من مذكرات كلب
بقلم: د. بن ضحوى خيرة
الجزائر
جيء بي كقطعة أثرية مفقودة، محمولا على التبن الذي نقله المزارع العجوز، من حقول القمح الكثيرة التي يملكها، كنت على العربة الحديدية التي كانت تأتي كل صباح إلى حقول القمح، لتجمع المحصول وبقايا التبن المتناثرة، لم أكن أعلم حقا أين يذهبون بهذا القش يوميا، ودون كلل، وهل يأكلون كل هذا العشب اليابس؟ يا لهم من قطعان جائعة لا تهتم بتغيير أكلها وغذائها كما نفعل نحن الكلاب، كانت الكلاب الضارية تحسدني، وقد علقت عيونها على ذراع صاحب الحقول الملتفة على جسدي الصغير، كنت صغيرا كفاية لتحملني ذراع قوية، وساعد مفتول من كثرة العمل الشاق.
رفعني الرجل إلى أعلى، بعدما دامت ملاحقتي بضع دقائق فقط، وبعدما تأكد من مغادرة أمي المكان، كانت ثيابه تشبه التي علقها عامل عنده منذ أيام بالحقل، والتي تسميها أمي "بالقراعة" لكثرة علب المشروبات الفارغة المثقوبة، والمعلقة بخيط كما لو أنها مشنوقة، تصدر عويل المقتولين وآهاتهم كلما هبت الرياح.
لم تكن هذه المعلقة لأجلنا، فنحن لا نأكل القمح لا نيًّا ولا طازجا، بل كانت للطيور المهاجرة وللغربان وتلك التي تعيش في شكل جماعات، كنت محمولا ورجلاي تتدليان لأسفل كجذور أعشاب ضارة، نزعها البستاني من حقل البطاطس والجزر، صرت أعرف كل أنواع المحاصيل وأنواع الأعشاب، أو هكذا كنت أظن، فساكن الحقل ليس مزارعا، والمزارع ليس صاحب الحقل دائما.
حملني الرجل فوق العربة بعدما أحاط جسمي الضعيف بفتات التبن والقش، وكنت أظنني اُخترت من بين الكلاب الموجودة في الحقل للتنزه، ربما ثقتي كانت عالية وغروري كان أشد لأن البقع البنية التي كانت على جسمي، كانت كفيلة أن تميزني عنهم جميعا، أو ربما طول ذيلي هو السبب، أو الفرو الموجود على جسمي وبريقه بسبب لعق أمي له دائما، ابتعدنا كثيرا عن الحقل كانت عيناي لا تفارقان الطريق غير المعبد، كثير المطبات والنتوءات التي كانت ترفعنا لأعلى مرات وتنزل بنا لأسفل مرات كثر، طالت المسافة، وكان الحقل يختفي أمام عيناي الذابلتين، حتى شعرت بالدوار، بكيت لكن صاحب اليدين الضخمتين لم يلاحظ ذلك ولم يشعر أيضا، نحن لا نتكلم اللغة ذاتها، لكن لدينا نحن الكلاب قدرة على فهمهم إن تحدثوا إلينا أو إلى بعضهم، كنا نفهم حتى الإشارة والتلويح إذا ما لوحوا لنا.
سرعة العربة تقل شيئا فشيئا، إلى أن توقفت أمام منزل كبير، محاط بسياج محكم النسج عليه أسلاك تآكلت من الصدئ، لم تكن هناك قراعة، ولا عمال، ولم يكن هناك محصول، لم يكن المكان مألوفا بالنسبة لي، ولم تكن هناك أية متعة فيه ولا اخضرار، كان جافا باردا أصفر كلون البهمة والشيح المنزوع والمرمي على الطرقات، نزل الرجل ولا زلت بقبضة ذراعه مدلى، لم أكن أعلم أني مهم إلى هذه الدرجة، وضعني ببطء على الأرض واختلفت قوائمي لطول المسافة، والضغط الذي عانيته من قبضته القوية.
لوهلة أحسست وكأني فقدت القدرة على الحركة، كان ذلك منذ زمن قبل أن أدرك الحقيقة، نادى الرجل بأعلى صوته، كان صوته كالعادة أجشا قويا، فخرج على الفور طفل كث الشعر، سمين غير متوازن الحركات، بنيته متباينة الأشكال والانحناءات، لم أستطع وقتها معرفة ملامح وجهه لكثرة الانتفاخ الموجود به، هرع مباشرة نحوي يتلمسني، يدفعني ثم يضمني، ويشدني من أذناي الصغيرتين ويسحبني من ذيلي، كان يضغط علي بشدة لدرجة عدم إحساسي به، ربما كان يظن أنه بإمكانه نزعه؟، أو ربما كان يريد أخذه لأنه لا يمتلك واحدا مثله!، لم يكن المنظر جميلا البتة، تركني الرجل مع أبشع مخلوق على وجه الأرض هكذا أحسست، تبددت أحلام النزهة فجأة وصرت أشعر بالغربة والحنين إلى أمي، إلى العشب المبلل ببول إخوتي، إلى المكان الذي كان يظنه الكل جحيما حتى أنا...
العربة الحديدية كانت رحمة، والطرق الملتوية غير المعبدة، الحفرة التي نسكنها وحشرات الحقل، الكلاب التي كانت تشاركنا أمي، كل ذلك كان رائعا مقارنة بالذي لقيته...
لازالت تلك الأصابع المنتفخة تتفقّد كل شبر في جسمي، أتراه يريد التهامي؟ هكذا كنت أفكر حينها، إلى أن خرجت أخته الكبرى، لم تكن كبيرة في الجسم فحسب بل كانت أكبر سنا، ظننت وقتها أن أحدا ما سينقذني من قبضة هذا الوحش الصغير صاحب الشعر الكثيف، وتأملت جرية أخته التي كانت خطواتها سريعة بحجم ساقها الطويلة كقصب الخيزران العطشان، كنت أراقب وصولها، وأنتظر التحرر...وصلت أخيرا، عيناها الذئبيتان بلون الرماد كانتا تحدقان بي وبصاحب الشعر، كانت تلبس تنورة باهتة اللون، عليها بقع بنية تميل إلى السواد، جمعت مع التنورة قميصا زهري اللون، كان ذلك كفيلا لأن يظهر تفاصيل عظامها، الفتاة كانت عكس أخيها تماما يداها الطويلتان وأصابعها المخلبية تذكرني بالكلاب الضارية التي كانت تتجول بالمكان الذي كنت فيه، ولونها الشاحب كالغبار يبرز ابتسامة معوجة لا تستطيع من خلالها إطباق الشفاه بسبب طول أسنانها الأمامية، أنفها كان طويلا حادا ينفتح وينغلق تارة، من كثرة الجري، يبدوا أننا لسنا الوحيدين في العالم الذين تتدلى ألسنتنا أثناء الجري ودونه...
دفعت الفتاة صاحب الشعر، وتدافعا نحوي يمدان أيديهما لإمساكي، كنت هادئا أو بالأحرى لم تسمح بنيتي ولا قوتي الجسدية بذلك، تدافعا وتدافعا واستطاعت الأخت الكبرى أن تمسك بي أولا، كان مؤلما بحق أن تشعر بمخالب فتاة تغرس في جلدك، كان مأساويا جدا، رفعتني إلى أعلى حتى لا يستطيع صاحب الشعر الكثيف الإمساك بي، ولا حتى التفكير في الوصول إلي، دخلت إلى البيت وهي تحملني بصراخ غريب وأصوات لم أعهدها، فلا أذكر أني سمعت أصوات كهذه، ما كان يتردد على أذني في الحقل هيا أسرعوا، أنت بطيء يا هذا، المال غير كاف ماذا... يحسب نفسه، تبا لهذا العمل البائس لو وجدت غيره لغادرت المكان ورميت بمنجلي في وجهه القبيح...كانت كلها كلمات تذمر يطلقها الجوع والإحساس بالتعب.
دخلت بي اليد المخلبية إلى باحة المنزل، كان المكان واسعا وكان هناك حركة لنسوة كثر في البيت، كانت الشمس على وشك مغادرة المكان، أصبح الفضاء مظلما فجأة...لم أعد أرى التفاصيل كما كنت أراها، الوجوه مختلفة والحركات متدافعة، نعم إنه صاحب القائمتين ليس أكثر، أنا بينهم...بين البشر في بيتهم وداخل العائلة، هل يظنوني بشرا؟ هكذا كنت أفكر حينها... اقتربت الفتاة من مكان فيه حركة كبيرة تنبع منه روائح مختلفة، تشبه تلك الخلطة التي كان يتركها الرعاة والعمال في الحقل بعد غدائهم، أحضرت إناء من البلاستيك مشقوق الشفة وضعت فيه القليل من الحليب ثم أضافت عليه الماء، أنزلتني أرضا ودفعت إلي واندفعت أنا نحو الركن اقتربت ورجعت إلى الوراء إلى أن انكمش جسمي، وتداخل كلي في بعضي، كشرت عن أنيابي مدافعا عن نفسي لم يكن الصوت الذي أصدره كافيا، فرقت أصابها وجذبتني نحو الإناء بقوة من رقبتي، ثم غطست رأسي به، إلى أن تبلل وجهي كله...
كم كان مخزيا ألا يعرف البشر أن الرضاعة، لا تشبه الشرب من الإناء، بقيت على هذا الحال أشرب بقوة ورغما عني، يتلهى بي الصغير ويدفعني برجله الكبير، كنت أرمى خارجا أثناء نومهم، أدركت حينها أني كنت لعبة لطفلهم، وتسلية ليس إلا، وكبرت وكبر جسمي وصار مأكلي بقايا أكلهم، وشربهم كان مزيجا بين غداء اليوم والأمس، حساء وأرز وعظام، وماء وإذا نسو إطعامي رموا إلى بخبز مبلل بالماء نعم إنه كرم العائلات الكبيرة كرم الرجال، فأنا لا أفعل أي شيء أنا أحرسهم فقط! أبقى مستيقظا أثناء نومهم...ونسيت أمي.
أصبحت أشبه أولئك الرجال الذين كانوا يعملون بالحقل، ينسون الإهانة والتعب والمذلة مقابل لقمة ترمى إليهم آخر النهار، وربما آخر الشهر، أنا لا أعرف شكل إخوتي الآن ولا أعرف إن كان حظهم كحظي، لست متأكدا إن بقوا في الحقل أو أخذتم أيد أخرى، حياة الكلاب الضارية كانت أفضل من حياتي بكثير، على الأقل كانت تُقتل بكرامة، توضع لها سموم أو قطع زجاج مخلوطة بلحم مفروم فاسد، أو حتى بعظام السمك التي كانت كافية بقتل كلب قوي بحجم الثور، أظن أن البقاء مع البشر متعب حقا.
تعودت على المكان، وتعودت الوجوه المصفرة القاتلة، تعودت نباحهم نهارا، لم يكن الأمر مزعجا لي، لأني كنت أزعجهم ليلا، أقترب من نوافذهم أثناء نومهم لأحول ليلهم الهادئ إلى جحيم بحجة النباح في أي شيء قد يقترب من البيت كنت أصطنع صراعا غير موجود، أكر وأفر بلا سبب، ويحتدم الصراع أكثر إذا شكا إلى الحمار ألمه بعد العودة من الحقل، فنعمل سويا على إحياء ليلنا بالنهيق والنباح، المخلوط بالعواء مرات حسدا للذئب الذي رفض الترويض...
كم تمنيت لو كنت ذئبا...
كنا نتبادل النباح أنا وكلاب المنازل المجاورة، نزعزع الحي زمجرة وكلنا عزم على إبقاء الحال على حاله لغاية الصبح، لم يفكر البشر يوما أن انتقامنا مدروس ومنظم ننطلق وفق طبيعتنا، وننام نهارنا كله حتى نتأهب لليلة الموالية، وهكذا إلى أن يقرر المالك طردنا، أو إبعادنا ولو جزئيا، حقيقة كان الأمر يحلو لي كلما اختفت بطن الزوجة أو البنت، واختلط غداؤنا بشيء من السميد الحلو، فندرك حينها أن أمرا ما استجد، صاحب البيت رزق بطفل...
وقتها تنشط حركتي ويصبح نباحي ليليا أكثر، مع فترات متعاقبة في النهار، وحتى وإن قرر صاحب البيت رميي وحملي إلى أبعد مكان بطلب من حرمه، أعود وليس ذلك بصعب، نحن لدينا حواس قوية نشم بها المكان الذي لطالما تبولنا فيه نعود ليس حبا في المذلة، وإنما حبا في الانتقام...
كبرت نعم ومرت السنون، وكبر صاحب الشعر الكثيف، صارا شابا يافعا، تغيرت قصة شعره، ومعها تغيرت حركات جسمه، لم يعد كما كان...صار غير آبه بي لا يقبل اقترابي له، ولا يهمه منظري الذي تغير، تغيرنا معا...لكن صاحبة الساق القصبية والأيادي المخلبية لازالت كما هي، شاحبة المنظر، نحيفة الجسم، بارزة الأسنان...بالرغم من كبرها في السن إلى أنها لازالت تلاحقني، وكلما رأتني في مكان ما قرب المنزل، رمت عليَّ فردة حذائها البلاستيكي كريه الرائحة...سبع سنوات مضت لازالت تحتفظ بدرجة الكره ذاتها لنا نحن الكلاب...
ترى هل لها حكاية معهم؟ ربما...
كان كلما طلع النهار، نزلت للقرية حتى لا يخرج صاحب المنزل، مشحونا بكراهية الليل الذي لم ينمه، فيصب غضبه علي، أعرف أنه كان يبحث عني صباحا وينسى ذلك بعد ساعة، لانشغاله بأمور أخرى يفرضها ضوء النهار ولفحة الشمس إن لم ينه عمله كاملا، كنت أتجول في أزقة القرية أرفع هامتي وأرخي بذيلي، حتى إذا صادفت طفلا هرعت لأن وراؤه أكيد مجموعة شرسة تشبهه، ستشبعني حجارة إذا ما تماطلت في المشي، هو هوس ليس إلا بالظلم...
ورثوه أبا عن جد، أجري وأجري حتى أصبح في مأمن، لقد ورّثنا البشر عاداتهم، نرفع بنظرنا إلى ما ليس لنا، ونتجول في الأزقة لمجرد التسكع، نجري ونتوقف لنرى ما الذي يحدث حولنا، لقد تحولنا فجأة إلى أسوء نسخة عن البشر، لكن بذيل وبناب غير مجدي، نمزق فقط به قطع الأشياء المرمية ونأتي بها قرب منازل مالكينا حتى نغيظ نساؤهم، فيخرجون لتنظيف المكان، ونصير نحن الأسياد فجأة...