طريق النجاة
قصة لـ: للمنشئ بريم تشاند
ترجمة لـ: د. قمر شعبان/الهند
------------------
الفخر الذي يحس به الجندي نحو عمامته، والمرأة على خلاخلها، والطبيب على المرضى الجالسين حوله؛ هو الفخر ذاته الذي يعتز به الفلاح على مروجه الخضراء الناضرة. كلما كان جنكير يرى مروجه يرقص طرباً ويتهلل بشراً. كانت له ثلاثة أرباع فدان من الأرض؛ تجلب له ست مئة روبية تقريبا، وإذا ارتفعت الأسعار بفضل الرب فلاتسأل عن سعادته، لقد شاخ الثوران له كلاهما؛ فسوف يشتري الثيران الأخرى هذه المرة من سوق باطيسر، وإن وجد ربعي فدان من الأرض يكمل عقد مكاتبتهما أيضا؛ ولا داعي للتفكير في المال؛ لقد بدأ الرأسماليون يراودونه منذ اللحظة، ولم يكن في القرية من لم يتشاجر معه؛ فإنه لايبالي فيها بزيد ولا بكر.
ذات يوم، كان يجني ثميرات البازلاء محتضنا ابنه، إذ بدا له قطيع أغنام قادم إليه، فقال لنفسه: ألم يكن هنا طريق آخر لمرور الأغنام؛ أليس لها أن تمر بحِيَف الحقول؟ لم تُساق من داخلها؟ سوف تدوس الأشجار ، وتكلأها؛ من سوف يدفع ثمنها؟ يبدو أنه هو الراعي بُدُّهو؛ لقد تكبر الولد فيسوق قطيع أغنامه من داخل المروج؛ يا لوقاحته وخيلائه! إنه يرى أنني واقف هنا، ولكنه لايمنع أغنامه، لا أحد يتسالم معي! فلم أتسامح معه؟ ولو أردت شراء غنم لما باعه إلا بخمس روبيات! وأما البطانية فهي بأربع روبيات في كل العالم، ولكنه لن يبيعها إلا بخمس روبيات!. إذا بالأغنام داخل الحقل؛ فصاح جنكير متضجرا: إلى أين تسوق أغنامك؟ ألا ترى شيئا؟
قال بدهو في تواضع: سوف تمر الأغنام بحافة الحقل، ولو اتخذت طريقا آخر لامتد بنا إلى أشواط ميل كامل.
جنكير: فهل تداس مروجي لطي طريقك الطويل؟ إن كنت تسوق أغنامك على الحيف، فلم لاتسوقها على مروج الآخرين؟ هل ظننتني كناسا أو خصافا أم تتمرد لأجل ما لديك من الثروة والمال؟ تنحَّ بأغنامك من هنا.
بدهو: سيدي! دعني أمر اليوم فقط، وإن مررت بحقولك مرة أخرى عاقبني ماشئت من العقاب.
جنكير: قلت لك: ارجع من هنا الآن، وإن مر غنم بحافة حقلي فلا خير لك.
بدهو: سيدي! إن وطئت أغنامي ولو شجرة واحدة لحقلك فاشتمني بملء فيك.
لجَّ بدهو في حديثه، ولكن استهجنه أن يتراجع عن هذا الطريق، فكر في نفسه؛ أنه لو تراجع عن رعي الأغنام بهذه التوبيخات التافهة لما استطاع أن يرعاها هنا أبداً؛ ولو عدت اليوم لما وجدت السبيل للخروج، ولسوف يُهدِّدني كل من هب ودب.
كان بدهو رجلا ثريا أيضا، لديه 240 غنما، يتقاضى 160 روبية في أجرة ليلة واحدة، إلى جانب بيع الحليب، ونسج بطاطين الصوف، فوقف متبخترا: ماذا سيفعل بي بغضبه؟ لست ثورا له، لما وجدت الأغنام الأوراق الناضرة الخضراء تهللت بشراً، وتسللت إلى داخل الحقل، أخذ بدهو يسدها ويطردها من جميع الأطراف، ولكنها ظلت تتبعثر هنا وهناك على الرغم من أنفه. صرخ عليه جنكير متوعدا: "أنت تستثيرني غضبا؛ فسوف أدوس وقاحتك تحت قدميَّ هاتين."
بدهو: "تثور الأغنام بمجرد رؤيتك، كن جانبا، سوف أخرجها من الحقل،
أنزل جنكير ولده من حضنه، وجعل يضرب بعصاه رؤوس الأغنام بطريقة شقية لايضرب الغسال حماره مثلها، تكسرت رجل غنم، وتكسر للبعض ظهره، وأخذت الأغنام كلها تمأمئ بصوت جهوري، و لايفتأ بدهو يشاهد تدمير جنوده بأم عينيه ساكتا مبهوتا لاساق غنما ولا قال لجنكير شيئا. ظل مشاهدا هذه المأساة، لقد شرّد جنكير هذا الجند العظيم بقوته الحيوانية في غضون دقيقتين ولاغير. وبعدما دمر قطيع أغنام الراعي تفوه متطاولا تطاول الفاتح المنتصر: "هيا، اخرج من هنا ولا تفكر في مجيئك هذا الطريق أبدا".
رد بدهو، وهو يرى الأغنام الجريحة: جنكير! ما فعلت خيراً، ولسوف تتأسف على ذلك".
ليس قطف الأمواز بأمر سهل، كل دخل الأمواز إما يكون في الحقول، أم في المرابد، يتم حصاد الزروع بعد مرورها بالكثير من الكوارث الطبيعية، ولو اجتمعت الكوارث والمعاداة معاً فلاعقبى للفلاح؛ لما عاد جنكير إلى منزله أخبر الناس بهذا الاختصام، فبدأ الناس يعاتبون أنه لم يفعل خيرا: لا تتجاهل! ألا تعلم أن بدهو لرجل لدود خصوم؛ لم يحدث شيء، اذهب واعتذر إليه، وإلا لتجلب لنفسك وللقرية كلها كارثة كبرى، لقد تفهم جنكير؛ وتأسف على ما منعه من دخول الأغنام من جميع الجهات، ولو كانت الأغنام كلئت بعض الحقول لما صرت مفلسا؛ وفي الحقيقة يحسن لنا نحن الفلاحين الانقياد والاستسلام؛ حتى وإن الرب لايرضى لنا أن نعيش أحرارا مكرمين، لم أكن أود أن أذهب إلى بدهو لأعتذر إليه، ولكنني اعتذرت فقط من أجل إصرار الآخرين، كان ذاك بعض شهور الشتاء، وكان الجو ضبابيا، يغشى الظلام كل الجوانب، وما إن كنت خرجت من القرية إذ فوجئت بنار تشتعل في حقول الذرى، جعل قلبي يخفق؛ لقد اندلع الحريق في الحقول على مدى طويل، هرعت إليها سريعا مرتجيا أن لا يكون الحريق في حقولي أنا، وكلما اقتربت إليها، تبددت غيوم أوهامي المرتجية. خاب ظنه؛ لقد أشعل المجرم كل حقوله، ودمر القرية كلها، وبدا له أن الحقول كلها باتت مقتربة بعضها إلى بعض من أجل النيران الملتهبة، وأما الحقول الجرداء فلم يبق لها أثر بعد عين، وعندما وصل جنكير حقله وجدت النار أشد لهبا، فبدأ بالعويل والنحيب، وأسرع سكان القرية إليها ضاربين النار بأشجار الفاصوليا التي اقتلعوها؛ لقد نشبت الحرب بين الإنسان والنار، ظلت هذه الحرب المتأججة المتضججة حتى الظهر، يغلب فريق آنًا ويغلب الفريق الآخر آونةً أخرى؛ كانت جمرات النار الملتهبة تشتعل من جديد بعد خمودها بقوة متضاعفة، تحرق من حولها؛ والمحارب القوي الشهم فيما بين سكان القرية هو الراعي بدهو، يقفز على الحريق مستميتا في سبيل القضاء عليها لابسا فوطته فوق ظهره، ويخرج منه هازما عدوه بكل حذر؛ ونهائيا ظفر الناس بإطفاء الحريق، ولكن حقول الذرى كلها أصبحت رمادا، واحترقت الأماني كلها مع احتراق الذرى.
من أشعل الحريق؟ كان ذاك سرا مكشوفا، ولكن لا أحد يجترئ على إزاحة الستار عنه؛ ولادليل على ذلك؛ فمن ذا الذي سيثير هذه القضية بلادليل؟ استحال على جنكير الخروج من البيت، كل يطعنه ويشتمه من جميع الجهات، والناس يصارحون علنا أنك من أمرت بإيقاد النار، وتحطيم الحقول، وأنت من كنت تمشي على الأرض مرحا، متَّ أنت ومات معك أهل القرية جميعا، لو لم تكن متعرضا لبدهو لما كنا رأينا ما نراه اليوم؟ ولم يكن جنكير متأسفا على حياته المدمرة هذه، بل كان متأسفا على هذا الطعن والهوان، يقضي نهاره متقاعدا في البيت، وعندما تحين شهور الشتاء يسود مكان المعصرة صمت مطبَّق طوال الليل، ومن أجل البرد القارس يغلق الناس أبوابهم إثر غروب الشمس شاتمين جنكير. وأما هذا الرماد فكان ضغثا على إبالة، فإن الذرى، بالنسبة إليهم، ليست وسيلة الدخل فحسب، بل هي ما تعطي السكان الحياة والنشاط، يعتمد الفلاحون عليها طوال أيام الشتاء، يشربون عصيرها الدافئ، ويحرقون أوراقها الجافة للاستدفاء، ويُعلِّفون مواشيهم أتبانها، وقد ماتت الكلاب كلها التي كانت تهجع لياليها على جمرات تلك الأفران من أجل القر هذه المرة، كما ذهبت مآت من المواشي ضحايا الجوع والعطش وشدة البرد.
تقرس البرد فأصيب أهالي القرية على بكرة أبيهم بالحمى والسعال، وجالب كل هذه الكوارث هو جنكير! فويل لجنكير!
عزم جنكير على أن يورط بدهو فيما تورط به، فإن بدهو هو الذي من أجله دُمِّرت حياتي، وأما هو فإنه الآن متمتع بالطمأنينه وراحة البال؛ فلسوف أدمر حياته أيضا، لقد ترك بدهو المجيء إلى هذه الجهه منذ اليوم الذي وقع فيه الشجار بينهما. وعلى جانب، بدأ جنكير يداخله بالصداقه والمودة؛ محاولا إقناعه بأنه لا يشك فيه أيما شك، مرة، ذهب إليه بحيلة أخذ البطانية، ثم بحيلة شراء الحليب، وكان بدهو لا يدخر وسعا في تبجيله وفي قراه، الناس يقدمون النارجيلة حتى لأعدائهم، فإنه لا يودعه إلا أن يسقيه الحليب والمشروبات، يعمل جنكير هذه الأيام في معمل لف الحبال، فطالما يستلم أجرة أيام عديدة في قسط واحد؛ ومصارفه اليوميه تتم على نفقات بدهو، وهكذا تعلق معه بالمودة والصداقة.
وذات يوم سأله بدهو: ماذا ستفعل إن وجدتَ من أحرق حقول ذراك يا جنجير ؟ صارحني؛ صارحني بصدق.
رد عليه جنكير بكل هدوء: سأقول له: أحسنت صنيعك! لقد كسرت خيلائي، وعنجهيتي، وجعلتني إنسانا وآدميا.
بدهو: ولو كنت أنا مكانك لما لبثت إلا أن أحرِّق منزله.
جنكير: هل ينفعك العداء في هذه الحياه الفانيه لأربعه أيام؟ لقد تدمرت حياتي ولا ينفعني شيئا لو دمرت حياته أيضا.
هذا هو تدين الرجل، ولكن الغضب هو الذي يجعل العقل فاقد الوعي. كان ذاك أحد أشهر الشتاء؛ والفلاحون يحضرون مروجهم لغرس الذرى، وكان بدهو على أبهته في الثراء، و أسعار الأغنام على ارتفاع زائد، والناس يراودونه لتسويق أغنامهم على بابه كل يوم، ولم يكن بدهو يكلم أحدا كلاما مستقيما، لقد جعل أجرة التسويق على بابه أضعافا مضاعفة، ولو اعترضه أحد لرد عليه قائلا: أخي لست من يدعوك إلى التسويق هنا، وإن لم توافق على الأجرة المطلوبة فاذهب من هنا، ولكنني لن أخفض السعر حتى درهم واحد. كان الناس في حاجة إليه فإنهم رغم خيلائه يداهنونه ويملقونه كمثل مداهنة الكاهن الهندوسي زائره.
حجم اللاكشمي (المال) ليس كبيرا، ثم يتغير حجمه من صغير إلى كبير وفق المقتضى والمناسبة، حتى أنه تنخفض قيمته إلى كلمات ورقية، وأحيانا تتضيق قيمته، فتبقى ألفاظا على لسان الإنسان، ثم لا يبقى لحجمه أثر بعد عيان. ولكنه يحتاج إلى مكان متسع عندما يملكه الإنسان، يمتلئ به المنزل، وتضيق على صاحبه البيوت الصغيره؛ لقد صار منزل بدهو أيضا ممتلئا بالمال، فشيد صالونه على المربد، ثم بنيت ست غرف مكان غرفتين، أو قل: جعل يُشيد بيته من جديد؛ طلب الخشب من فلاح، وطلب عجين الروث لإقامة الطوب من آخر، وطلب القصب من رجل ثالث، دفع أجرة بناء الجدار، ولكن ليس نقدا، لقد فاض بيته من سيل الأموال بصورة أغنام، تم بناء منزله مجانا، وبدأت ترتيبات الاحتفالية بالدخول.
وعلى جهه، كان جنكير يعمل طوال النهار لملء نصف بطنه، و منزل بدهو على رفاهية ونعمة. فإن كان جنكير يحسده فما المشكلة فيه؟ لا أحد يستطيع التحمل على هذا الظلم.
ذات يوم، ذهب جنكير متفرجا إلى أحياء الخصافين، ونادى هري هر؛ لبى هري هر نداءه، وقدم التحية: "رام رام"، أشعل النارجيلة، وجعلا يدخنانها؛ كان عمدة الخصافين هذا، رجلا شريرا يخاف بطشَه جميعُ الفلاحين.
سأله جنكير مدخنا النارجيلة: هلا تكون تقسيمات الأسهم هذه الأيام؟ كيف تقضي أيامك الآن؟
لا تسأل يا جنكير! كيف أقضي أيامي؟ إنها أيام سيئة! أعمل طوال النهار في المعمل لقوت يومي، الرغادة هذه الأيام لبدهو؛ لم يبق في بيته مكان فارغ لأن يكنز فيه المال، ثم شيد بيتا جديدا، واشترى أغناما كثيره أخرى، والآن يطرب فرحا للاحتفالية بــ"دخول المنزل الجديد"، سوف يرسل الدعوات إلى القرى السبع المجاورة كلها.
هل تعلم يا هري هر؟ عندما يثري الإنسان تغمر عيونه المروءة، انظر إلى هذا، يمشي في الأرض مرَحا، وعندما يتكلم يتكلم بكبرياء، كيف لا يتكبر يا جنكير؟ هل في القرية من يساويه في رغد عيشه؟ ولكن كيف نرى هذا الظلم يا صديقي؟ إذا أنعم الرب فينبغي أن يمشي على الأرض هونا؛ ولا ينبغي أن يتمرد؛ وحينما أسمع صوته يلتهب جسمي كرها؛ بات اليوم ثريا من كان فقيرا بالأمس، وبدأ يتطاول علي. بالأمس كان يسوق المواشي في الحقول لابساً تُبانه؛ واليوم تشرق شمسه على السماء.
هري هر: هل تريد أن أعمل له بعض الرقى.
جنكير: ماذا ستفعل؟ فإنه لا يربي الأبقار والجواميس خوفا للرقية.
هري هر: لديه الأغنام!
جنكير: من دون نجوى.
هري هر: إذن فكِّر في شيء.
جنكير: ارق له رقية حتى لن ينتهض أبداً.
ثم بدأ يتهامس بعضهما البعض. ويا للعجب العجاب! يكره الإنسان غيره في الأمور الصالحة، ويخاصم بعضهم البعض في الأمور السيئه؛ العالم يحسد عالما آخر، والناسك يحسد الناسك الآخر، والشاعر يحسد الشاعر الآخر؛ حتى لا يود أن يرى أحد صورة غيره. ولكن المقامر، ومعاقر الخمر، واللص، يتحابى بعضهم البعض؛ ويتضافرون فيما بينهم ؛ إن انزلق وسقط على الأرض عالم في الظلام الحالك يركضه العالم الآخر حتى لا يستطيع النهوض بدل أن يدعمه، ويسانده، ولكن إذا أصيب اللص بكارثة يعاضده اللص الآخر، ويكون سندا له؛ كل يبغض السيئات؛ فإن السيئين يتحابون فيما بينهم، والصلاح محبوب لدى الجميع؛ فإن الصالحين يتخاصمون فيما بينهم؛ هل ينفع أن يضرب اللص لصا آخر سوى البغض؛ ولكن ماذا سيجدي أن يهين العالم عالما آخر؟ الشهرة والاسم الجميل!.
فقد تصالح جنكير وهري هر مدبِّرَينِ حيلة؛ وقررا الوقت المناسب، والخطة المناسبة، وعندما مشى جنكير مشى متبخترا؛ أنه هزم عدوه، وسد طريقه.
وفي اليوم التالي، عندما غدا جنكير للعمل مر بمنزل بدهو.
سأله بدهو: هلا ذهبت للعمل اليوم؟
جنكير: إني ذاهب الآن، أتيتك في مطلب! لم لا ترعى عِجلي مع أغنامك؟ المسكين كاد أن يموت مربوطا بالخابور! "لا عشب ولا كلأ، ماذا سأطعمه؟"
بدهو: أخي لن أرعى الأبقار والجواميس، أنت تعرف الخصافين؛ كلهم ذباحون قتالون؛ لقد قتل هري هر هذا بقرتين لي، لا ندري ما أطعمهما؟ لقد تبت منذ ذلك ألا أربى الأبقار والجواميس، ولكن ليس لك إلا عجل واحد؛ فمن سيؤذيه؟ اتركه عندي متى ما شئت.
بعد ذلك، جعل بدهو يُريه ترتيبات الاحتفالية بـ"دخول المنزل"؛ السمن والسكر ودقيق الحمص والخضر التي كان اشتراها مؤخرا، كان ينتظر فقط التأكد من القاص ساتيا ناراين لحفلة القص. انفتحت برؤيتها عيون جنكير؛ لم يجهز هو نفسه، ولم ير أحدا قط جهز مثل هذه التجهيزات. راح من العمل إلى البيت، وأول ما قام به أنه أخذ عجله وتركه في منزل بدهو، وفي الليلة ذاتها انعقدت حفلة قص ساتيا ناراين، والوليمة الفاخرة، مضت الليلة بأكملها في تكريم البراهمة، وقِراهم، ولم ينتهز فرصة لمراقبة الأغنام، وما إن انتهض من مأدبة الطعام في الصباح الباكر (لأنه وجد وجبة العَشاء عند السهر) أخبره أحد بأن العجل سقط ميتا هناك، وأنت جالس هنا باطمئنان؟ يا أيها الرجل ألم تفك عقاله؟
فوجئ بدهو بهذا النبأ وسقط، وجنكير جالس بجنبه بعد تناول الطعام؛ آه على عِجلي! لنذهب ونرى! لست أنا من ربط العقال، لقد كنت عدت إلى منزلي بعدما تركته في الأغنام. متى كنت ربطت هذا العقال؟.
بدهو: بالرب لم أر عقاله، حتى إنني لم أذهب إلى الأغنام منذ أمد طويل.
جنكير: لو لم تذهب أنت إلى هناك لما كنت ربطت العقال؟ بالتأكيد كنت ذهبت، ولربما نسيت.
واحد من البراهمة: مات وهو فيما بين الأغنام؛ سوف يقول الناس مات من إهمال بدهو، لا شأن لمن هذا العقال.
هري هر: كنت رأيت أمس سانجا يربط العجل فيما بين هذه الأغنام.
بدهو: إياي؟
هري هر: ألم تكن أنت تربط العجل وعلى كتفك العصا؟
بدهو: يا لك من رجل صادق؟ هل كنت رأيتني أربط العجل.
هري هر: لاتضجرني أخي، إن لم تكن أنت من ربط العقال، فلا مشكلة.
البرهمن: لابد من الثقة به، ولابد لقاتل البقره من التوبه وتكفير السيئات، ليس ذاك أمراً بسيطًا.
جنكير : سيدي، هل كنت ربطت بالعمد؟
البرهمن: لا فرق في ذلك، يتم اتهام قتل البقره هكذا، لا أحد ينوي أن يقتل البقرة.
جنكير: أجل، فك عقال الأبقار، وربطه مغامرة كبرى.
البرهمن: في كتب الديانات هذا من الكبائر، وليس قتل البقرة أقل من قتل البراهمة.
جنكير: أجل، البقرة لها المكانة والفخر؛ البقرة هي الأم! ولكن يا سيدي! وقعت منه زلة، دبِّر له حتى يتم تكفير سيئاته بثمن رخيص.
كان بدهو يسمع كل ذلك متفرسا حيلة جنكير؛ عبثاً، يتهمونني بالقتل، إن قلت آلاف المرات إنني لم أربط العجل فمن يتسلم؟ سوف يقول الناس إنه فرارا من التوبة يقول هكذا. وللبرهمن أيضا نفع في توبته، فكيف يتغاضى عن فرص أمثالها، تم حكم القتل ضد بدهو، كان البرهمن أيضا يحسده، فوجد فرصة الانتقام، عاقبه معاقبة التسول لمدة ثلاثة أشهر، والحج إلى سبعة مزارات مقدسة، علاوة على إطعام 500 من البراهمة، والتبرع بخمس بقرات، لقد بُهت بدهو بعدما سمع هذه المعاقبة وبدأ بالعويل والنحيب، فتم التخفيض في تعذيبه من ثلاثه شهور إلى شهرين، ولكن لا ترخيص بعد هذا الترخيص؛ لا شفاعة، ولا استنجاد؛ لقد أُجبر بدهو على هذا العقاب رغم أنفه. ترك الأغنام باسم الرب؛ فإن أولاده صغار، فما الذي تستطيع فعله زوجته بوحدها. جعل يختلف المسكين بدهو إلى أبواب الناس متسولا ساترا وجهه: "باسم عجل البقرة أعطني بعض التسول"، يجد لديهم التسول، ولكنه إلى جانب ذلك كان يواجه بعض الكلمات المستخفة الطاعنة، وكل ما كان يحصل له من التسول طوال النهار يطبخ منه طعاما تحت شجرة عند المساء، ويتناوله مستريحا بجذع الشجرة، غير مكترث بالتعب، لأنه كان متعودا على التجوال مع أغنامه طوال النهار، فينام تحت الأشجار، ويأكل من الطعام ما هو أفضل منه بقليل، ولكن عاره هو التسول؛ ولاسيما عندما تطعنه امرأة: "إنك دبَّرت حيلة جديدة للقوت" فيقلق له جدا من دون نجوى.
عاد إلى منزله بعد شهرين منسدل الشعر، نحيف الجسم؛ كأنه شيخ بلغ الستين من عمره، والآن كان عليه تحصيل المال لترتيب السفر إلى المزارات المقدسة؛ فمن الرأسمالي الذي يقرض راعي الغنم؟ لا ضمان للأغنام عند تفشي الوباء، تذهب قطعان الأغنام ضحايا الطاعون في ليلة واحدة، وزد على ذلك هذا البرد القارس الذي لا يُرجى فيه الربحُ في تجارة الأغنام، رضي زيات باثنين في المئه في كل روبيه بالربا على ما يساوي الربا في ثمانية شهور مبلغ المال المقروض؛ فلم يجترئ على الاستقراض منه، وخلال هذين الشهرين الماضيين سُرقت عدة أغنام؛ كان الأولاد يذهبون بها للرعي، وسكان القرى الأخرى يأخذون غنما أو غنمين سرا، مخبئين بها في بيوتهم، ثم يذبحونها، ويأكلون لحومها فيما بعد؛ فالأولاد الصغار، أولا، لا يقدرون على القبض على السارق، وإن وجدوا لايتسنى لهم أن يعارضوا. أهالي القرية كاهم يتِّحدون ضدهم، وهكذا لم تبق الأغنام حتى نصفها في شهر واحد، كانت هذه مشكلة كبرى؛ فنهائيا دعا بدهو جزارا، وباع كل الأغنام بخمس مئة روبية، سافر إلى الحج بمئتي روبية، وادخر ما تبقى منها لإطعام البراهمه.
بعدما غادر بدهو إلى الحج نُقِّب منزله مرتين، ولكن سلمت الروبيات لتيقظ أهاليه.
كان ذاك شهر الربيع؛ تهتز كل المنطقة بالخضرة والنضرة، لم تكن لدى جنكير ثيران، وقد أعطى الحقول بالمضاربة. أكمل بدهو مدة تكفير السيئات، وأصبح أيضا حرا من حب المال، لم يتبق لديهما شيء من المال، فمن الذي يحسد؟ وعلى أي شيء يحسد؟
وبعدما انغلق معمل الحبال، جعل يعمل جنكير في معمل التصبيغ، وكان في المدينه مبنى دار الركاب قيد البناء؛ يعمل فيه آلاف العمال، وكان جنكير واحدا منهم؛ يعود إلى منزله مرة كل أسبوع بأجرته، ويمضي الليلة، ثم يغدو إلى العمل. وصل بدهو باحثا عن العمل حيث يعمل جنكير، رأى ضابط المحاصيل أنه رجل شاحب منقبض لا يقدر على فعل شيء، فوظفه لإيصال الطين إلى البنائين، ذهب بدهو لأخذ الطين حاملا الصينية على رأسه، فرأى هناك جنكير، تبادرا بالتحية: "رام رام"، وملأ صينيته بالطين، حملها بدهو، وظلا يعملان طوال النهار.
سأله جنكير عند المساء: هل ستحضر شيئا للعَشاء؟
بدهو: بكل تأكيد، وإلا فماذا سآكل؟
جنكير: أقضي شهر يونيو بكل كفاف، آكل السويق؛ فمن يكابد المشاق؟
بدهو: اجمع الحطب من هنا وهناك، لقد أتيت بالدقيق من البيت، كنت طحنته في المنزل، فإنه غال جدا هنا، سوف أعجنه على هذه الصخره الحجارية، أنت سوف لا تأكل من صنع يدي؛ إذا سخِّن أنت، وأنا أخبز لك.
جنكير: لا يوجد الطاجن أيضا.
بدهو: هناك الكثير من الطواجن، سأنظف صينية الطين.
اتقدت النار، عُجن الدقيق، حضَّر جنكير أخبازا غير كاملة النضج، أحضر بدهو الماء، وأكل كلاهما الأخباز مع الملح والفلفل، ثم أُشعِلَتِ النارجيلة، وطفقا يدخنانها مستلقيين على لوح حجري.
قال بدهو: أنا ذاك الرجل الذي أحرق حقول ذراك.
رد عليه جنكير ممازحا: أعرف ذلك!!؟؟.
وبعد هنيهة نطق جنكير: وأنا ذاك الرجل الذي ربط العِجل، وهري هر هو الذي أطعمه السم.
رد بدهو في الأسلوب نفسه: أعرف ذلك.
ثم ناما معاً.
۞۞۞