قبر لكل الدموع
بقلم: إليامين بن تومي - الجزائر[1]
دخل البيت على غير عادته، لم تسأله أمه اليوم عن صراعه للحياة، وعن هجراته البيت طوال اليوم، كانت عادتها المفضلة أن تسأله أبناءها عن كل شيء.
رمقها وابتسامة جميلة تولد عسيرة على محيَّاها، تقدم نحوها مقبلا يدها الكريمة والحيرة تكاد تشطره، ما كاد يذهب بوسوسته بعيدا حتى قضت على شكوكه، وأخمدت سؤاله في جوفه قبل اشتعاله صوتا.. قالت:
اذهب إلى غرفة الاستقبال يا ولدي إنه خبر جميل في هذه الأيام التي شحت علينا بأفراحها.. وضع كتبه الموغلة في زمن الثورة فوق مكتبه ليعيش حاضره، ونفسه تتوق لمعرفة هذا الخبر الذي ولد عسيرا، خبر لفظه القدر الرحيم..
أخذ طريقه إلى غرفة الاستقبال وكله أمل أن يجد ما يحملك أيتها الذات على أن تنفصلي عن هذا الاسم، عن هذا الموقع..
وضع أولى خطوات الانفصال وصوت ينفجر من حلقه..
عمي حَمُّو.. عمي حمو..
ارتمى بين أحضانه وكأنه يُخَيَّلُ له أنه يستنشق عبق دفئك وحنينك "حياة" شعر بحرارة الجسد تعود له مرة أخرى.. يَجُرُّ الذكرى. لحظات كان فيها يشحن الطاقة يستمد منها إنسانيته. تسائل ولا زال حضن عمه يعطر جوانحه..
لماذا تأخذني الذكريات هكذا مأخذ...؟
ربما لأن عمي حمو يحمل معه عطر الهواء الذي تتنفسينه.. هواء الغربة لزال يسري في رئتيه. لقد اشتمَمْتُكِ بعنف.. ها أنا أذوب في رسالة النَّسيم المحمولة على حين غرة، لا أملك إلا أن أتماهى داخلها.. ها أنا أشعر بروحك تهزني وضلوعك تنساب تحت ذراعي.. لكن لم تكوني هنا بل روحك المسجونة داخلي من تُعذِّبُني..
أسئلة كثيرة عشت عليها في شد الحضن ساعتها.. لم أفق كثيرا بل وحده صدى الأصوات من يؤنسني في غربتي تلك.. اسمع ابن عمي مختار يقول:
ما به.. هل أغمي عليه...؟
الجميع حول جسدي الذي غادرته روحه إلى متاهة القلب المفجوع.. كلهم حيارى. أمي تقول:
أحضروا الرِّيحة...
أبي: لا تخافوا تعلمون أنه يحب عمه كثيرا..
أختي الكبرى: اطلبوا الإسعاف..
لا أحد يسأل عن سبب ما أنا به.. وحدك أيتها الذات البائسة من تجثمين على جسدي المسكين تعذبينه بالذكريات.. وحده عمي من يكشف لهم.. لا تخافوا إنها نوبة فقط.. فتحت عيناي وكأني افتحها لأول مرة.. مولود جديد أيها العالم قادم إليك.. مولود أتعس من الذي مات قبل قليل.. خديني أيتها الحياة واقذفني أيها الموت.. مازال نصفي هناك على رصيف البحر..
أفتح عيناي والوجوه الحزينة تخطف وجهي الشاحب.. مالك أيها الجمع تنظر لي بهذا الشكل سئمت أن أراكم على كل قبري حزانى، لم أمت بعد ما زال قلبي يتحرك لهفا للحياة..
يمسح عمي حمو جبيني بيده الخضراء المجلوبة من جنتك.. أفقت ورأسي سَكَن لصراع لم يعالجني قبل هذا.. أخذت ريشتي لأرسم على وجهي.. على شفتي ابتسامة المولود الجديد..
أفقت وابتسامة تفيق معي: كيف حالك عمي؟
عمي بل كيف حالك أنت؟
لقد أفزعتنا يا رجل، متى عالجتك مثل هذه...؟
أقطع عليهم خوفهم وأسئلتهم:
دعنا يا عمي من هذا سنتحدث لا حقا في هذا.. وأخبرني عن هذا الشيب الذي طوق رأسك وزَانَ لحيتك جمالا.. عمي مُلَمِّحا..
أيها الهارب من حاله.. تنقض نفسك لتروطني، دعنا الآن من كل هذا..
همست إلى نفسي قائلا:
لا تكمل يا عمي كلنا نتقن لعبة الهروب إلا أمي التي لا تتجاوز حياتها بين أن تُلبِّي رغباتنا أو أن تراها تسجن دموعها في قطعة القماش المسماة بالمنديل، لقد أنهكتها المسلسلات المدبلجة.
فأنا لا أجرؤ أن أقول إن أمي تحترف الضياع في حياة أكثر إغراء واشتهاء ...فمنذ أن أَدْمَنَت هذه العادة أصبحتُ أسمع منها كلاما عن تحرر المرأة، وكأني بها قد سئمت هذا السجن، لذلك تهرب باحتراف إلى تلك المسلسلات التي تحقق فيها بعض ما سرق منها.
فلطالما أَسَرَّتْ لي بأنها لو حالفها الحظ في مجتمع كالذي تشاهده لأصبحت رئيسة وزراء..
شاهدتها ذات مساء تبكي.. تخفي دموعها. خشية أن يراها أحد.. ظننت أن بها سوء قلت لها:
ما بك يا أمي.. أكنت تبكين.. رفعت بعض شعرها عن وجهها أأنت مريضة؟
لا يا ولدي.. إن البطلة فقدت طفلها..
فتعجبت لحالها وسعدت كثيرا أن أمي تذكرني أن الإنسان ما زال ينبض داخلنا.. في أعماق الوحوش التي نقابل بها بعضنا.. لحظتها قلت:
ها أنت يا ذاتي تفقدين كل يوم عشرات الضحايا فلماذا لا تبكين ...؟ هل تسمرت قطرات الندي على أوراقك؟
إن أمي تبكي لا على الطفل الذي فقدته أمه، بل تبكي علينا نحن أبناءها خشية أن تـفقد أحدنا.. إنها تخاف إذا أخذت تحسبها ذات مساء ولم تجد العدد ثمانية، هذا الرقم الذي تحمد الله عليه كل مساء. إنها تراهن لو أن العدد أصبح سبعة أو ستة ماذا ستفعل...؟ أكيد أن جوابها يكمن في هذا المشهد.. جوابها دموعها. هذا القدر الذي نستسلم له، حين نفقد جزءا منَّا فنحاول نسيانه بأن نغسل قلوبنا منه. كم هي رائعة لا تستطيع كتمان مشاعرها ولكن إيه على تلك القطرات لو لم تجد ذلك المندل اللعين قبرا لها..