فَكِّر مَرَّتين قبل أن .....
عابد زين كيه
الهند
------------------
ذبلت أشعة الشمس وغابت في أعماق الأرض السابعة... ظل ويشنو يتكأ على كرسي من الخيزران تحت شجرة مانجا في الزاوية الشمالية للبيت.... شربت الرياح الماكرة من حرارة الشاي الأسود في يده اليمنى والسيجارة المشتعلة بين أصابيع يده اليسرى تتنفس أنفاسها الأخيرة كأنه اتخذ الأفكار صديقا له ونسي صديقيه الحميمين يؤنسان وحدته منذ أن أصبح شابا قويا ذا الشعر الأسود إلى أن أصبح رجلا نحيلاً ذا الشعر الأبيض.
ويشنو... ألم يحن الوقت بعد ؟ "هيا ادخل يا بني"، دعته شيجة - أمه الحنون - إلى البيت، ولكن لم تنتظر لجوابه، ولا لدخوله، حتى أغلقت الباب من الداخل، وانشغلت في أعمالها، وهي تهمهمُ: تلك الشيطانة المشؤومة دمرت حياة ابني. هذا ما تعودت عليه منذ زمن طويل؛ ثلاث سنوات تقريبا، وويشنو حين سمع صوتها أغلق أبواب الأبصار والآذان، وفتح باب قلبه، لأن صمت الليل قد أتي يزوره بكنوز الأسرار؛ أسرار الذكريات ذكريات حبيبته الجميلة التي أقسمت له بأن تصبح له رفيقة دربه إلى نهاية طريق الحياة، بدأ صمت الليل يهمس: رادة رادة رادة.
تعرف ويشنو على رادة أثناء رحلته بالقطار إلى عاصمة كيرالا تريفان درام، تجلس على مقعد بجوار النافذة والمطر العنيد يهطل في الخارج بغزارة، وبعد قليل أخذت أيادي المطر السائلة تمتد نحو النافذة وتدخل منها وتزعج رادة أكثر فأكثر فحاولت إغلاق النافذة، لكنها لم تستطع.
أيعقل ألا يحب الأنسان المطر ؟ قال ويشنو لرادة وهو يساعدها على الإغلاق.
بل أحبه كثيرا، ولكن عليه أن يحترم الحدود بينهما... فأبعد نفسه عن نفسها مغمعما "بدلا من أن تشكر تهددني بكلمات موحية ".
أجزلت الشكرله على المساعدة في الحين وقالت "لو لا قمت بإغلاق النافذة لغسلني المطر" قالت كأنها لم تسمع ما غمغم.
لا لا شكر على الواجب قال مسويا جلابييه كأنه رجل يرفض ما يستحقه من المجد.
"إذن لا بد أنك من طاقم القطار"، قالت ثم أطلقت ضحكة رنانة.
الصبر الصبر يا ربي بعدما تمالك أعصابه قال وفي ثغره بسمة اصطنعها: "أنت مضحكة للغاية" فدنت منه قليلا كأنها تريد الكلام عن أمر مهم، "أما تعرف يا صديقي أنك لطيف للغاية"، ثم قهقهت بأعلى صوتها قهقهات متتالية، مرت فترة من الزمن حينها بدى في وجهه شيئ من الملل والغيظ، لأن نصال تلك القهقهات النسائية كانت تنغرز في قلبه كأي رجل آخر يعتز برجولته. كلاهما من عائلات الطبقة المتوسطة.
دار بينهما حوار مفعم بالحيوية والنشاط أحيانا يرتفع صوتهما كالأمواج، ويغلب على ضجيج القطار المتحرك، فاستيقظ بعض من كانوا يرقدون حولهم وينظرون إليهما مليا ثم يخلدون للنوم عن قهر الرجال وحقوقهم على النساء وعن عكسه وعن مائة شيئ آخر، إذا رأهما أحد أثناء ذلك لا يعتبرهما إلا أعداء لكنهما في أقصى القلوب أصبحا عبيدين للعشق وخادمَين له تماما كما يخدم التراب الأزهار خدمة لا تدركه الأبصار، ولكن لم يستحي أحد منهما من أن يسأل الآخر عن هويته على الإنستغرام عند الفراق.
ومضت شهور بسرعة البرق، وتوطدت العلاقة بينهما أكثر فأكثر كلبنة تتصلب وتتحجر ببرودة الماء وحرارة النار عبر الانستغرام والواتساب،كلاهما أفصحا عما بداخلهما من مشاعر وردية من خلال رموز التعبير على الإنستغرام والواتساب كلما تشاجرا، فكانت الرموز كالصديق الحميم الذي قام بالإصلاح ذات بينهما كلما تشاجرا، وقرّب بعضهما إلى البعض.
هل لديك أحلام في الحياة ؟ كتب رسالة.
لا تحصى.... ولكن حلمي الأكبر هو أن أعيش حرة... أجابت.
حسناً لكن متى ستصبحين حرة؟
عندما أستطيع العيش حيث أريد.
وماذا عنك؟ ما الذي تحلم به ؟
إنني أحلم باليوم الذي ستكونين فيه لي.
فأرسلت فقط رمز ابتسامة...لا أكثر.
أكثر رسائلها كانت رموز تعبير...يفسرها كيفما شاء قلبه، وبدأ ينسج في خياله عالما جميلا مليئا بالأحلام.
في الحقيقة لم يكن معجبا بشخصيتها كثيرا، إلا أنه افتتن بجمالها الجاذب، وتأكد في نفسه أنه كان مخلصا لحبه لها، لذا بذل قصارى جهده لأجل تحقيق ذلك الحب كأنه يظن أن الحياة تأخذ جمالها من جمال الفتاة التي يتزوج منها .. حتى قبل كل مطالبها ووعد لها بحياة تحلم بها وأقسم لها بأنه لن يضع أبدا عائقا في طريقها بل إنه يعاملها كرفيق في درب الحياة، مع وعيه الكامل بأن وعوده هي بمثابة "جلب قطعة من القمر" كما يفيد المثل الهندي، وأخيرا قبلت رادة خطبته واقتراحه لتكون رفيقة حياته.
اتخذا القرار ليعيشا معا رغم المعارضة الشديدة من عائلة كلا الطرفين، وتم تسجيل زواجهما في المحكمة، دون عقد مراسم القران وبدون حضور أي عضو من أعضاء عائلتَيهما... فغشيت وجوههما سحابة الحزن والكآبة في يوم يكون فيه المرء في منتهى البهجة والسرور.
مضى أسبوعان. كل يوم كان يأتي لهما بالمفاجآت، فالأمور التي تحدث بينهما لم تكن كما توقعا قبل الزواج....أين تلك الزوجة الجميلة الرومانسية التي ستملأ حياته بالحب والسعادة الغامرة...وتجعل حياتهما حديقة من الأزهار الجميلة التي تبهج الناظرين؟ أين ذلك الزوج الذي كان سيصبح سندا ودعما لزوجتها ويوفر لها الحياة التي كانت تحلم بها؟ كلاهما يبحثان عن ذلك الشخص الذي وقع في حب بعضهما البعض.
انتقلا من الشقة بعد ثلاثة أشهر تقريبا إلى منزل مستاجر جديد بسبب الأزمة المالية، لأن راتب ويشنو الشهري لم يكن يكفي حتى لشراء مستحضرات التجميل لزوجتها، ومهما كان الوضع فهو لا يسمح لرادة بالقيام بأي عمل مع أنها مؤهلة ومستعدة وحريصة جدا على العمل، لأنه مثل أي رجل آخر لا يقبل أن يعيش على كسب الزوجة. أما بالنسبة لرادة، فهي تفكر دائما عن استقلالها دون الاعتماد على أحد سواها في أمور تخص بها على الأقل مستلهمة مما تقول عارضات الأزياء والممثلات في مقاطع الفيديو؛ تلك التي من أجل مشاهدتها تقضي معظم وقتها ليل نهار، والمدهش في الأمر أنها لم تحاول ولو لمرة أن تقارن ظروفها بظروفهن، وأن تتخلى عن إصرارها على العمل، ولكن شتان ما بين الحلم والحقيقة..الحقيقة دائما تكون صادمة. .
وهكذا في كل أمر كان يختلف موقف الواحد عن الآخر اختلاف اليوم من الليل.
"إذن كنت تكذب عليّ؟" قالت راده وهي تبكي..
"بل أنت خدعتني بوجهك الكاذب...انفجر ويشنو من شدة الغضب.
أبدا ما خذلتك وخنت وعدي معك... جاء صوتها منكسرا كما تنكسر الأساور الزجاجية.
كلاهما دخل في الشجار مع بعضهما البعض شجاراً انتهى بهما إلى الانفصال.كل شيئ أصبح اليوم سهلا، الزواج والانفصال، لم يفق ويشنو من تلك الصدمة كاملا.. لأنه وإن كان يتخاصم معها لم يخطر بباله أبدا أن رادة ستخذله وتتخلى عنه يوما وتغادر، ربما قد ظنّ المسكين بأن المشاكل ستنتهي عند ما يصبح لهما أولاد كما كان يسمع الكبار يقولون منذ نعومة أظفاره، يفلسفون هكذا بمن فيهم والداه، ولم ينتبه إلى أن الزمان قد تغير، والفلسفة تلك صارت عقيمة، أما رادة فلا علم له بها بعد ما تباينا إلا أن أفكاره لم تفارق ذكرياتها منذ ذلك الحين إلى الآن لحظة.
ربت صمتُ الليل على كتف ويشتو مُهَمْهِماً: أنتم البشر هكذا منذ القدم تضيعون معظم الحياة نادمين على ما فعلتم في الماضي، ولا شك أنكم ستبقون هكذا إلى الأبد طالما لا تفكرون مرتين قبل أن تجبروا النفس على ما لا تشتهى وتقتلوها بينما أعاد ويشنو قراءة رسائلهما مرة ثانية بدقة أكثر من ذي قبل...
ووجد بينها رمزا يعبر عن الابتسامة. وبكى ويشنو على هذا الرمز الذي سلب الابتسامة من وجههه وحولت حياته إلى زهرة ذابلة.....
۞۞۞