طالب طموح بين رحى الحياة
د. تجمل حق[1]
سمع أنوار الحق قصة نجاحات المتخرجين في المدارس الدينية الهندية، فمنهم من أصبحوا أساتذة جامعيين، ومنهم من نالوا الوظيفة في أقسام ومصالح القطاع الحكومي، ورأى بأم عينيه منزلة علماء الدين في المجتمع والأموال الطائلة التي ادخرها أصحاب المدارس الدينية من العلماء، فقرر أن يجعل ابنا من أبنائه عالما دينيا ليصبح مثل أولئك الناجحين الذين سار ذكرهم في البلاد والعباد، ووقع الاختيار على ابنه الأكبر أمير الدين، أدخله أولا في كتاب القرية ثم في مدرسة ثانوية ثم أرسله إلى لكناؤ ليدرس هناك في مدرسة دينية كبيرة.
كان أمير الدين تواقا إلى تحقيق حلم أبيه منذ بداية مشواره التعليمي، ولكن والده كان بخيلا وذا دخل محدود، لا يرسل إليه مبلغا كافيا من المال ليشتري حاجياته ويواصل دراسته بدون أي صعوبة أو ضيق. وقد كان يقضي أيامه مشوش الذهن ومشرد الفكر لضيق ذات اليد، ويضطر أحياناً إلى الاتصال بأعمامه وأقربائه ليطلب منهم المساعدة المالية، فبعضهم كان يساعده بمال لا يسمن ولا يغني من جوع وبعضهم كان يعتذر.
كان يعلم أمير الدين حال أبيه وأسرته الكبيرة المكونة من خمسة أولاد وأربع بنات، ولذا لم يكن يلح على أبيه في طلب النقود رثاءً على حاله، وعندما كان يتصل به في الشدائد طالبا النقود، فكان يقص عليه قصص العلماء الذين تكبدوا المشقات في تحصيل العلم، وينهي حديثه عادةًً بمقولة مشهورة: "من لم يركب المصاعب لم ينل الرغائب".
تبرم أمير الدين من قصص أبيه المكررة، ولكنه لم يعارضه أبدا احتراما له، بل بدأ يتعلم مع مرور الأيام قضاء حياته على الكفاف، وقلل أطماعه، فلم يكن يأكل المأكولات الشهية التي كانت تباع عند بوابة المدرسة مساءً، ولم يشتر جوالا ذكيا كأقرانه، وبسبب الضيق المالي، لم يتمكن من شراء كتب مهمة وقواميس مفيدة ولم يدرج اسمه في برامج الكمبيوتر المسائية.
ورغم هذه المشاكل كلها، واصل أمير الدين تعليمه وشمر عن ساعد جده ليتفوق في دراسته للالتحاق بركب الناجحين الذين قص أبوه عليه قصصهم في صغره. وكان يطمح أن يكون أستاذا جامعيا.
قضى أمير الدين نحو اثني عشر عاما في المدرسة وحصل على شهادة الفضيلة بتقدير ممتاز، وذهب إلى بيته حاملا شهادته، فاستقبله أبوه وأسرته بحفاوة بالغة وحسبوا أن أمير الدين سيكتب الآن قصة نجاح جديدة... ولكنه قال لأبيه بعد أيام مضت على قدومه: "يا أبي شهادة الفضيلة التي حصلت عليها تعادل الثانوية، وعليّ أن التحق بجامعة هندية أو سعودية لتحقيق حلمك..." فقال له أبوه: "أرسل شهاداتك إلى جامعات سعودية، ستجد هناك منحة دراسية ويمكنك مواصلة دراستك مجانا هناك". فأرسل أوراقه إلى جامعات سعودية وانتظر عاما كاملا ولكنه لم ينل القبول في أي جامعة سعودية فألح على أبيه أن يدخله في أي جامعة مركزية تقع في دلهي، ولكنه رفض قائلا: "لا أستطيع الآن تحمل مصروفاتك الدراسية في تلك الجامعات، انظر الى أخواتك وإخوانك، يجب عليّ أن أزودهم بالتعليم أيضا ولا سيما أخواتك لتزويجهن في عائلات محترمة".
ونظرا إلى مشاكل أبيه، بدأ أمير الدين يدرّس في مدرسة دينية، وواصل استعداداه للامتحانات التنافسية للالتحاق بجامعة مركزية، ولا سيما لامتحان جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، وقد حضر اختبارها، وأجاد الإجابة على جميع الأسئلة، ورغم ذلك لم يجد القبول بسبب التنافس الشديد، ثم كرر محاولات ولكنها باءت بالفشل، ولذا قرر الالتحاق بجامعة بوصفه طالبا غير منتظم والحصول على شهادتي البكالوريوس والماجستير توفيرا للوقت والمال، وبدأ الاستعداد في الوقت نفسه للاختبار التأهيلي لأساتذة الجامعات والكليات (NET) وللمنحة البحثية للباحثين في الدكتوراه JRF/ SRFالتي تمنح من قبل هيئة المنح الجامعية، ولكنه لم ينجح في هذا الاختبار أيضا، لأنه لم يجد وقتا كافيا للدراسة في المدرسة التي كان يدرّس فيها، وقد كلفته إدارة المدرسة بمهام تدريسية وإدارية متعددة، وعينته أيضا سفير المدرسة، وهذا المنصب يلوح براقا ولكنه ليس كذلك، فمن متطلباته جمع التبرعات والصدقات متجولا في القرى والمدن وتحمل أذى كلام الناس خلال القيام بهذا العمل، وهذا أمر صعب للغاية، يصبح المرء فيه متسولا و ينظر له المجتمع كأنه محتال وماكر وأكال أموال الناس بالباطل، وذلك بسبب انتشار سفراء المدرسة المزورين والدجالين.
لم يشأ أمير الدين أن يكون محصّل التبرعات يوما، ورغم دراسته في المدرسة التي تجري بتبرعات أهل الخير، انتقد دائما على طرق جمع التبرعات، ولكن ما بيده حيلة لتغيير هذا النمط السائد لجمع التبرعات في الهند، فتقبله على مضض مدركا أن هذه المدارس هي الملاذ الآمن له ومصدر رزقه وذريعة تحقيق حلمه وحلم أبيه.
كان يخطو أمير الدين في سبيل تحقيق أحلامه بخطى حثيثة إذ داهمت جائحة كورونا، فأغلقت المدارس أبوابها وفر الناس إلى بيوتهم فرار الظباء من الأسد خوفا على حياتهم، واستمر الإغلاق نحو عامين، فأصبح عاطلا عن العمل وساءت حالته المعيشية في هذه الأثناء، ولذا بدأ يدرّس في كتاب قريته ولكن أهل قريته أبعدوه عن التدريس بسبب الخصام الذي جرى بين أسرته وبعض المتنفذين في القرية، فاتجه إلى كيرالا ليعمل كعامل عادي مهاجر لأسباب قاهرة، وعمل هناك حمالا وفراشا وعاملا في المزرعة، وقام بأعمال أخرى ما تيسرت له كل يوم، وكان يقف بجانب الطريق، ويدعوه صاحب العمل لإنجاز أعماله المتنوعة لقاء أجرة قدرها نحو ثمان مئة روبية يوميا، فينفق النذر اليسير منه في طعامه ومسكنه، ويدخر البقية لإرسالها إلى بيته.
وقد واجه في كيرالا مصاعب عديدة، ربما تعرض لملاحقة الشرطة بسبب مخالفة قوانين الإغلاق التي طبقت للحد من انتشار كورونا، وتارة لم يعجب السيد بعمله، فزجره وسبه واقتطع من أجرته اليومية غاضبا عليه، وكثيراً ما واجه انتقاد الناس والمجتمع على عمله كعامل مهاجر عادي رغم كونه عالما دينيا، والناس سخروا من انتماءه المكاني والديني وهيئته التي تشبه " المولوي" أيضا.
عمل أمير الدين في كيرالا نحو أربعة أشهر ثم فكر في أن يتوظف في أي مسجد كإمام أو مؤذن، ولكنه لم يجد هذه الوظيفة أيضا إلا بعد مشقة وبوساطة خاله الذي يعمل إماما في مسجد بحيدر آباد. وبشفاعته، وجد وظيفة الواعظ الديني في مسجد في بنجالور ولكنه عزل عن هذا المنصب بعد شهرين لأن لجنة المسجد اعتذرت عن إعطاء راتبه الشهري بسبب الضيق المالي. وبعد أيام، وجد وظيفة المؤذن في مسجد آخر في المدينة نفسها، فاكتشف فيما بعد أن هذه الوظيفة رغم علو مكانته في الإسلام أقل منزلة من الفراش عند معظم لجان المسجد. فالمؤذن يكلف بتنظيف المسجد وحمامه وغسل فنائه الواسع وتنظيف حصائره ومراوحه وكل شيء يوجد في المسجد من صغير وكبير. وما يزيد الطين بلة أن المصلين أيضا كانوا يأمرونه بتنظيف المسجد والاهتمام به وينصحونه باجتناب التكاسل ويهددونه بالعزل من الوظيفة إذا لم يقم بواجباته أو يعمل عملا لا يرضونه، ورضا الناس غاية لا تدرك.
تعرض أمير الدين بوصفه مؤذنا لتوبيخ رئيس لجنة المسجد وبعض أعضاءها إذا صدر منه الخطأ المزعوم الذي يرونه كبيرا في نظرتهم، وكأنه خطأ لا يغتفر، فيقولون له:
"لماذا لم تنظف مروحة رقم 4؟
لماذا لم تصلح لمبة رقم ٧؟
لماذا تترك المروحة مشغلّّة بعد ذهاب المصلين...؟ وهلم جرا.
وذات يوم، سئم أمير الدين من شكواهم، فقال بصوت عال:" لا يمكن لي أن أراقب الناس كالحدأة وهل يمكن أن أتخطى رقاب الناس لإيقاف مروحة لا يوجد تحتها أي مصل". قيل له بعد أيام مضت على هذا الحادث: "إن مجلس إدارة المسجد لا يريد خدمتك وقد وجدنا مؤذنا مطواعا". فترك هذه الوظيفة أيضا وحاول أن يجد وظيفة الإمام في مسجد جامع كبير، ولكنه لم يجد الوظيفة التي كان يهواها لأنه لم يكن حافظا للقران الكريم وخطيبا رنانا. وأخيرا، وجد وظيفة مندوب المبيعات في متجر القماش براتب قليل واقتنع به على رغم أنفه وتخلى عن حلمه العزيز يائسا، لأن عمره كان يزداد وتصر عائلته على زواجه وإثقال كاهله بمسؤوليات، وأهمها مساعدة أبيه المتقدم في السن في إدارة البيت وشؤونه، وهذه المسؤوليات لا يمكن تحملها بدون المال! ولذا رضي بوظيفة وجدها بعد مشقة. ولكن اقلقته دائما أسئلة حول طموحه وواقعه، أي شيء وقف حائلا في تحقيق أحلامه؟ بخل أبيه وفقره أم حوادث حياته أم نظام المجتمع أم عدم جديته وسوء تخطيطه في الحياة في غياب مستشار أكاديمي يأخذ بيده عند الحاجة. وكم طلاب أذكياء يتخرجون في المدارس الدينية الهندية كل عام، ويضيع مستقبلهم وتتبدد أحلامهم جراء هذه المعوقات! فيصبحون عاملين بسيطين في شركات خاصة أو مؤسسات صغيرة رغم امتلاكهم مواهب وقدرات، أو يعملون أعمالا تافهة لا تليق بمستواهم العلمي.
وبهول الصدمة، ربما ينفجر أمير الدين باكيا عندما يتذكر حاله وحال أمثاله من الطلاب ويصيح شاكيا "هل هناك من يأخذ بيد الشباب الطموحين المتخرجين في المدارس الدينية الهندية؟ أليس في مجتمعنا رجل رشيد؟ إلى متى تضيع الأحلام والطموحات في المتاهات؟
[1] أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية بكلية مهيتوش ناندي التابعة لجامعة كلكتا، جانغي بارا، هوغلي، ولاية بنغال الغربية.