انطلقتُ من مدينة (قلقيليةَ) الفلسطينية مردوفًا على دراجة هوائية لابن خالتي في رحلتي الأولى إلى مدينة (كُفُر سابا)، وعدني أنْ نشاهدَ أجملَ فيلم مبهر على أكبر شاشة عرض في العالم، ترجّلنا في منتصف الطريق، واتجهنا نحو منحدر لطيف يشرف على سهل أخضر، استلقينا وأخذنا نراقب الشاشة الزرقاء العملاقة، شاهدنا قصةَ تنِّينٍ عظيمٍ يلتهم جبالاً من نار، بدت وكأنها نبوءة، تقمّصَتْ أدوارَها غمائمُ رشيقةٌ واسعةُ الخيال، ثم تفرّق الغمام.
تابعنا المسير نحو (كفر سابا)، وعند دخولِها كانت الصدمة! كيف يمكن أن يحدث شيءٌ كهذا؟ نقلَة ٌنوعيةٌ! لست حديث عهد بالمدن الأوروبية، فلقد زرت العديد منها في رحلات صيفية منصرمة، ولكنِّي ما توقعتُ قطُّ أنْ أصل إلى هكذا مدينة رائعة الجمال بوساطة دراجة هوائية!
لقد سرق الاحتلال من الأرض ما سرق، وأقام عليها حواضرَ مدهشةً تأسِرُ الألبابَ، وترك القرى والمدن الفلسطينية تنعم بعشوائيتها المنظمة.
ولأنَّني شخصٌ غيرُ موضوعي، وقومِيٌّ متعصِّبٌ، أنكرتُ ما رأيتُ، وألقيْتُ باللاَّئمة على الدراجة الهوائية! "ما هذه الدراجة إلا آلةٌ مسحورةٌ من آلآت الزمن! قفزَتْ بنا نحو المستقبل، فلا وجودٌ حاضرًا لما رأيت من إبداع! "قَفَلنا راجعين. في غفلة من البشر، توجهتُ إلى الدراجةِ الهوائيةِ وأشعَلْتُ فيها النيران.
لازمت مدينتي ولم أخرج منها أبدًا، وبعد عقد من الزمن وصلَ إلى مدينتِنا جدارٌ عظيمٌ حاصر سكانَها، وما هي إلا أشهرٌ قليلةٌ حتى بدأت حواضرُ منظمةٌ تأسرُ الألباب تطل برأسها علينا من خلف الجدار رافعة نجمة داود. أدركت عندها أن ما رأيته في (كفر سابا) كان عين اليقين، وبأن حرقي للدراجة الهوائية ما كان إلا طقسًا كهنوتيًا عقيمًا لتبرير دَسِّي لرأسي في التراب، لا أدري... هل آن الأوان لأن أعترف بالحقيقة وأن أرفع رأسي عاليًا؟ فضّلت مواصلة الإنكار فالخطر اقترب وأطل برأسه المريع من خلف الجدار.
في أحد الأيام شعرت بأنياب تُغرَسُ في رَقَبَتي، وأخرى تنهش جسدي، أدركت حينها أن النبوءة تحقَّقت، فها هو التنين قد ابتلع الجبال بحجرها وشجرها وبشرها، وأيقنت أنِّي قد انتهيت منذُ أمدٍ بعيد، فلقد هلكت يوم أحرقت الدراجة الهوائية.