"خيتينيا"
بقلم: هالة البدري/ مصر[1]
لم يتوقعا أن يكون شاطئ ميامي بهذا الازدحام في يوم عمل عادي، في شهر أكتوبر، بعد أن بدأ العام الدراسي، وعاد المصطافون إلى مدنهم، وخلت الإسكندرية إلا من أهلها وبعض فلول زوارها، خاصة أنهما وصلا إلى المكان، بعد العصر كانا قد هجرا المدينة التي عشقاها لسنوات طويلة إلى قرى الساحل الشمالي بحثا عن الهدوء، والخصوصية، الذي افتقدته المدينة تحت الزحف الذي دبرته الشركات والمصالح الحكومية لاصطياف عمالها وموظفيها، لكن القرى النائية، بشواطئها عالية الموج، وبحيراتها الصناعية، لم تستطع أن تنسيهما حبهما للمدينة التي شهدت مرح الطفولة والصبا فحرصا على زيارتها شتاء ومراقبة البحر من مقاهي الشاطئ.
زيارة خاطفة مصادفة فتحت شهيتهما لاستعادة ذكرياتهما على الشاطئ الذي كان قبلتهما يوماً، تصورا أن الخريف ما زال للإسكندرية، وليس للمصطافين، وأن ساعات المغرب لفئة خاصة جداً لا تخشى ليل البحر.
ترددت قائلة: يا إلهي كيف؟ لم يعد هناك مقياس واحد لشيء أفهمه، هيا نؤجر مركبا ونكتفي بالسباحة بعيداً في عرض البحر، أو نعود في الشهر القادم.
قال: لا تفسدي متعتنا بالتراجع الآن، ولا تفكري في إمكانات العودة في نوفمبر، أو غيره، كما أننا لن نتمكن من تأجير مركب، فالطريق إليه وسط هذا الازدحام أصعب من الطريق إلى البحر، تعالي نعبر الجسر الخشبي كعادتنا، ثم ننطلق منه إلى قلب البحر مباشرة.
قالت مستسلمة: ننفخ "المرتبة" أولاً، ربما نحتاج إليها، وقد نصطاد القواقع، ولو أنني غير متفائلة.
قال: بل سنصطاد، هم لا يجرؤون على اللعب في المناطق التي نرتادها، انظري إلى هناك، في منتصف المسافة بين الشاطئ والجزيرة، لن تجدي أحداً، نختار مكان الصيد، ثم نسبح إلى الجزيرة، نرتاح قليلاً، ونعود، اعتبريها نخبا في صحة عالمنا الذي كان أن يزوي.
أبعدت الخوف، وراحت مسامها تشرق بابتسامة واسعة، والحماس ينتشر في أعضائهما معاً، حصلا على "شمسية" أمام البحر مباشرة، لكن عينيها لم تكفا عن متابعة نظرات الفضول التي توجه إليهما، وهي تخلع بلوزتها، ليظهر لباس البحر (المايوه) بلونه البرتقالي، المشبع بحمرة الغروب الأرجوانية، لم تسلم حتى من عيون الأطفال الذين تركوا قصور رمالهم، وحُفر الماء الواسعة، التي ينزحون منها الماء ليبللوا الرمل، حتى يلين، ويطيع أياديهم، فتشكله، وتركوا معها الدلاء والرشاشات الملونة، ووقفوا يراقبون حركة الزوجين معاً (انكشف المشهد أمام عينيها تفاصيل لم تعتدها في المكان من قبل، رجال يرتدون فانلات فوق شورتات طويلة، وصبية بلباس البحر، وسيدات بجلابيب غامقة اللون، انتبهت لصيحة ضاحكة من رجل ملتح يرتدي فانلة سوداء، يحمل فتاة ترتدي كامل ملابسها، ويلقي بها في الماء يصخب، جرفتها الموجة فانكفأت على وجهها، فلما انحسرت عنه، حاولت الوقوف وهي تمسح الماء والرمل من عينيها، شدت طرحتها التي انزلقت من فوق رأسها إلى الخلف لتعيدها إلى مكانها لكنها قبل أن تتوازن تماماً، فوجئت بدفعة من الرجل، ألقت بها مرة أخرى إلى الماء، والموج ينقلب بشدة نحو الشاطئ ويهدر بعنف قامت متوعدة إياه وهي تحمل قبضة من الرمل، قذفته بها، تعثرت فأحاطها هو بذراعيه القويتين، وعلا صراخهما، والموجة الجديدة تطيح بهما معاً، لاحظت حين نهوضهما التصاق البلوزة بصدر الفتاة وتحديدها لتفاصيل وردات الدانتيل المصنوعة منه حمالات صدرها.. أعجبها المرح الذي تناثر حولهما، وعدم انزعاج الآخرين من الرمل الذي يصيبهم مصادفة من تراشق اللاعبين، علقت البنطلون في عمود "الشمسية" واستدارت لتتفادى كرة صغيرة طاشت من أحد الصبية، فأمسك بها زوجها، وأعادها إلى البحر لتتلقفها أم الصبي وهي تقول ضاحكة:
شقاوة عيال!
ثم تكمل اللعب مع ابنها وزوجها مرتدية جلباباً التصق بجسدها الممتلئ، فبدت عارية تماماً، وقد حدد القماش ثنايات الشحم فوق ظهرها، وخطوط لباسها الداخلي، وخرجت ضفائر شعرها متمردة من تحت طرحتها تمرح فوق ظهرها.
جفلت حين شعرت بيد صغيرة تمتد نحوها، التفتت لترى صبياً في التاسعة من عمره يلمس خصرها فلما التقت عيونهما تراجع خطوتين إلى الوراء دون أن تظهر عليه علامات دهشة أو خوف. سألت زوجها:
أتصدق؟
هو مجرد طفل فضولي لا أكثر، اعتاد أن يرى أمه تنزل إلى البحر بملا بسها الرسمية "ضاحكاً".
هل نسيت شيئاً؟
لا، وضعت كل شيء في السيارة ومفتاحها سأضعه في جيبي وأغلق السحاب جيدا ً والحاشية "المرتبة" جاهزة الآن هيا.
تقدما خطوات قليلة في مياه ضحلة قبل أن يصعدا إلى السلم الخشبي أحاطها بذراعه فشعر بتوترها، لم يكن يحب أن يتكلم كثيرا، دفعها أمامه برفق، تراص الصيادون فوق الجسر، وهم يحملون سنارات البوص، طويلة، رفيعة، ومقاطف من سعف النخيل ترقد بجوار أقدامهم محتوية أسماك الصيد، لوحت الشمس أجسادهم، فصفا لونها البرونزي الجميل، وأصبح مشعاً، أمسك أحدهم بسمكة، عمّ الفرح وجوه الصبية المتفرجين الذين كانوا يتنقلون بعيونهم بينها وبين السمكة التي تجاهد لتفرّ من الأسر، تحلقوا حول الصياد وهو يخلصها من السنارة ويضعها في المقطف.
قال الزوج: الصيد رزق.
هزت رأسها بالموافقة وهما يتابعان الصياد وهو يضع طعماً جديداً في السنارة ويعيدها إلى البحر.
أحكم قبضة يده على كتفها وهو يعبر بها فوق خشبة ناقصة من جسم الجسر، وزاد من قبضته وحرصه كلما توغلا في طريقهما وتناقصت الأخشاب حتى كادت تتلاشى قرب نهايته انفتح البحر أمامهما، فانطلقا إلى الماء معاً دون إشارة اتفاق وخرجا من تحته بعد أن سبحا أمتاراً قليلة فرحين، مدهوشين من البرودة والانتعاش الذي طالهما. ضربا الماء بسواعدهما، بحيوية فائقة، فقطعا مسافة لا بأس بها قبل أن يتوقفا، وهما يسحبان خلفهما "المرتبة" التي جاءت منزلة إليها بسهولة، استندا على حافتيها، قال وهو ينظر إلى الشاطئ.
أرأيت، لقد ابتعدنا عن الزحام الذي يزعجك فور خروجنا إلى عرض البحر.
كان البحر قد ضاق قليلا، واقتربت الجزيرة من الشاطئ، هل تذكر كم كنا نجهد حتى نصلها مقطوعي الأنفاس.
كنا صغاراً، والخلاء يوحي بالوحشة، وانفلات الفضاء.
أريد أن أسبح حتى تنقطع أنفاسي، وأن أصطاد "الجندوفلي" و"الجراجولا" و"الخيتينيا" بالطبع.
قفزت دون إنذار إلى الماء مثل سمكة دولفين رشيقة رغم حجمها، سبحت كثيرا دون أن تعرف أن كان قد لحق بها، ثم انقلبت على ظهرها تستمتع بالراحة، وأغمضت عينيها من الشمس في انتظاره، جاءها بعد قليل، وراح يمسح شعرها الذي ينتشر حول وجهها مثل أشعة متعرجة، استسلمت لحضنه في وداعة فلثم شفتيها، ساعدهما هدوء الماء المحكوم بأسر الجزيرة والشاطئ على الاسترخاء، نزلا إلى القاع ليلمساه معاً، وحين التفتا لكي يصعدا أمسك بخصرها بقوة وتركت له حرية الشعور بامتلاكها حيث الألوان تتكسر بدلال، طوقت عنقه بذراعيها وهي تدفع الماء بساقيها التي تنفرجا، وتنغلقا مثل مروحة، أتاحت لجسمه مباغتتها بسهولة، حاولت الانفلات وهي تشهق بدخول الهواء المفاجئ إلى رئتيها حين وصلت إلى السطح لكنه لم يعطها الفرصة، كان قد أحكم قبضة ساقيه حول جسدها وأزاح القماش بسهولة، جاءت موجة لا حواف لها رفعت مستوى الماء، فارتفعا معها، وهبطت بهما في مكانهما، واستمر تأرجحهما حتى فاضا بعاطفة حارة انتقلت إلى كائنات البحر فأطلقت بخوراً ملوناً ذا رائحة نفاذة، وصل عبيرها إلى الأعماق المدهشة التي كشفت لهما عن أسرارها منذ زمن طويل، خرجا متسائلين في صمت لماذا لم يقتربا من نشوتهما هذه طوال هذه المعرفة بالبحر؟ أجاب:
لا يهم ما فات، لكن المهم أنه يحدث الآن.
أرادت أن تنام في حضنه، وألا تعود إلى الشاطئ أو إلى الجزيرة، أن تنام فحسب، وضع يديه تحت خصرها وتركها لحنو الموجة، كي تطفو بها كان البحر لهما، رغم الخيالات البعيدة التي تظهر كنقاط سوداء فوق الجزيرة، والأبنية العالية التي تقف بصلابة خلف الشاطئ، اختفى البشر من مرمى ا لرؤيا.
آن الأوان لكي نسبح إلى الجزيرة وعند عودتنا إذا تبقى وقت نصطاد وإذا لم يتبق عدنا في يوم آخر.
كل البحار بحرنا المتعة في أن نكون معاً الحنين إلى الماضي الذي اختفى لا ينفي أننا حصلنا عليه.
نستطيع أن نحصل عليه دائماً إذا أردنا. وصممنا، هيا إلى السباحة ما زال الطريق طويلا أمامنا.
سمعا صوت قارب، التفتا إليه كان يجر وراءه شابا ينزلق فوق الماء، تجنبهما بمهارة واستمر في الانطلاق.
وصلا إلى جزيرة ميامي التي تميز هذا الشاطئ وتصنع منه حمام سباحة طبيعي والتي شهدت لقاءاتهما في الصبا، كان يعرف حبها للغوص حول صخور الجزيرة، تداعب الأسماك الصغيرة التي تحتمي بالصخر، قدرتها على الغوص دون حاجة للتنفس لوقت طويل كانت تتيح لها الاقتراب من الأسماك الملونة، واصطياد "الخيتينيا" التي تتعلق بصخور الأعماق المدببة، ارتاحا فوق الجزيرة تاركين جسديهما للشمس الناعمة، حاول أن يضع اصبعه في تجويف رفيع بحثا عن بلح البحر. ضحكت.
لن تجد شيئا هنا، هو لا يعيش في مكان يسهل الوصول إليه، كل هؤلاء البشر يطاردونه، لذا ستجده في صخور الضفة المواجهة للبحر حيث الأمواج العالية التي تمنع الناس من الوصول إليه.
قامت تمشي نحو الجهة الأخرى قال:
احترسي، لم نعد صغارا، ولم تعد لجسمينا القدرة القديمة والمرونة.
لا تخشى شيئاً أنا كائن من كائنات البحر، حبي له كاف لكي يهبني الأمان حتى وإن غبت عنه طويلاً، سأجمع بعض محارات "الخيتينية" لم أصطدها منذ زمن طويل، بل لم أرها أيضاً، لقد اختفت من المحلات تماماً يبدو أنها تذهب إلى الفنادق ذات الخمسة نجوم مباشرة.
أما زلت تبحثين عن اللؤلؤ؟
صدقني دموع "الخيتينية" أغلى عندي من اللؤلؤ، هي كائن ضعيف صغير يحتمي بالصدفة الخشنة يبطنها باللون اللؤلؤي الأخضر المضيء بالبنفسج أحياناً، والأحمر أحياناً أخرى، ويشع دفئاً، كما تشع حبة الرمل التي تدخل إلى عشه، ويلف عليها دموع الخوف ويغلفها لكي تصبح جوهرة رائعة ويصبح هو في أمان.
سأصحبك يوماً إلى الخليج العربي إلى حيث صيادي اللؤلؤ المهرة وسننزل معهم في رحلة صيد.
لا أعرف إن كانت "الخيتينية" هي بالفعل محارة اللؤلؤ أم لا؟ لقد تصورتها كذلك لأنها من الداخل في إضاءة اللؤلؤ، أنا أعتقد هذا وكفى، اعتقادي يضفي على القصة حقيقة وإن كانت خيالاً.
لذا أهديتك عُقدا من اللؤلؤ الحقيقي، لا الخيال.
الحياة كلها خيال حقيقي
قفزت إلى الماء قبل أن تكمل جملتها، وقف يرقبها وهي تقترب من الصخور الخطرة، لم يستطع أن يمنع شعوره بالخوف، وهي تتركه في الأمان على الجانب الذي يواجه الشاطئ وتنزل إلى الجانب الذي يواجه البحر بأمواجه العاتية، لكنه لم يلحق بها، كان يعرف أن ابتعاده عن البحر طويلاً ربما لا يساعده على المرونة الكافية لهذه المخاطرة، ويعرف أيضاً قدرتها العالية على الغوص، رآها تنزلق مع الموجة حتى وصلت إلى صخرة مدببة، أمسكت بطرفها لثوان ثم غاصت تحتها، وقبل أن تعود الموجة مرة أخرى، كانت قد عادت إلى السطح، راح يراقب صعودها وهبوطها، تقاطر بعض رواد الجزيرة إلى مكانه وراحوا يتابعون حركتها معه. سأل واحد:
هل تعرفها؟
زوجتي
عادت إلى صدر البحر مع الموجة المنزلقة إليه، متجنبة تيار الماء الذي يندفع نحو الصخور، استدارت عن بعد لكي تصعد إلى الجانب الآمن، ثم رفعت يدها ملوحة له، وهي تمسك بقوقعة "خيتينيا" كبيرة التقاها عند أطراف الماء الهادئ وأمسك بساعدها ليسحبها ناحيته، فتحت كفها وهي تقول بأنفاس متقطعة:
وجدت واحدة بصعوبة شديدة، انظر لقد صنع الحيوان الصغير لنفسه سريراً ملكياً، لكنه لم يحسب أننا سنأتي لنأخذه والمحارة معاً، تصور قوقعة واحدة، هل تذكر كيف كنا نجمع عدداً كبيراً منها في المقطف الخوص كل يوم؟
كانت القسمة عادلة، أنا أصطاد السمك، وأنت تصطادين القواقع.
لا أحب اصطياد السمك لأني أحبه حياً، ولا أريد أن أراه يموت (ضاحكة) لكنني أنسى هذا وأنا آكله!
آكل ومأكول، غالب ومغلوب، ولأننا الآكلون في حالة السمك، ننسى هذا، ولا نفكر في صراع الحياة، والموت، صراع الصياد والفريسة.
أنت الصبور، وأنا المغامرة، المفروض أن يحدث العكس.
لا مفروض في الحياة، نحن نكمل بعضنا البعض، ولهذا أحبك، هينا بنا إلى الشاطئ، وغداً نبحث عن مكا ن آخر لنسبح فيه.
لم يعد أمامنا إلى الإبحار في مركب إلى عرض البحر، كي تسبحين على راحتك. لم تعد الإسكندرية وشواطئها مناسبة لنا.
لكن هذا لا يتوفر دائماً، ولا أريد أن يكون بيني وبين البحر وسيط، أريد أن أقفز إليه وقتما شئت، لماذا نتراجع ونترك لهم الساحة؟
لقد أصبح الشاطئ يشبه سوقاً للسمك في ازدحامه، كان يجب حين رأيناه على هذه الحال أن نتراجع، لكن فات الوقت هو شاطئ شعبي الآن.
كانت النساء في الشواطئ الشعبية في "رأس التين" و"الأنفوشي" يسبحن في الصباح المبكر، وعند الغروب أيضاً، وكانت جدتي تحرص على نزول البحر مع غروب الشمس حتى تبطل أفعال السحر الشريرة، التي قد يفعلها أحد ضدها، كما كانت تردد لنا ونحن صغاراً، والمسألة ليست الازدحام، ولكن أن يقبلونا بعاداتنا، كما نقبلهم بعاداتهم، وألا نهرب، ونتقوقع في أماكن خاصة بنا، والعالم كله لنا.
ابتسم وهو يدفع "بالمرتبة" المطاط إلى الماء، ثم قفز وراءها وهما يضحكان، أمسكت بحلقة في مقدمتها، وسحبت منها حبلا طويلا، وجرتها بسهولة، ولحق هو بطرف الحاشية الآخر، حتى يخفف الضغط عن جسده ليسبح بسرعة أكبر، اعتادا هذه الطريقة حتى يستمتعا معاً بالسباحة لمدة طويلة، يبتعدان عنها دون أن يتركا الحبل، ثم يصعدان عليها إذا ما تعبا، يستغرقهما الوقت، وهما يتحدثان لساعات في الماء مستندين على الحافة المطاطية، ثم يعودان إلى السباحة، أو الغوص حتى يأتي الظلام، لم يكن يحبه، لكنه يبقى معها لأنها تعشق البحر ليلاً، كان قد تعلم العوم بالفطرة في فرع النيل المواجه لبيته الريفي، تذكّر قلم الكوبيا الذي كان أبوه يخطط به فوق ظهره، حتى يضمن عدم نزوله إلى البحر، كما يسمون نهر النيل في قريته، وكيف كان يتفق مع زملائه أن يسبحوا، وأن يجففوا أجسادهم، ثم يعيدون رسم الخطوط مرة أخرى، حتى لا ينكشف أمرهم، وتعلمت هي على يد أبيها الذي رفض أن ترتدي طوق النجاة، وهي طفلة، وألقى بها إلى الماء حتى تقطعت أنفاسها، وهي تسبح نحوه، كي لا تغرق بعد أسابيع من التدريب المتصل، تركها للبحر، وهو مطمئن لعشقها له، وأمانها معه.
كلما اقتربا من الشاطئ لاحظا كثافة السابحين عن بُعد، كان العدد أكبر كثيراً مما توقعا، ضربا الماء بسواعدهما على مهل، أمسك بالصدفة، ووجهها نحو الشمس التي بدأت رحلة غروبها، حتى عكس الضوء نحو عينيها، اقتربت منه، والمكر يطل من رعشة فمها المكبوحة، مغمضة العينين، حتى لم يعد يستطيع أن يسلط الشعاع على وجهها، خطفت منه القوقعة، وسلطتها ناحية الماء، غاص وراء الشعاع الضعيف، وعاد فاتحاً كفيه قائلاً.
أتيت لك بالشمس الأرجوانية.
لعبا حتى تعبا، ثم عاد يسبحان نحو الشاطئ، بدت على البعد منطقة أعشاب، يعرفان من لونها الذي مال إلى الزرقة أكثر أنهما يستطيعان اصطياد أنواع أخرى من القواقع تعيش تحت أعشاب القاع الصخري.
أعرف أنك تريدين الصيد، لكن الماء لم يعد رائقاً، كما كان من قبل، لقد عكرناه بكل الوسائل والازدحام اليوم غير عادي، والليل يوشك أن يحل.
رفعت رأسها نحو المكان الذي يشير إليه، لاحظت والشاطئ يقترب منهما أن رؤوسا كثيرة تسبح نحوهما، التقت عيونهما معاً فأدركت أنه لاحظ ملاحظتها، كشف المشهد أمامها عن تحرك غير معتاد لمعظم الموجودين في الماء، اتجه الرجال إلى حيث المسار الذي يسبحان فيه نحو الشاطئ، استشعرا الخطر المبهم.
دعينا نخرج من البحر بسرعة.
وضعا وجهيهما في الماء وانطلقا يسبحان بأقصى سرعة ساحبين الحاشية المطاط الطافية خلفهما، ازداد إدراكهما لهذا الاقتراب الجماعي كلما رفعا رأسيهما ليتنفسا. دب الخوف في أعصابها للمرة الأولى، لم تفهم لماذا أصبحا فجأة هدفاً لكل هؤلاء الرجال والصبية، فكرت: "هل يكون السبب أنني امرأة، النساء في البحر كثيرات – لكنهن يلعبن في الماء بجلباب طويل يرتدينه فوق بنطلون، وأنا الوحيدة التي ترتدي (المايوه)" تذكرت العجائز اللاتي كن يسبحن في البحر وهي طفلة مرتديات آخر صيحة في الموضة آنذاك وأمها وصديقاتها وفساتينهن المزركشة بالورود فاقعة اللون، ذوات الحمالات الرفيعة، كن يسمينها ملابس البحر، ويرتدين معها قبعة من الخوص لتحمي وجوههن من الشمس، أين ذهبت هذه الصورة التي صاحبت طفولتها وصباها؟
اقترب الشاطئ، لاحظ أنهم يحكمون حلقة بدأت تتضح ملامحها في كل الاتجاهات، ندم أنه انساق إلى رغبتهما العارمة، وعشقهما للنزول إلى البحر، لم يأتيا إلى الإسكندرية صيفاً منذ أكثر من عشر سنوات، ماذا حدث للدنيا؟ طلب من الله في سريرته أن يمر الموقف بسلام "نحن شعب لا يحب العنف، سنصبح فرجة لا بأس" استمرا في السباحة دون توقف متخذين نفس المسار الذي يقطع أقصر طريق إلى الشاطئ، التحم البشر حولهما، وصنعاً سداً على جانبي الطريق، تنحى رجل كان يقف في طريقهما، ثم تنحى ثالث، ورابع كي يفتحوا ممراً صغيراً يكفي بالكاد لعبورهما. وصلا إلى حيث الجسر الخشبي الذي قفزا من فوقه فكر؛ "الجسر عال، وتسلقه من هنا مستحيل، فالماء عميق إلا إذا أمسكت بها ورفعت جسمها إلى أعلى".
طرد الفكرة من رأسه، واستمر يسبح خلفها مباشرة، وهو يشعر بأنفاس كثيرة تعلو بانتظام، سمعاها رغم الهمهمة التي وصلتهما في تحد غير مفهوم، شعرا أن الأيادي توشك على الانقضاض عليها، والحلقة تزداد اختناقاً أكثر فأكثر، والرجال في المقدمة يتنحون في بطء ظاهر، رغم أنهم كانوا يقفون فوق أرض تزداد علواً كلما لاح الرمل الأصفر، اعتدلا، وهما يشعران بأقدامهما تلمس الأرض في المياه الضحلة، وراحا يدفعان الماء بأيديهما في غياب الموج الذي تمنعه الجزيرة من الوصول إلى الشاطئ تلفتت وراءها لحظة أن شعرت بوصول الخطر إلى ذروته، وفي لحظة واحدة نزلا تحت سطح الماء دون أن يتبادلان كلمة، أو إشارة صغيرة تاركين الحاشية المطاط، كسرت الحركة المفاجئة الطوق المحكم حولهما، خلخلت الالتحام، ساعدتهما خبرتهما الطويلة بالبحر على المرور بين الأقدام الكثيرة المرتبكة، التي لم يستطع أصحابها الغوص وراءهما للوهلة الأولى. عادا بسرعة إلى عرض البحر الواسع، حاشدين طاقتهما القصوى لكي يهربا إلى أبعد مسافة ممكنة، قبل أن يلحق بهما أحد، صعدا إلى سطح الماء ليحصلا على الهواء بسرعة، قبل أن يغوصا مرة أخرى، كانت السواعد التي تتجه نحوهما أقل عددا بحكم الدخول إلى منطقة تحتاج إلى مهارة في السباحة، لا قوة الوجود إلى الأرض في الماء الضحل، اتجها نحو منطقة أعشاب تنمو فوق صخور القاع، حماهما اللون القاتم من اكتشاف مكانهما. لمستهما برفق نباتات السافانا الناعمة التي تشبه أوراقها الذرة شعرا وسطها بالاطمئنان، دون أن يتطرق إلى ذهنيهما إمكانية اختباء كائنات أخرى مخيفة بين النباتات التي يداعبها الموج، صعدا معاً إلى السطح، وفضحا مكانهما. ما زالت المسافة بينهما وبين مطارديهما خطرة، ألقى أحدهم بجسمه نحوها، حتى كاد أن يمسك بها، وأفلت هو من آخر اقترب منه بمعجزة، غاصا بسرعة، وهما يشعران هذه المرة بجرأة المطاردين، وقدرتهم الكبيرة على الغوص وراءهما، تبعهما من هم أكثر تمكنا من السباحة، تاركين الآخرين قرب الشاطئ، فكر "لقد نمت قدرات كثيرة للشر دون أن نعي أو نلاحظ، تركناها ترعى حتى تحولت إلى وحش، وتساءلت هي: هل نستطيع معاً أن نصمد أم أنهم سيتمكنون من أحدنا عاجلا، أو آجلاً؟ ماذا يريدون؟ لماذا هربنا ولم نواجههم؟ ما الذي أخافنا؟ العدد؟ م الفجور؟ أم استيلاؤهم على مواقع كثيرة في غفلة منا؟
لم يستطعا الالتفات إلى الخلف حتى لا يقللان من سرعتيهما، لكنهما كانا يشعران بقوة السواعد التي تسحب الماء خلفهما، وحرارة اقترابها، كان قد استنشق كماً هائلاً من الهواء حبسه داخل رئتيه رافضا أن يخرجه حتى يقطع أكبر مسافة، دون حاجة إلى الصعود إلى السطح مرة أخرى، لكن الهواء الذي تم استنزاف أكسجينه تحول إلى عبء على رئتيه، وراح يضغط على صدره، حتى شعر أن يداً تمتد لتعتصر عروق رقبته، وأن رأسه قد وقعت بين قبضتين هائلتين تطحناها بيسر، فأطلق زفرة طويلة، دفعت خيطاً من الفقاعات الناعمة أمام وجهه، وساعده اندفاعها على التخلص من شعوره بالانسحاق، أزاح من أمامه أكبر قدر يستطيع من الماء لينطلق نحو الأعماق بقوة، وأدركت هي أن ما سحبته من الهواء لا يجب أن يبقى محبوساً في رئتيها، وأن عليها إخراجه بسرعة حتى تصبح خفيفة أكثر، فقد تدربت طويلاً على الغوص، الذي تحبه دون مساعدة أسطوانات الأكسجين، وحين شعرت أنها لم تعد بمستطيعة البقاء داخل الماء، دون تنفس فترة أطول، وبعد أن ساد داخلهما صمت راح ينتشر لأعلى، حتى كادت أن تختنق، نظرت نحوه فأدركا أنهما هالكان لا محالة، والاخضرار من حولهما يزداد زرقة، كلما غاصا أكثر ناحية الظلمة، ازداد الضغط في صدريهما حتى شعرا أنهما يوشكان على الانفجار كبالون هائل، مد كل منهما ذراعيه ليمسك بأصابع الآخر، جذبها نحوه، وهما يرتعشان معا برقصة انتشاء تشبه رعشة جماع لم يعرفا سببها في هذا الخطر، وتركا جسميهما للتيار، وقد فتحا فميهما ليسرى الماء الذي عرف طريقه على الفور، فظهرت الفقاعات مرة أخرى أمام وجهيهما، وراح الماء ينبه الخلايا كي تتذكر ميلادها البدائي الأول كخياشيم لكائنات رائعة في نفس المكان حيث الكتلة الهائلة للماء الناعم، مصدر الحياة الوحيد قبل أن تتحرر منه الكائنات وتكتشف في الجفاف حياة أخرى أو تتحرر الكائنات من الجفاف لتكتشف في البحر عالماً آخراً، لا يهم، استقبلتها الخلايا بفرح العاشق لحظة أن يمس حبيبته في قبلة طويلة، ينفذ منها إلى عمق وجودها، وراحت وردات الرئة تتحور إلى دوائر لها أهداب تغير لونها الوردي الذي عاش طويلاً داخل صدريهما، حتى أصبح قرمزياً، تمددت الخياشيم التي نبتت بسرعة، وراحت تمتص رحيق الحياة من الماء الذي يندفع إليها، وتنشر راحة غير مسبوقة فوق وجهيهما، ثم انقبضت لتكمل الدائرة وهي تطرد الماء الزائد قبل أن تستقبل ماءً جديداً محملاً بإكسير الحياة، واهباًً لهما طاقة وقوة على الانفلات والهرب، وانفتح البحر اللانهائي أمامهما مبشراً بعالم غير مستحيل.
[1] روائية وقاصة شهيرة وصحفية بارزة من مصر، رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون سابقا، ومن رواياتها "السباحة في قمقم"، (1988)، ورقصة الشمس والغيم (1989)، وأجنحة الحصان (قصص) 1992م، لها عدد كبير من الروايات والمجموعات القصصية القيمة، حائزة على عدد من الجوائز المرموقة، نشرت رواية "منتهى" في عام 1995، وهي قصة خيالية تجري أحداثها على ضفاف دلتا النيل، أما رواية "امرأة ما" فهي العمل الرابع لهالة البدري وقد حصلت على المركز الأول كأفضل رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب في عام 2001.، ولها أيضا رواية "ليس الآن"، و"مطر على بغداد"، (2010)أما روايتها نساء في بيتي فطبقت شهرتها في الآفاق. ولها أيضا عدد كبير من البحوث والدراسات والمؤلفات النقدية.