"كابولي والا"
(رجل من كابل)
قصة قصيرة لـــ"رابيندرا ناث طاغور"[1]
ترجمة: ولي الله[2]
ابنتي "ميني" البالغة من العمر خمس سنوات، لا تستطيع أن تبقى صامتة لحظةً. تعلمت النطق في غضون سنة واحدة فقط بعد ولادتها، ومنذ ذلك الحين لا تضيع لحظة في صمت ما دامت مستيقظة. ولطالما توبخها والدتها مُسكِتةً إياها ولكن دونما جدوى. وعندما تلزم ميني الصمت، أشعر بأنه أمر غير عادي لا يدوم طويلا. فتستمر المحادثة بيننا بقدر من الحماس.
في الصباح، عندما كنت أعمل على الفصل السابع عشر من روايتي، جاءتني ميني وبدأت تقول: "أبي، البواب رام ديال كان ينادي "كاك" (يعني غراب، وهو باللغة الهندية "كّوّا") إنه لا يعرف شيئًا، أليس كذلك؟
حاولت أن أفيدها بتنوع اللغات في العالم، ولكنها تطرقت إلى موضوع آخر قائلة: "اسمع يا أبي، كان "بهولا" يقول إن الأفيال ترمي المياه إلى السماء بخراطيمها، وهو ما يجلب المطر. يا إلهي! كم يكذب هولا!"
ودائما تتحدث مثل ذلك ليلا ونهارا، دون أن تنتظر لرأيي في الأمر، سألت فجأة: أبي، ما علاقتك بأمي؟ قلت لنفسي هي أخت زوجتي. ثم قلت: "يا ميني! اذهبي للعب مع بهولا. لدي عمل الآن."
ثم جلست عند قدمي بجانب الطاولة، وبدأت تلعب بوضع يديها على ركبتيها، وتكرر قصيدة “أغدوم باغدوم" (هو نوع من ألعاب الأطفال) بشكل سريع جدا. في الفصل السابع عشر، يقفز "براتاب سينغ" مع "كانشان مالا" من نافذة السجن العالية إلى مياه النهر الجاري من تحته في الليل المظلم.
يقع بيتي بجنب الطريق. فجأة تركت ميني لعب "أغدوم باغدوم" وركضت نحو النافذة، وبدأت تصيح "يا كابولي! يا كابولي!".
كان رجل كابولي طويل القامة يمشي على مهلٍ على الطريق مرتديًا ملابس فضفاضة متسخة، وعلى رأسه عمامة، تتدلى على رقبته حقيبة، وفي يده بضعة عناقيد العنب. من الصعب أن أقول لكم ماذا فكرت ابنتي عندما رأته، بدأت تناديه بصوت عال. فكرت أنه سيحضر الآن فاكهاني حاملا على رقبته الحقيبة، فلن ينتهي فصلي السابع عشر.
ولكن حينما انتبه الكابولي مبتسما لنداء ميني وبدأ يتجه نحو منزلنا، هرعت إلى داخل البيت مسرعة، ولم يلاحظ أي أثر لوجودها. فقد كانت تؤمن بأنه إذا تم تفتيش تلك الحقيبة فيمكن العثور على بعض الأطفال الأحياء مثلها.
جاء الكابولي وحياني باسماً، ووقف. فكرت أنه على الرغم من أن حالة براتاب سينغ وكانشان مالا كانت حرجة للغاية، إلا أنه لا يناسب إن لم أودع ذلك الرجل إلى المنزل، وأشتري منه بعض الأشياء. اشترينا بعض الأشياء. ثم تحدثنا في شتى المواضيع. هو تحدث عن سياسة حماية الحدود، وقصص عبد الرحمن، والروس، والإنجليز وغيرهم. أخيرًا عندما نهض للمغادرة، سأل: "يا سيدي! أين ذهبت ابنتك؟"
ناديت ميني من داخل المنزل لدرء الخوف عنه الذي لم يكن له أساس. وقفت بجانبي ناظرة بريبة إلى وجه الكابولي وحقيبته. أخرج الكابولي الزبيب والمشمش من حقيبته ليعطيهما إياها، فلم تأخذ شيئا منه، وظلت متمسكة بركبتي. هكذا لقاؤهما في المرة الأولى.
وذات صباحٍ، اضطررت إلى الخروج من المنزل، فرأيت ابنتي جالسة على مقعد بالقرب من الباب تتحدث بطلاقة، وكان الكابولي يستمع إليها مبتسما جالسا تحت قدميها، وفي بعض الأحيان يعبر عن رأيه باللغة البنغالية الدارجة. في السنوات الخمس من حياة ميني لم تجد مثل هذا السامع الصبور إلا والدها. ثم رأيت أن طرف خمارها الصغير مليء باللوز والزبيب. قلت للكابولي: لماذا أعطيتها كل هذا؟ لا تعطها بعد الآن. ثم أخرجت من جيبي نصف روبية وأعطيته إياها، فأخذها دون تردد ووضعها في حقيبته.
عندما عدت إلى المنزل، رأيت الفوضى والغوغاء في المنزل بسبب تلك الورقة النقدية.
أخذت والدة ميني مادة بيضاء لامعة مستديرة بيدها سائلة ميني موبخة "أين وجدت هذه الروبية؟"
قالت ميني: "لقد أعطاني الكابولي إياها."
قالت والدتها: "لماذا أخذت الروبية من الكابولي؟"
قالت ميني وهي على وشك البكاء: "لم أطلبها منه بل أعطاني الروبية من تلقاء نفسه."
جئت، وأنقذت ميني من الخطر الوشيك، وذهبت بها إلى الخارج.
علمت أن هذا ليس باللقاء الثاني لميني مع الكابولي، في هذه الفترة، غالبا ما، جاء كل يوم، وسيطر على قلب ميني الصغير الطماع بإعطاء الفستق كالرشوة.
لاحظت أنه كان هناك الكثير من المزاح بين هذين الصديقين، فعلى سبيل المثال: كلما رأت ابنتي رحمت (اسم الكابولي) سألته مبتسمة: "يا كابولي! يا كابولي! ما في حقيبتك؟"
يجيب رحمت مبتسما ومضيفا "ن" الإضافية إلى كلمة "هانتي". (وتعني الفيل في اللغة البنغالية) أي: هناك فيل في الحقيبة، طبعاً من قبيل المزاح. ليس هذا بأمر مضحك جدًا، لكن كليهما يشعران بقدر كبير من الفكاهة في هذا المزاح. وكنت أستمتع بالابتسامات البسيطة لرجل عجوز، وطفل صغير في صباح الخريف.
كان هناك كلام آخر شائع بينهما. يقول رحمت لميني: "أيها الطفلة الصغيرة! ألن تذهبي إلى بيت الحمو؟"
الفتاة في الأسر البنغالية مطلعة على مصطلح "الحمو" منذ ولادتها، ولكننا نوع مختلف من الناس، فإن طفلتنا لم تعلم بالمصاهرة. لذلك، لم تستطع أن تفهم سؤال رحمت بوضوح، لكن التزام الصمت دون إجابة كان أمراً مخالفاً تماما لطبيعتها، فسألته ردا على سؤاله: "هل تذهب أنت إلى منزل الحمو؟"
ولوح رحمت قبضة يده إلى والد الزوج الوهمي وقال: "سأقتل حمي".
عند سماع ذلك، ابتسمت ميني كثيرا وخيَّل لها أنه مخلوق غير معروف يُدعى "الحمو"
نحن الآن في موسم الخريف. في العصور القديمة، كان الملوك يخرجون للتفرج في هذا الموسم. لم أذهب أبدًا إلى أي مكان ماعدا مدينة كلكتا، فكان قلبي يهيم في جميع أنحاء العالم. كنت مثل زائر يستقر في زاوية المنزل، لكن قلبي دائمًا يشتاق للعالم الخارجي. عندما أسمع اسم بلد أجنبي قلبي يشتاق لزيارته، وكذلك حينما أرى الأجانب، كان يخطر ببالي كأني أرى كوخا في الغابات والأنهار والجبال، ويفرحني خيال عيش مستقل مبهج بها.
وعلى جانب آخر، أنا من نوع الأشخاص الذين يصعب عليهم مغادرة زاوية البيت. فتعودت، صباح كل يوم، على التحدث مع الكابولي جالسا أمام الطاولة في غرفتي الصغيرة، متمتعا بحكايات أسفاره. تظهر أمام عينيّ صورة كابول: على الجانبين كليهما سلاسل الجبال الشامخة القرمزية التي لا يمكن عبورها، وفي خضمها الممرات الضيقة، تمشي صفوف الإبل المحملة؛ والتجار والمسافرون المعممون، البعض يركب جملا، والبعض الآخر يمشي راجلا، وبعضهم يحملون الرماح في أيديهم، وفي أيدي البعض بنادق من طراز قديم. يتحدث الكابولي عن وطنه بصوت مدوي بالبنغالية غير الفصيحة، وتظهر هذه الصورة أمام عيني.
والدة ميني سيدة قلقة للغاية. كلما سمعت صوتًا في الشارع ظنت أن جميع السكارى في العالم يندفعون إلى منزلنا. وهذا العالم كله مليء باللصوص، والنهاب، والسكارى، والثعابين، والنمور، والملاريا واليرقان، والصراصير، ولم يزُل عن قلبها هذا الطيف المخيف حتى بعد عيشها في هذا العالم دهراً من الزمان (ليست فترة طويلة جدًا في الحقيقة).
لم تكن مطمئنة أبداً عن رحمت الكابولي. فلذا طلبت مني مرارا وتكرارا أن أراقبه بشكل خاص. عندما حاولت إزالة شكوكها بابتسامات، سألتني أسئلة مختلفة: "ألا يُسرق ولد أحد أبدًا؟ أليست العبودية شائعة في كابول؟ هل من المستحيل تمامًا أن يسرق كابولي ضخم الجسم صبيًا صغيرًا؟
كان عليّ أن أعترف بأن هذا ليس بمستحيل. ولكن قوة التصديق لا تتساوى لدى الجميع، ولذلك بقي الخوف في قلب زوجتي. لكنني لم أستطع منع رحمت من القدوم إلى منزلنا في غياب أي خطأ صادر منه.
يذهب رحمت إلى بلاده كل عام في منتصف شهر "ماغ" (شهر في التقويم البنغالي). في هذه الفترة يكون مشغولا جداً في تحصيل المتأخرات من الديون، ويضطر إلى أن يتجول من منزل إلى آخر، ولكن مع ذلك يأتي لزيارة ميني مرة واحدة. يبدو، واقعيا، كأن هناك مؤامرة بينهما. في اليوم الذي لا يأتي فيه صباحا أرى أنه يأتي مساء. عندما أرى ذلك الرجل الطويل المرتدي ملابس فضفاضة في زاوية الغرفة في الظلام، يتملكني الخوف. ولكن عندما أرى ميني تهرع إليه ضاحكة تناديه "كابولي والا، يا كابولي والا" (يا كابولي! يا كابولي!)، ويجري المزاح القديم البسيط بين الصديقين الفارقين عمرا، يمتلأ قلبي فرحا وسعادة.
ذات صباح، كنت مشغولا بتدقيق مسودة الرواية، جالسا في غرفتي الصغيرة. قبل نهاية فصل الشتاء، لقد تقرس البرد ليومين أو ثلاثة أيام، وأخذ الناس يرتجفون من شدة البرد، دخلت أشعة الشمس في الصباح عبر النافذة، ووصلت إلى قدميّ تحت الطاولة، وكنت أشعر بلطف شديد بالحرارة. أعتقد أنها كانت الساعة الثامنة، وقد عاد جميع المتفرجين المرتدين مناديل الرقبة والشالات من التفرج إلى منازلهم، سمعت ضجيجا على الطريق تلك اللحظة؛ فإذا بحارسين يجران رحمت مربوطا، ووراءه مجموعة من الأولاد الفضوليين، وملابس رحمت مبللة بالدماء، وخنجر ملطخ بالدماء في يد حارس. خرجت من الباب وسألت الحارس: ماذا حدث؟
بعد ما سمعت شيئاً منه وشيئاً من رحمت، علمت أن أحد جيراننا اشترى من رحمت رداء رامبوريا، ولم يدفع الثمن الكامل، وكان عليه بعض الديون، فوقعت المشاجرة بينهما، وطعنه رحمت بسكين. وكان رحمت يشتم ذلك الخائن الكاذب بملء فيه، إذ خرجت ميني من المنزل تنادي "كابولي! يا كابولي!".
أشرق وجه رحمت مازحا في لحظة لم تكن على كتفه الحقيبة، فلم يتمكنا من إجراء مناقشتهما المعتادة حول الحقيبة. سألته ميني بصراحة، "أأنت ذاهب إلى حموك؟"
قال رحمت ضاحكا: "نعم أذهب هناك". علم أن الإجابة لم تكن مضحكة لميني فأظهر يديه وقال: "كنت سأقتل حمي، ولكنني لا أستطيع الآن لأن يدي مربوطتان."
حُكم على رحمت بالسجن لسنوات عديدة لارتكابه جريمة الاعتداء على شخص وإصابته بجروح خطيرة.
وتدريجيا نسيته ميني تقريبا. عندما كنا نجلس في الغرفة ونقضي يومًا بعد يوم في العمل الروتيني، لم يخطر ببالنا كيف يقضي رجل حر يتسلق الجبال سنوات من عمره في داخل جدران السجن.
كانت ميني البنت غير المستقرة خجولة للغاية ويعترف بذلك والدها أيضا.
نسيت بسهولة صديقها القديم، وصادقت "نبي سوهيس" (العلم) أولاً. وبعد ذلك مع تقدمها في السن ازداد عدد الصديقات بدلاً من الأصدقاء واحدة تلو الأخرى. حتى أنها لم تعد ترى الآن في غرفة والدها للكتابة. فقاطعتها إلى حد ما.
لقد مرت سنوات، وجاء خريف آخر. تمت خطوبة ميني. وتقرّر أنها ستزوج خلال عطلة "دورغا" (أكبر المهرجانات الهندوسية البنغالية). مع مغادرة الإلهة "دورغا" (حسب المعتقدات الهندوسية تغادر الآلهة بعد المهرجان وتعود في العام القادم) تغادر ابنتي العزيزة منزل أبيها إلى منزل زوجها فسيكون منزلي مظلما بعد غيابها.
أشرق الصبح إشراقا جميلا جدا. بعد فصل المطر، يلمع ضوء الشمس المشرقة في هذا الخريف مثل لون الذهب الخالص الذائب. أشرقت الشمس بجمالها الخلاب على المنازل المبنية من الطوب القذرة المزدحمة في أزقة مدينة كلكتا.
بعد ما ذهب الليل، وبدئ عزف موسيقى الزواج في بيتي، بدأت أشعر بأن تلك الموسيقى هي إيقاعات مُبكية تنطلق من أعماق قلبي، كاسرة عظام صدري. الموسيقى الكلاسيكية البنغالية الحزينة للزواج تنشر آلامي على فراق ابنتي في جميع أنحاء العالم عبر شمس الخريف.
اليوم زفاف ابنتي. منذ الصباح هناك ضوضاء شديدة في منزلي، بدأ يجتمع الأقارب. وتنصب الخيمة في فناء الدار، تسمع أصوات تعليق الثريا في كل غرفة وشرفة. وتأججت كل زوايا المنزل بالضجيج.
كنت جالسًا في غرفة الكتابة ألقي نظرة على الحسابات، إذ جاء رحمت وحياني ووقف أمامي. لم أتعرف عليه في البداية. ليست لديه تلك الحقيبة، وليس على رأسه ذلك الشعر الطويل، وليس جسمه قويا كما كان من قبل. تعرفت عليه أخيرا بابتسامته. قلت: يا أخي رحمت! متى أتيت؟
قال: خرجت من السجن مساء يوم أمس.
بعد سماع كلماته صدمت. لم أر قاتلا شخصيا من قبل، فشعرت بالقلق عندما رأيته. بدأت أتمنى أن يغادر هذا الرجل المنزل في هذا اليوم الميمون.
قلت له: "اليوم لدينا عمل خاص في منزلنا، أنا مشغول فاذهب الآن."
بعيد ما سمع ذلك، غادر للتو، وما إن وصل إلى الباب وقف وتردد قليلا، وقال: "ألا أستطيع أن أرى ابنتك الصغيرة مرة واحدة؟"
كان يعتقد أن ميني ما زالت صغيرة كما كانت في الماضي. وكان يظن أن ميني ستهرع إليه كعادتها من ذي قبل، وهي تنادي: "يا كابولي! يا كابولي!"، ويجري بينهما المزاح القديم المضحك كالعادة في الماضي. لكي يتذكر الصداقة القديمة، ويقدم لها علبة من العنب وبعض الزبيب في غلاف من أحد أصدقاء بلاده، لأنه ليست لديه حقيبته. قلت: "لدينا عمل في المنزل اليوم فلا يمكن اللقاء مع أي شخص."
يبدو أنه أصبح حزينا قليلا. وقف بلا حراك، متفرسا في وجهي، ثم قال "مع السلامة يا سيدي!" وخرج من الباب. أحسستُ بشيء من القلق في قلبي، ففكرت أن أدعوه مرة أخرى، ولكني رأيته يعود. فتقدم وقال: أتيت بهذا العنب وببعض الزبيب والمكسرات لابنتك الصغيرة، أعطها إياها. أخذتها وعندما كنت على وشك دفع الثمن، تمسك بيدي فجأة وقال: "لقد كنت لطيفا جدا معي، سوف أتذكره إلى الأبد، لا تعطيني أي ثمن، يا سيدي! مثلما لديك بنت، لدي أيضًا بنت في بلدي. عندما أتذكر وجهها أحضر لبنتك بعض الثمار، فأنا لا آتي هنا لبيع الثمار." ثم أدخل يده داخل ملابسه الفضفاضة للغاية، وأخرج ورقة متسخة من جيبه بالقرب من صدره، وفتح الطية بحذر شديد، ووضعها على طاولتي، رأيت بصمة صغيرة على الورقة. ليست صورة، ولا رسما زيتيا، تم فرك قليل من نشارة الخشب على اليد، ووضعت علامته على الورق. يحتفظ رحمت بذكرى ابنتها بالقرب من صدرها، ويأتي لبيع الفواكه في شوارع كلكتا كل عام. يبدو أن لمسة يد تلك الطفلة الناعمة تدخر له الرحيق في صدره الضخم الحزين على فراق البنت.
عندما رأيتها، فاضت عيناي بالدموع. ونسيت أنه كابولي وفاكهاني، وأنا أرستقراطي بنغالي، وأدركت أنه هو وأنا كلانا شيء واحد، وهو أيضًا أب وأنا أيضًا أب. بصمة يد ابنته الصغيرة القاطنة على الجبال ذكّرتني ميني، فناديتها على الفور من داخل المنزل. كانت هناك اعتراضات كثيرة على ذلك من قبل أفراد الأسرة. لكنني لم أكترث بأي شيء. جاءت ميني مرتدية فستان الزفاف، ومع مكياج الزفاف البنغالي التقليدي ووقفت عندي بخجل.
فوجئ الكابولي بالصدمة أولا عند رؤيتها، ولم يتمكن من تذكر محادثاتهما القديمة. وأخيرا قال مبتسما: يا بنت! هل تذهبين إلى بيت حموك؟
تفهم ميني الآن معنى الحمو، فلم تستطع هذه المرة الإجابة كما كانت من قبل. عندما سمعت سؤال رحمت، احمرت خجلًا، وأدارت وجهها عنه. تذكرت اليوم الذي لقيت فيه ميني الكابولي لأول مرة، وأصبحت حزينا جدا.
عندما غادرت ميني، جلس رحمت على الأرض بتنهيدة عميقة. وفهم فجأة بوضوح أن ابنته أيضا قد نشأت على هذا النحو، وأصبحت شابة، ويجب أن يقوم بإجراء محادثة معها من جديد، لا يجدها كما كانت من قبل. من يدري ما حدث لها في هذه السنوات الثماني. بدأت موسيقى الزفاف تعلو في ضوء شمس صباح الخريف الخفيف، جعل رحمت يتصور مشهد جبل صحراوي في أفغانستان جالسا في إحدى أزقة مدينة كلكتا.
أعطيته بعض الروبيات وقلت له: يا رحمت! ارجع إلى ابنتك في بلدك؛ أتمنى أن يبارك الرب في ميني بفضل اجتماعكما.
وحيث تبرعت له بهذه الروبيات، اضطررت إلى حذف بعض البرامج من احتفالات مراسم الزفاف بسبب نقص الميزانية. فمثلا لم أتمكن من إضاءة المصابيح الكهربائية كما كنت أردت، ولم تأت الفرقة الموسيقية. وثارت نساء المنزل باستياء وتبرم، لكنه لقد وصل احتفالي إلى نهاية المطاف باليمن والسرور، وأصبح مشرقا بالنور المبارك.
*********
[1] رابيندرا ناث طاغور (1861-1941م) الشاعر الفيلسوف والحكيم، والروائي والقاص والمسرحي والفنان والملحن الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1913، أشهر شاعر وأديب أنتجته الهند، وهو أشهر من أن يقدم أو يعرف، وقصته هذه من أشهر قصصه. ديوانه "جيتانجلي" الذي فاز عليه بجائزة نوبل للآداب يعد من كلاسيكيات الأدب العالمي وتُرجم إلى جميع لغات العالم، اشتهر في الغرب بوصفه فيلسوف وحكيم أكثر من شهرته كأديب وشاعر، وهو الشاعر الإنساني العالمي في المقام الأول.
[2] أستاذ مساعد ورئيس قسم اللغة العربية، كلية شمسي، مالده، البنغال الغربية، الهند