الغيبوبة
(القصة الفائزة بالجائزة التشجيعية في الفئة الثالثة، فئة البكالوريوس، في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
محمد ريان أحمد الأعظمي *
كانت فاطمة توقظ هشام في الصباح ليستحم ويذهب للمدرسة، رُزق فيصل وفاطمة بولد سمياه هشام بعد خمسة عشر عاما من زواجهما، ولذا كان هشام مدللا جدا لدى والديه حيث كان الطفل الوحيد لهما، وحرصا على أن يربيا ابنهما تربية إسلامية صحيحة، ونجحا في سعيهما إلى حد ما.
فكان هشام في التاسع من عمره وقد أوشك أن يحفظ القرآن الكريم وبعد أن حفظ القرآن الكريم التحق بالمدرسة الواقعة قرب البيت، وكانت أمه فاطمة تصرف عليه أغلب أوقاتها، تحرضه على أعمال الخير والتقوى، فكان الخير ينير وجهه ويجمل شخصيته إذ كان الناس يرسلون ابنائهم إليه ليصاحبوه ويشاركوا معه في الخير، فكان هشام محبوبا بين أقرانه بفضل خصاله الحميدة. وأخيرا جاء الوقت الذي كان عليه أن يترك بيته وأهل قريته لمواصلة دراساته العليا، فقد أتم درجة العالمية في المدرسة، وأراد أبواه له أن يلتحق بجامعة عصرية.
حضر الامتحان ونجح، لكن كان هشام يحب قريته وأهلها حبا بالغا، فبكى أمام الله سبحانه وتعالى ليلاً، ودعا إليه أن يثبّت قلبه، وكان أبواه يشعران بألمه فأنشد والده شعر الإمام الشافعي الذي بيّن فيه فوائد التنقل والترحال:
سافر تجد عوضا عمــــــــــــــــن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفســــــــــــــــــــــده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
فكان هشام يسمع هذا الشعر ويلقن نفسه بالصبر ويشجعه على السفر إلى مدينة بالي للالتحاق بالجامعة ومدينة بالي مدينة تاريخية وشهيرة في العالم كله، وبالإضافة إلى ذلك سيرى أشياء جديدة ويجربها في حياته. على أية حال، ودع هشام أهله واتجه إلى مدينة بالي واستغرق الوصول إلى مدينة بالي يومين، ولما كان اليوم الأول له للذهاب إلى الجامعة كوّى ملابسه وطبخ فطوره وتناول الإفطار مع أصدقائه الذين كانوا يسكنون معه في الشقة قرب الجامعة منذ سنتين.
كان هشام يشعر بالأمان لأن عدد المسلمين في مدينة بالي أكثر من المواطنين الآخرين لكن شيأً واحدً استاء منه كثيرا، وهو أنهم كانوا يرمون القذارة أمام بيوتهم، و أحيانا كانوا لا يحترمون المساجد، فكانوا يلقون فضلات الطعام أمامها، فيتعفن الطعام، وكانت أحياؤهم تنتشر فيها الرائحة الكريهة، وفي جانب آخر كانت أحياء الهندوس تزدان بالنظافة والأناقة تنبعث منها الرائحة الطيبة، لأنهم يكنسونها كل يوم فكان هذا الأمر يعجبه كثيرا فيتذكر حديث النبي ص " الطهور شطر الإيمان" وعندما يشتري شيأً من دكان المسلمين كانوا يرفعون السعر على الرغم من أنهم يضعون القلنسوة على رؤوسهم و يقومون بالصلاة، و عندما يشتري من دكان الهندوس فلا يرفعون سعره ويعاملونه كالصديق .
بدأ يفكر في وضع المسلمين في مدينة بالي فمنهم أثرياء و فقراء، أما الفقراء فكانوا يقومون في الطرق و يتسولون لسد لقمة العيش لهم ولعائلاتهم، و أما الأثرياء فكانوا لا يعطونهم إلا روبية أو روبيتين، و أما الهندوس فهم أثرياء فقط ليس منهم فقراء، فكانوا يقضون حياة الرغد والرفاهية، فكان هذا الفرق يؤثر فيه كثيرا، فعزم على أن يذهب إلى قريته ليحكي أهله حكاية مدينة بالي، فذهب إلى محطة القطار لشراء التذكرة، فاشتراها و اتجه إلى شقته، لكنه تأخر، وحل الظلام، فاتصل بأصدقائه وأخبرهم بأنه في طريقه إلى الشقة، وركب الحافلة، فبينما اطمأن بأنه سيصل إلى شقته بالأمان، إذ توقفت الحافلة، حيث كان بعض الناس يرفعون هتافات "دیش کے گداروں کو گولی مارو سالوں کو" (اقتلوا بالرصاص خونة البلاد)، ورأى المسلمين يبادلون بهتافـ: ( نعرئہ تکبیر اللہ أکبر) ورأى الهندوس يطلقون النار، ووجد المسلمين يرمون الأحجار، ورأى بعض المسلمين الذين كانوا يبيعون الأشياء بأسعار عالية يحرّضون المسلمين ضد المواطنين الهندوس، و يشتمونهم ويضمون صوتهم بأصوات (نعرئہ تکبیر اللہ اکبر)، فكان الجحيم يحيط به من كل جانب و الشوارع فقدت معالمها و تلونت بدماء المسلمين و أحرقت ممتلكات المسلمين و مبانيهم، فسارع إلى شقته إذ رآه رجل من الهندوس فضربه بالعصا على رأسه فأغمي عليه، و بقي في هذا الحال حتى الصباح ، في الصباح التالي جاءت الشرطة و أرسلته إلى المستشفى ففحصه الطبيب و قال إنه في الغيبوبة ومازال في المستشفى و بعد عشرة أعوام استفاق، لكنه نسي كل ما حدث معه في تلك الليلة المشؤومة قبل عشر سنوات، كما نسى كل شيء، وكان لا يستطيع أن يعرف أحداً، وقال بعض أصدقائه القدامى: أحسن الله إليه إذ أنساه كل شيء، وصدق الشاعر الأردي: ياد ماضي عذاب هي يا رب- تشهين لي مجه سى حافظه ميرا (ذكريات الماضي هي عذابٌ- مولايَ أفقِدني ذكرياتي).
**********
* طالب في البكالوريوس، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، الهند.