ما إن بدأ هارش يفك حزام الكفن، حتى سمع همسات وأصوات أقدام خافتة، ففزع ورفع رأسه من القبر قليلاً ليرى ماذا يحدث، فتراءى له رجلان يتحدثان فيما بينهما بصوت خافت ويدفعان عربة صغيرة بين القبور المتناثرة على ضفة النهر، ربما كانا قد أوقفا سيارتهما على الشارع العام الذي بني على الحاجز وفصل بين المدينة ونهر غانغا. كان هارش مازال يلهث، فقد قضى حوالي نصف ساعة في حفر هذا القبر في هذه البيئة المرعبة الموحشة حيث لا تُرى على هذه الضفة إلا قبور متناثرة على مدى البصر.
صارت أصواتهما أوضح قليلاً إذ كانا يقتربان منه رويدا رويدا، فأصغى إليهما:
سمع هارش أحدهما يقول هذا فخاف على نفسه واستلقى بجنب جثة القبر لكيلا يراه أحدهما وخُيّل له أن سارقا يتخفّى من سارق آخر، وفي أثناء دقيقة واحدة بدأت الجثث تتساقط عليه، وعندما توقفا عن إلقاء الجثث، شعر هارش كأنه يرزح تحت ركام الجثث، وسيموت اختناقاً لو بقي هناك بضع دقائق أخرى، ثم سمع أحدهما يقول:
"ممكن نلقي فيه مزيداً من الجثث، ثم نواريهم التراب لاحقاً".
انتظر حتى خفتت أصواتهما ولم تعد تبلغ أذنيه، وعند ذلك حاول بكل جهد أن يخرج من هذه الحفرة، وبذل كل ما في وسعه لإزاحة الجثث عن نفسه إذ أن خوف أن يُدفن حياً في قبر ملأه بطاقة استثنائية، فخرج منه لاهثا منهكا، ومبللا بالعرق، واختفى وراء قبر آخر.
وفي الحقيقة، لم يكن هارش سارقا محترفاً، فلم يسرق قط في حياته فضلا عن سرق الكفن، ولم يخطر بباله قط في الماضي أنه سيأتي يوم يضطر فيه لسرق الكفن، ولكن الجوع ...............، فمنذ أغلقت الشركة التي كان يعمل فيها في العام الماضي خلال الإغلاق التام، لم يجد عملا آخر، فصرف كل ما كان قد ادخر، وباع حتى حلى زوجته واحدة تلو أخرى، والآن لم يبق لديه شيء يبيعه. ولا يمكن أن يجد العمل خلال هذا الكساد الكبير والإغلاق المتقطع المستمر، فماذا يفعل؟ ولا يدري كيف خطرت بباله فكرة سرق الكفن من قبور هذه الضفة التي بدأ الإعلام يتحدث عنها منذ يومين.
ولمّا نزل من الشارع العام إلى الضفة، خفق قلبه بشدة، وشعر بنوع من الهلع، فلم تكن هذه الضفة لهذا النهر المبارك مخيفة وموحشة قط كما بدت له اليوم والتي هي الأخرى تحولت إلى مقبرة واسعة لا حدود لها يحفها الخوف والرعب من كل جهة، ولكن بطش الجوع جعله يتغلب على كل مخاوفه. أوغل في الضفة إلى النهر حتى لا يستطيع أحد أن يراه من الشارع العام، وبدأ في حفر قبر، وعندما نجح في إزالة التراب عن الجثة بعد جهد جهيد، لاح له الكفن، وبينما كان يجاهد ليسكت ضميره، ويبرر السرقة قائلا لنفسه: "إن هذا الكفن سيتحول إلى التراب ولا يفيد شيئاً، ماذا لو استفاد منه وملأ بطنه ووفر الطعام لأولاده"، لقد أفسد الرجلان خطته. ولكنه كان قد عقد العزم على أنه لن يعود من هنا صفر اليدين كائنا ما كان، فاستراح قليلا حتى تغلب على أنفاسه، وعندما تأكد من مغادرة الرجلين بسيارتهما إلى المستشفى ليأتيا بمزيد من الجثث، قام من مكانه بنشاط جديد وأسرع إلى ذلك القبر مرة أخرى، وتمكن من جمع ثمانية أكفان من قبر واحد، وقال لنفسه: "هذا يكفيني لليوم" ثم ألقى نظرة وأراد أن يحصي عدد القبور ليحسب حسابا عن كمية الأكفان التي سيحصل عليها في الليالي القادمة ولكن لم يستطع، فليست هناك إلا قبور على طول الضفة وعرضها، فنفض فكرة إحصاء القبور عن رأسه، ورفع حزمة الأكفان، ومضى في طريقه إلى بيته.
ولما وصل إلى البيت وجد زوجته وأبنائه مستغرقين في نوم عميق، فصعد السلم إلى السطح خلسةً ودخل توا في المغتسل، وبذل نحو ساعة في غسل الأكفان، وشطفها، وتنظيف بقعها، ونشرها على الحبال للتجفيف. ثم اغتسل وجعل يفرك جسمه فركا كأنه لا يريد أن ينظف جسمه من جراثيم كوفيد 19 فحسب، بل من لوث الأكفان أيضا. نزل من على السطح واستلقى على بعد شبر من زوجته وأبنائه وأراد أن ينام ولكن النوم خذله وربما تأخر عنه ليتركه يتحسر على فعلته أو يُطمئن نفسه بدلائله الزائفة، فكان هناك صراع شديد في قرارة نفسه، فحينا شعر ضميره يخزه، وحينا آخر وجد عقله يبرر صنيعه، واخيراًً عندما بدأت الطيور تتغرد وتؤذن بحلول الفجر، بدأ النوم يغشى عليه رويداً رويداً.
صفر صمام الأمان في القدر فأيقظه من نومه، وعندما لاحت له الشمس من النافذة انتبه بأنه علا النهار، فأسرع إلى السطح وجمع الأكفان المغسولة في حزمة ثم جلس مع أبنائه ينتظر زوجته التي كانت تقسم الطعام في الصحون وهي تهمهم، وعندما مدت إليه صحنه قالت له: "لم يكن في البيت شيء نأكله، فشكوت إلى أبي وبكيت حتى ترحم علينا وأرسل لنا الرز والبطاطس رغم سوء أحواله المالية. عليك أن تجد عملا وإلا سنموت جوعا." سمع ما قالت زوجته بهدوء ثم أجاب متبسماً "لا تقلقي، قد وجدت عملا سيغنينا عن الجوع."