ما قالته العرب في ملحمة الفلسطينيّ
أ.د.سناء الشعلان/ الأردن
لا بدّ أنّ الجنديّ الصّهيونيّ ليس إنساناً،بل وحشاً كاسراً كي يقوى قلبه على قتل الأبرياء،وتهجيرهم،وسرقة فلسطينهم.لم يرَ في حياته جنديّاً صهيونيّاً،فقد وُلد في مخيّم (الكرامة) خارج وطنه،ولكنّه يعلم من والديه أنّ الوحوش الصّهيونيّة تعسكر هناك غربيّ النّهر.
لقد تبعتهم الوحوش المطاردة إلى مخيّم (الكرامة) محصّنّة بدبّابات عملاقة وآليّات مدمّرة لتقضي على الفدائيين، سريعاً ما انهزموا شرّ هزيمة على يد المتصدّين لهم،ووقعوا في الأسر،سُمح له ولأطفال المخيّم الفضوليين الذي حاصروا الدّبابات الصّهيونيّة المأسورة بأن يطلّوا على الوحوش المحاصرة فيها.
كان أوّل من أطل من فوّهة الدبّابة ليلقي نظرة على من يقبع فيها،رأى جنديّاًَ صهيونيّاً مكبّلاً بالسّلاسل مثبّتاً في قاع الدبّابة لا يستطيع الحراك.أخبره الأبطال المنتصرون أنّ العدوّ الصّهيونيّ أرسل جنوده إلى حرب (الكرامة) مكبّلين بالسّلاسل كي يضمن أن لا يهربوا من ساحة المعركة لشدّة جبنهم.
تفاجأ بأنّ الجنديّ الصّهيونيّ هو رجل لا وحش كما كان يعتقد،ابتسم البطل المنتصر،وقال له: "لا،هو ليس وحشاً،هو مجرّد كلب جبان مقيّد بالسّلاسل".
دعم
قرّروا أن يدعموا القضيّة الفلسطينيّة دعماً قويّاً يشدّ من أزرها،أسّسوا منظمة عربيّة إسلاميّة عالميّة لذلك،جمعوا لها المال العرمرم،ووزّعوا المناصب الفخريّة والإداريّة وفق مبالغ المال المقدّمة من بلادهم ومؤسّساتهم،وعدوا الجماهير التّائقة للحريّة والكرامة العربيّة بأن يكون لهم إجراء داعم ومؤثّر وسريع،وأمّلوا الشّعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة والشّتات بحلول جذريّة لمعاناتهم،وبقرار واحد جريء منتظر مأمول قرّروا أن يستأجروا قرية سياحيّة في جزيرة نائية لتكون لهم فيها خلوة لمدّة غير محدودة كي يفكّروا بهدوء بما عليهم أن يفعلوه في سبيل تحقيق وعودهم،ورصدوا ميزانيّة عملاقة من التّبرعات العربيّة لمنظّمتهم كي يرفّهوا عن أنفسهم بالنّساء والخمر والملذّات كي تتفتّق ذواتهم المظلمة عن فكرة منيرة لدعم الفلسطينيين،وطال اجتماعهم،وطال انتظار الفلسطينيين لحلّ لا يأتي.
دماء
هناك على سطح الأرض يتناحرون عرباً تحت مسميّات فلسطينيّ وغير فلسطينيّ،لا تعنيه هذه الحرب،يغلق على نفسه باب القبو،ويعتزل هناك بعيداً عن حمّام الدّم الرّهيب،فهو يعلم أنّ مؤامرة تقتيل الفلسطينيين هي جزء من مؤامرة إبادتهم وإقامة دولة كبرى للكيان الصّهيونيّ.
لا يريد أن يتورّط في هذه المهزلة،يضرب صفحاً دون الخوض في هذه المؤامرة،يهرب من فريقه الذي لا يفهم لِمَ يحارب،ويأخذ بيد صديقه الفلسطينيّ، وينعزلان في القبو،هناك يتذكّران أيّام الطّفولة،ويتصفّحان صور اللّهو والبراءة،ويتركان العالم في الخارج يتناحر في دروب جهنّم.
منهاج جديد
يوبّخها والدها بشدّة كما يوبّخ سائر إخوتها إن لم تحصّل العلامة النّهائيّة الكاملة في المواد التي تدرسها في مدرسة(الأونروا)التي يدرسون فيها بالمجّان؛ويكرّر على مسامعهم دون كلل أو ملل:"ليس للفلسطينيين ثروة سوى العلم،إيّاكم والجهل، عليكم جميعاً أن تواصلوا دراساتكم العلميّة حتى لو بعت ملابسي وملابسكم لأجل ذلك".
منهاج جديد قد أصدرته الدّولة العربيّة التي يدرسون فيها،فرحوا لأنّهم سيحصلون جميعهم في الصّف على كتب جديدة غير مستعملة بخلاف ما ألفوا الحصول عليه من كتب مستعملة مهترئة.
حصلتْ على كتابي تاريخ وجغرافيا جديدين،تفوح منهما رائحة الورق الجديد الذي لم تعبث به الأيدي الآدميّة،في كتاب الجغرافيا بحثت عن خارطة فلسطين،فوجدتْ اسم إسرائيل يتربّع في وسطها،وفي مادة التّاريخ وجدت اسم إسرائيل كدولة من دول الجوار.
أطبقت الكتابين دون اهتمام بأن يتمزّقا،وما عادت تبالي بأن تأخذ أصفاراً في مادتي الجغرافيا والتّاريخ لأنّهما مادتان خائنتان.
صهاينة
منذ كانتْ صغيرة علّمها أهلها أنّ اليهود الصّهاينة هم من اغتصبوا وطنها فلسطين،وطردوها وشعبها منه.كبرتْ وفلسطين معلّقة في صدرها عشقاً،وفي رقبتها خريطة من المعدن لا تفارقها أبداً.
ذلك الجنديّ العربيّ هو أوّل من قطع قلادتها الفلسطينيّة في مسيرة احتجاجيّة على استمرار الاحتلال الصّهيونيّ لفلسطين،وألقى بها على الأرض،وداسها بحذائه العسكريّ الغليظ،وقال لها:"الصّهاينة أحسن منكم! ما الذي أتى بكم إلينا؟"
بكت أيّاماً طويلة في طفولتها تأثّراً من هذا الموقف المخيّب للآمال.لكنّها عندما كبرتْ اكتشفت أنّ هذا الموقف هو الأقل إيلاماً إذ قورن بتهجيرها وأهلها من موطنها إلى بلد آخر،واضطهادهم خبط عشواء مرّة تلو الأخرى لأنّهم كما تقول جدّتها:"حمّالين الأسى والإساءة".
اليوم طردها صاحب البيت وأهلها من بيتهم القنّ الذي يستأجرونه منذ عقدين من الزّمان في خضم الانفلات الأمنيّ وتغيير مراكز السّلطة في هذه البلد العربيّ الذي يعيشون فيه؛فقد طمع صاحب البيت في المزيد من المال إذا ما ألقى بهم في الشّارع،وأجّر البيت لمن يدفع أكثر منهم.وقد غنم من هذا الانقلاب عليهم أثاثهم وملابسهم وكلّ ما يملكون بعد أن طردهم من بيتهم عراة حفاة خالي الوفاض،وما وجدوا أحداً ينتصر لهم.
من جديد وجدوا أنفسهم أسرة فلسطينيّة في مهبّ الضّياع.التفتتْ إلى أمّها التي عضّها الحزن حتى نخر صبرها،وقالتْ لها معاتبة:"لقد قلتِ لي أن الصّهاينة موجودين في فلسطين فقط!"
ردّت الأم وهي تجرّ جسدها وزوجها العجوز:"إنّهم هنا أيضاً".
شرف
"العربيّ شريف لا يُضام،ولا يقبل أن يُهان"،كتبت معلّمة محو الأميّة على السّبورة،استدارت لتقابل وجوه نساء المخيّم اللّواتي أتين لمحو أميتهن،قرأت الجملة على مسامع الطّالبات أكثر من مرّة،وسألتْ :"من تقرأها لي من جديد؟"
سرتْ همهمة في الصّف،ثم زمزمة،ثم علت ضحكاتْ تقرقر مثل تداعي قربة ماء على الأرض،سألت المعلّمة صغيرة السّن على استحياء وبحرج بادٍ:"هل قلتُ شيئاً يدعو للضّحك؟!
أجابت أمّ محمود زعيمة نساء الصّف:"هذا كان زمان،والله جبر.انظري إلى حالنا الآن.أين العرب ممّا يحدث؟"
أضافت امرأة أخرى باستهزاء: "العرب الشّرفاء موجودون فقط على السّبّورة".
عروبة
مطّ الثّري العربيّ كرشه الذي يتدلّى ليهرس عضوه التّناسليّ القزم الذي أغدق عليه دون انقطاع بالجواري والحسان اللواتي ما استطعن لكسره جبراً،ولا لعطبه دواء.
يحبّ أن يظهر مبتسماً في الصّحف،وهو يفيض بماله صداقات وعطايا على الغرباء المنكوبين والحيوانات الآيلة للانقراض والمباني الأثريّة في مجاهل بلاد العالم والنّساء الجميلات التي يستدرجهنّ إلى قصر حريمه.
يحبّ لقب المحسن العربيّ،ويكثر من التّزيّن بالدّمقس والحرير والمعصفر والمفضّض والمذهب والمألمس من فاخر الثّياب ونادر الأحذية ونفيس الجلود والفراء.
لقد تبرّع بالمال للدّاني والقاصي،وظهرتْ صوره في استعراضات صدقاته في صحف عالميّة لا يجيد أن يقرأ كلمة من كلمات أخبارها بسبب جهله بلغاتها فضلاً عن جهله بلغته.
زعم في لقاء صحفيّ أنّ معاناة الشّعب الفلسطينيّ قد أحرقتْ قلبه الملبّد بالدّهون،وحرص على أن تبرز الوسائل الإعلاميّة دموعه الثّرة التي أهداها بسخاء للشّعب الفلسطينيّ،وفرض على نفسه عمرة للدّعاء لهم،وعند الكعبة سأل الله إلحافاً أن يعينهم،وأن يهبهم من يكون في عونهم،ومطّ شفتيه طويلاً بالدّعاء لهم إلى حين تلتقط عدسات كاميرات التّصوير صورة مناسبة له تسجّل دعمه المؤزّر للقضيّة الفلسطينيّة!
جنديّ
قبّلته أمّه، وقالتْ له على رؤوس الأشهاد من أسرته وأقاربه: "إيّاك أن تعود إلى البيت قبل أن تحرّروا فلسطين.لن أرضى عنك إنْ لم تفعل ذلك".
لقد تجنّد في هذه الجيش منذ سنتين، لكن هذا التّحرير هو مهمّته المقدّسة،يشعر بفخر عظيم لأنّه ضمن جيش عربيّ كبير جاء ليشارك في تحرير فلسطين من عصابات صهيونيّة استولت على جزء كبير منها.
بدأت الحرب مع شرذمة من الصّهاينة، يستطيعون أن يبيدوهم جميعاً مع غروب شمس هذا اليوم إن اجتهدوا بإخلاص لذلك،إلاّ أنّ أمراً بالانسحاب يأتيهم من قيادتهم هناك في العاصمة العربيّة،يتعجّب من هذا الأمر الذي جاء في قمّة انتصارهم،ينسحب الجيش الذي يأويه كاملاً،ولكّنه يرفض أن ينسحب،ينطلق وحده عكس درب جيش الجباه المحنية والعيون المكسورة والبنادق الخاذلة،ويقرّر أن يقاتل العصابات الصّهيونيّة وحده.
مظاهرة
كان المخيّم الفلسطينيّ(صبرا شاتيلا) يُذبح من الوريد إلى الوريد على أيدي مجرمي العرب والصّهاينة،استنجد المخيّم بأبنائه الفدائيين،فلم يجد ملبّين منهم إلاّ القليل ممّن ظلّوا بعد رحيل الجميع،بذلوا أرواحهم رخيصة للدّفاع عنه،في حين كان البحر يحوش باقي الفدائيين الفلسطينيين،ويسرقهم نحو منافيه الجديدة بعيداً عن أهاليهم وذكرياتهم وأحلامهم وقبور رفاقهم في درب المقاومة.
أمّا العرب فكانوا جميعاً يقومون بدور من أدوارهم التّاريخيّة الحاسمة،إذ كانوا يتابعون بإخلاص واهتمام تصفيات العالم في كرة القدم،ويعدّون الأهداف،ويتحيّزون لخاسر أو فائز وفق أهوائهم.
في الصّباح كان مخيّم(صبرا وشاتيلا) نهراً من الدّم الفلسطينيّ، وكان العرب الأشاوس في كلّ شبر في الوطن العربيّ قد هبّوا هبّة واحدة جريئة غاضبة في مظاهرات مليونيّة دعماً لفريق كرويّ عربيّ قد خسر،وآخر قد ربح،ولم يتذكّروا قتلى المخيّم التّعس بمظاهرة واحدة من مظاهراتهم التّاريخيّة المدوّية! فنام المخيّم على حزنه،ولم يستيقظ!
لطيم
هي عاقر،رحمها أجدب لا يستجيب لهاجسها بأن تصبح أغنى النّساء لا أمّاً راعية حانية،هي تريد طفلاً كي تتبّاه،فتحرق ماضيه كاملاً،وتنسبه لنفسها وزوجها كي يكون الوارث لثروته،فيؤول المال كلّه إليها بدل أن يذهب لأقارب زوجها بعد موته.
وأخيراً وجدت مبتغاها في أيتام المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان الذين هلك عنهم أهلوهم،وتركوهم أيتاماً لا شفيق عليهم،ولا رحيم بهم،حصلتْ بسهولة على طفل لطيم منهم دون أيّ شروط للتّبني،اختارته على هواها أشقر مسدل الشّعر ذهبيّ البشرة أخضر العينين،انتزعته من بين أختيه، ورفضت أن تتبنّاهما معه، إذ هي في حاجة إلى طفل ذكر يرث ثروة زوجها،وليستْ باحثة عن أجر أو إحسان أو ممارسة أمومة.
أخذته إلى بيتها يبكي بحرقة أختيه اللّتين أُنتزع منهما،وأعلنتْ أنّه ابنها،وغيّرتْ اسمه،ومنعته من أن يتذكّر المخيّم وأهله وأختيه.بعد مدّة قصيرة نسي أنّه فلسطينيّ، وتاه في الزّحام بفضل العربيّة المحسنة التي تبنّته،وبترته عن أصله! ۞۞۞