منذ أزمنة ولّت تروي ألسنة الناس عن ذلك الملك الذي يعشق الظهور كل سنة مرة لشعبه في حلة زاهية، ليقنعهم أنهم شعب محظوظ على الرغم مما يشيعه أعداء الداخل والخارج من أكاذيب عن البؤس والجوع واللاعدل المستشري في دواليب الدولة ومؤسساتها. لكن ملك الملوك هذه المرة تأخر عن الخروج لتفقد رعيته، والسبب أن ملك الملوك كلما حلا له أن يخرج للقاء شعبه، يلزمه قفطان ملكيّ جديد. الحقيقة أن ملك الملوك ملّ قفاطينه التقليدية المتشابهة. يريد قفطانا جديدا متميزا، يزيد الرعية افتتانا به، وهيبة له، وتمسكا بعرشه العتيد.
جمع ملك الملوك الحاشية، وجمع البلاط كله، وطرح القضية الكبرى.
أقبل الخياطون من كل فجّ عميق. منهم "إيف سان لوران" طفل وهران ورقيد مراكش، و"إمبريو أرماني"، و"ماري فيلوتو"، وبداعون من جميع القارات، ومن أركان الأرض الأربعة، يحلمون برضا رِفْعَتِه.
أمام أبواب القصر يتدافعون، بينما خيوط الحرير الأصلي الرقيقة، الرفيعة، الهفهافة، الشفافة، الرفرافة، تطل من مخابئها في حقائبهم الملونة، وتتطاير في أنحاء البلد السعيد، تؤْذن بأن ملك الملوك يستعد للقاء الرعية.
ـ أتدرون؟! تتابع الخياطون بين يدي مقام جلالته واحدا واحدا. كلٌّ يتفنن في تقديم ما اختزنت حنكتُه الطويلة في النسج والخياطة، لكن ملك الملوك وسلطان السلاطين لم يعجبه عمل أحد منهم. فكلما نظر السلطان إلى صورته في المرآة يرجع ناقما. طردهم واحدا واحدا بعد أن أمرَ بغرز دبوس أسفل ظهر كل واحد منهم. ثم وضع رأَسه الملكيَّ الحزين المتعبَ بين كفيه وجلس مكتئبا.
السلطان حزين لأن لا قفطان لديه جديدا يلقى به رعيته.
في أحد الأصباح، تقدمت امرأة من باب القصر، وأعطت خبرا بأنها خياطة ماهرة تدعى (حلاّجة) جاءت من جزيرة "صقلبانة"، وتريد أن تفصّل الثوب الملكي، وتخيط القفطان على جسد السلطان مباشرة، وعلى انفراد تام به.
تفاءل البلاط والحاشية وأُدخلت الخياطة.
سبعة أيام وسبع ليال والخياطة "حلاّجة" تُقعِد السلطانَ وتوقفه وهي تقيس عليه وحوله. وتقص ثوبا وهميا في الهواء. تثنيه وتنشره. وتوصل اللون باللون في الهواء، والثنية بالثنية. وتخيط الأطراف والجوانب في الهواء. تجثو وتنطرح والعرق يتصبب من جبينها وهي تجمع أطراف الثوب الوهمي المنساب على الأرض.. تُدوّر السلطان يميناً ويسارا. يسارا ويمينا وأماما ووراء وتهمس له بمنتهى الأدب والخشوع:
- معذرة مولاي. لو تسمحون لي مولاي برفع ذراعيكم عاليا كي لا تنغرز فيهما الإبر والعياذ بالله.!
عجينة طرية كان الملك بين يدي الخياطة.
- أترَوْن يا مولاي..كل شيء على مايرام.. بقي فقط أن أثبّت الخيوط الذهبية في نهايات الأكمام!!
وفي الفراغ تمد «حلاجة» يديها، تحرك الإبرة الوهمية بأصابعها الواثقة، وتثبّت خيوطا ذهبية وهمية، ثم وكأنها تخيطها. ثم تقص الخيوط الوهمية المتدلية من الثوب الجاهز الوهمي فوق جسد السلطان. السلطان الذي بدا على محياه الرضا.
انحنت الخياطة حلاّجة واستأذنت في الذهاب، بعد أن أخذت مكافأتها الضخمة، وقفلت راجعة إلى بلدتها في جزيرة صقلبانة.
مبتهجا كان السلطان. عادت الابتسامة إلى وجهه المدور الممتلئ، وعلت خداه الحمرة من جديد.
حين رَآه سكان القصر أصيبوا بالهلع. ولكن من منهم يجرؤ على أن ينبهه، ويخبره بأنه عارٍ تماما مثلما ولدته أمه.!؟
لا أحد..
أقيم الاحتفال العظيم، وخرج الموكب الملكي المهيب، يطوف الشوارع وقد توافدت عليها أمواج بشرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد كله. تتابع العيون المنبهرة الملك على ظهر عربته الملكية المكشوفة تجرها الخيول. السلطان مزهو بقفطانه الجديد أكثر ما يكون توهجا وابتهاجا. يتبختر في عزّ ودلال وفخر. يلوح للرعية عاليا بذراعيه يميناً وشِمالا. أماماً ووراء.
راااائع يا الله .....رائع ومدهش ما تكتبه أنامل الشاعرة والروائية ربيعة جلطي