَ الآخَرِينَ!
أنتِ بإعطَاءِ ثَوبِكِ لِرَامَا، تَفوزِينَ بِمَحبَّةِ اللهِ.
ابتسَمتْ نُورا، ووعدَتِ المعلِّمةَ ألَّا تبكِيَ، وَرَسَمَتْ بِجَانبِ الثَّوبِ قَلباً كَبيرَاً،وكتبَتْ بِدَاخِلِهِ: (اللهُ يُحِبُّني!)
في هذهِ الأثناءِ قَالَ عُمَرٌ لِلمُعلِّمةِ:
لقَدِ انتَهيتُ!
وَسَارَعَ في شَرحِ ما رَسَمَهُ قائلًا:
هَذِهِ سَاعَتِي، هَدِيَّةٌ مِن عَمِّيَ المُسَافِرِ، لقدْ وضَعْتُها آخِرَ مَرَّةٍ في خِزَانتِي، ولَكِنِّي لمْ أجِدْها بَعدَ يَومَينِ!
قالتِ المعلِّمةُ: هلْ خِزَانتُكَ مُرتَّبَةٌ؟
طَأَطَأَ عُمَرٌ رَأسَهُ، وهمَسَ: لا!
هزَّتِ المُعلِّمةُ رَأسَها، وَقَالتْ:
رَتِّبْها يا صَغيري، فَالفَوضَى سَببٌ مِن أسبَابِ ضَيَاعِ الأشيَاءِ!
وَعَدَ عُمَرٌ معلِّمَتَهُ بتَرتِيبِ خِزَانَتِهِ فورَ عودَتِهِ، وكتَبَ بِجَانِبِ سَاعَتِهِ:
(سَأرتِّبُ خِزَانتِي، كي أجدَ سَاعَتِي!)
ضَحِكَتْ أروى الَّتِي كانتْ تَجلِسُ قُربَهُ، وقالتْ:
انظُري ما ذَا رَسمتُ يا مُعَلِّمَتي!
قَالَتِ المُعلِّمَةُ:
مِعطَفٌ وَردِيٌّ جَمِيلٌ، ولكِنْ مَا هَذِهِ الدَّائرةُ السَّوداءُ فِي أسفَلِهِ؟
قالتْ أروى:
لقدْ حَاولتُ إشعَالَ المِدفَأةِ، فَسَقَطَ عودُ الثِّقابِ عَلَيهِ، واحتَرقَ قَلِيلًا!
قالتِ المُعلِّمَةُ:
لا يَجوزُ أبدَاً يا أروى أنْ تُشعِلي أعوادَ الثِّقابِ، أوِالغازَ، واحمدِي اللهَ أنَّ المِعطفَ الَّذي احتَرقَ، وليسَتْ يَدَكِ.
هزَّتْ أروى رَأسَها، وَكَتَبَتْ قُربَ المِعطَفِ:
(لنْ ألعَبَ بِالنَّارِ أبَدَاً!)
وَهُنا قالَ ثَائرٌ: مُعلِّمتي، لقدِ انتَهَيتُ!
تحَمَّسَتِ المُعلِّمةُ كَثيرَاً، فَثَائرٌ يرسُمُ بِبراعةٍ، وهوَ الأوَّلُ دَومًا على صَفِّهِ.
نَظَرَتِ المُعلِّمةُ، وقالَتْ:
يا لَجَمالِ هذا البُستانِ، ولكنْ لِمَ وضَعتَ هذا السُّورَ الشَّائكَ؟
ولِمَ رَسَمْتَ علَى التُّفَّاحَاتِ عينَينِ مُغمَضَتَينِ، وَفَماً حزِيناً؟
قَالَ ثَائرٌ: هذا ليسَ بُستاناً، إنَّهُ الجَولانُ المُحتَلُّ، هذهِ الأسلاكُ الشَّائِكةُ وضَعَها العدوُّ الغاصِبُ، وهذا التُّفَّاحُ حزِينٌ، لِأنَّ العَدوَّ منَعَ المُزارِعينَ مِن بَيعِهِ لَنا!
ذُهِلَتِ المُعلِّمةُ مِن خَيَالِهِ الجَميلِ، وقالَتْ لَهُ:
اخرُجْ، وحدِّثْ رِفاقَكَ يا ثَائرٌ كَيفَ عرَفْتَ ذَلِكَ.
قَالَ ثَائرٌ:
أنا أجلِسُ أحيانًا قُربَ أبي حِينَ يُتابِعُ الأخبَارَ، وَأسألُهُ عن كُلِّ مَا أسمَعُهُ إنْ لمْ أعرِفْهُ.
ربَّتتِ المُعلِّمةُ على رأسِهِ، وقالتْ:
أحسَنتَ حبيبي، بل أحسَنتُم جميعَاً، فَكُلُّكم رَسمتُمْ أشياءَ رائِعةً، سَأجمَعُ رُسُوماتِكم كُلَّها لتُشكِّلَ لوحَةً كَبِيرةً، وسَنُعلِّقُها على أحَدِ جُدرَانِ الصَّفِّ كي لا ننسَى جولانَنا الحبيبَ.
هلَّلَ الطُّلَّابُ لِلفكرةِ الجَميلةِ، فَتَابَعَتِ المُعلِّمةُ القولَ:
مهلاً، مهلًا هلْ يُعجِبُكُم مَنظَرُ التُّفَّاحِ الجَولانِيِّ وهُوَ حَزِينٌ؟
ردَّ الأطفالُ: لا!
فقالَتِ المُعلِّمةُ: سَأُعطِيكُم وظِيفةً للدَّرسِ القَادِمِ، وَسَترسُمونَ لي شُجيرَاتِ الجَولانِ الخَضْراءَ، وعلَيها تُفَّاحَاتٌ مُبتَسِمةٌ.
أتَعلَمونَ لِماذَا؟
رَدَّ الأطفَالُ: لِماذَا؟
قالتِ المُعلِّمةُ:
لِأنَّنا سَنستَعِيدُ الجَولانَ، وسَيفرَحُ التُّفَّاحُ حِينَ تأكُلونَهُ أنتُمْ!
رَنَّ جَرَسُ انتِهاءِ الدَّوامِ، فَقالتِ المُعلِّمةُ:
والآنَ رَدِّدُوا، وأنتُم تَنصَرِفونَ بِهُدوءٍ:
سَتَعُمُّ الأفرَاحُ
سَيرجِعُ الجَولانُ
وَيَبسُمُ التُّفَّاحُ!
وَيَبسُمُ التُّفَّاحُ!