خرجت في ليلة معتمة باردة، يهطل من سمائها ثلج غزير على شوارع شبه خالية حيث كل الناس مختبئون في مضاجعهم ومراقدهم تحت بطانيات سميكة ساخنة داخل بيوت أنوارها منطفئة وساكتة سكوت القبور بدون حراك.
فجأة رأيت عند منعطف الطريق ظلا قصيرا يرتجف من شدة البرد وقسوته، عندما اقتربت منه وأمعنت النظر فيه، رأيت طفلة لا تكاد تتعدى العاشرة من عمرها، ثيابها رثة، تفاجأت
ُ من وجودها في هذه الليلة القاسية، وجهها الشاحب يشي بتراكم الأحزان والمصائب كأنها تحمل لوحدها مصائب العالم كلها على عاتقها، فالخلق النائمون كلهم في سبات عميق تخلوا عنها و سلموها إلى أيدي الليل المظلم لكونها محط الآلام و جالبة للأحزان.
فسألت عن اسمها واسم عائلتها حيث كان يرقد هذا الطير البريء الجميل لأعرف لعل غربان وحشية غزت على عشه وطردته من مرقده في مثل هذه الليلة. فالليل لا يرأف ولا يرحم على المنكوبين والمشردين.
لما يا ليل هذه القساوة؟
ألم يخلق فيك الرحمة خالقك؟
لما تتضاعف الآلام في أغوار ظلماتك؟ وتتضاءل أنوار الآمال في التعافي من الجروح الروحية والنفسية.
هذه الروح البريئة زهرة من زهور الجنة ما أنزلها خالقها إلى مستنقع العالم الآسن ليُسلبَ منها عطرها وعبقها.
قربتها إلى وبعد أن وضعت عليها معطفي كي أدفئها، ألححت عليها بالسؤال فأجابت بكلام مفعم بالحزن بأنها ضحية كآلاف الضحايا اللواتي تسكن أرواح أمهاتهن القبور، و لم يودعنهن قبل الرحيل في ذلك اليوم المشئوم.
نظرت إلى نظرة تحمل في طياتها كل هموم الدنيا و أحزانها و هي ترتجف من شدة البرد و قالت: لم يصبر أبي شهرا واحدا حتى تزوج من امرأة ثانية مهيبة المنظر و بغيضة الكلام كأن كل كلمة تفوح من فمها سم أفعى سوداء ينغمس في مجرى دم الإنسان فيعطل حركات كيانه، عكس كلام أمي الذي كان كعسل لذيذ من شجرة السدرة الجبلية يحلو لكل سامع.
أول ما التقت بنا زوجة أبي اغدقت علينا حبا شديدا لكي تقترب من أبينا بهذا الحب المصطنع الكاذب ثم بعدها أظهرت لنا جانبها المظلم حيث حرمتني من كل سكون وراحة، كأنه ليس لديها قلب بل حجر صلب أصم لا رأفة فيه ولار رحمة، تعاملني كجارية في قصر أبي و قد كنت بالأمس أميرته. سكتت الفتاة برهة ثم قالت وعيناها تذرفان دموعا: آكل من فضلات الطعام بعد مضي نصف الليل، يزيد حزني على حزن عندما أقف بجانب المائدة وتجعلني أحدق في الطعام و الأكل الطازج أمامي لكنه غير مسموح لي الاقتراب منه. هل أصبح كياني كله مذنبا بعد وفاة أمي فكل من حولي يريد التخلص من هذا الذنب؟
ألا ترى يا أبي ما حل بي؟
أما كنت ابنته المدللة والمفضلة لديه من سائر أشقائي؟
يبيت إخواني في بيت مهدم مظلم حيث تأوى الكلاب المشردة و الصراصير، بعدما طردتهم تلك الشريرة من البيت و كانوا أنسي الوحيد وقت غضب أبي و شدته علينا فبقيت أنا وحيدة كجارية في سوق العبيد.
وأختي الكبرى لم تستطع ان تتحمل المصائب التي حلت بنا فتزوجت في عمر صغير لا يصلح للزواج.
لما يا أبي.. لما لا تنبس بكلمة وهي تضربني أمامك. فكان جسدي كله يرتجف عندما كانت تقترب مني زوجتك المصون.
يا أبي لما غيرت جلدك إلى إنسان آخر لا نعرفه؟
أم بدل أحد فؤادك بفؤاد آخر، أسود وقاسٍ؟
واليوم بلغ السيل الزبى عندما رميتني من البيت كرمي نفاية البيت، بل وبطريقة أبشع منها، أقلها أنت ترمي النفايات بعد لفها في كيس بلاستيكي، ولكنك رميتني في ثياب رثة بالية، في هذا الشتاء القاسي الذي تشبه قسوته قسوة قلبك.
سكتت الفتاة مرة أخرى والدموع تنهمر فوق وجنتيها، فأصابني الشلل العاطفي والتعطل الذهني لبرهة بعد أن رأيت ما رأيت من الهم والغم. فكأن صعقة كهربائية جرت مجرى دمي وعطلت التيارات الكهربائية نبض قلبي.
و تنهدت تنهيدة قوية ثم أكملت كلامها و هي تخاطب أمها المتوفاة بصوت شجي « أمي يا ضي عيوني، لمن أشكو أحزاني و آلامي يا أمي ؟ هل تسمعين صوتي من داخل قبرك؟
كنت اول من يسمع أنيني وآهاتي والآن يسمع الجيران ولا تسمعين أنت. وبعد دقائق فارقت الحياة وسلمت روحها الطاهرة البريئة لخالقها وهي تردد جملة لن أنساها مهما طال الزمن: "إن العالم لا يصلح للعيش"