ضحكة رنّانة
(القصة الفائزة بالجائزة الأولى بالمناصفة في الفئة الأولى، فئة الدكتوراه في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
حامد رضا *
خرج الطبيب الشابّ الوسيم في زيّه الأبيض من وحدة العناية المركّزة، ودخل مكتب الاستعلام وأعلن عبر مكبّر الصوت: "سيدة عفيفة خانم! يطلب منك تزويدنا بأسطوانة الأكسجين بأسرع وقتٍ ممكنٍ، ليس لدينا من الأكسجين ما يكفي لوالدك، عندك ساعتان فقط". قال هذا واختفى في الظلام مثل طيف النائم.
صعقت عفيفة خانم بهذا الإعلان، كيف تدبّر الأمر بمفردها وهي لا تعرف أين مركز الأكسجين؟ وأجالت نظراتها في أنحاء المستشفى، فلم تجد إلّا سيّارات الإسعاف والممرّضات وبعض الرجال الذين كانوا يحملون أسطوانات الأكسجين على أكتافهم كما تُحمل الجثث، فازدادت قلقاً، وتتابع خفقان قلبها، واتّجهت إلى مكتب الاستعلام، وتوسّلت إلى الولد الجالس في المقصورة، وأغرته بالنقود، ولكنّه لم يذعن لها، وبدا قاسياً مثل جزّارٍ، وقال لها بلهجةٍ صارمةٍ: "سيدتي! أنا آسف جداً، لا أستطيع مساعدتك، أنت ترين بأم عينيك أنّ الناس شبابا وشيوخا يلفظون أنفاسهم الأخيرة صباح مساء بسبب عدم توافر الأكسجين، ولو كان في حوزتي، لما منعتك."
"كم هو قاسٍ، والدي يصارع الموت، وهو يلقي المحاضرة، تبّاً له!" غمرها اليأس الممزوج بالحيرة، ماذا تفعل؟ وكيف تدبر لحلّ هذه الأزمة؟؟ وكانت على درايةٍ كاملةٍ بأزمة شديدة لنقص الأكسجين في المدينة منذ أن داهمتها الموجة الثانية لوباء كوفيد 19، وقد قرأت أخباراً مفجعةً للغاية عن المرضى الذين كانوا يموتون في المستشفيات كلّ يومٍ، وأصبح الأكسجين مثل ترياقٍ نادرٍ لهم، كان والدها العطوف شكي من الصداع والسعال فقط، لأجل ذلك إنّها لم تسع للحصول على أسطوانة الأكسجين. فاتّصلت بأخيه "محمّد حمّاد" الذي كان مقيماً في الولايات المتحدة الأمريكية مع أسرته، وأطلعته على جلّ الأمور، فقال لها مسلّيا: "أنا سوف أتصل بأصدقائي ومعارفي، ولكن عليك أن تذهبي إلى مركز الأكسجين فوراً."
فاستفسرت الولد عن العنوان، واتّجهت إلى غرفة رقم 20، وحملت أسطوانة الأكسجين الخالية الثقيلة، وجرّتها إلى الشارع، وكانت الحكومة فرضت الحظر على الخروج من البيوت بدون مبرّرٍ، فكان الشارع شبه خالٍ، وسرعان ما وجدت آتو (ركشا ذات محرّك) وانطلقت إلى المركز الذي كان على مسافة خمسة كيلومترات من المستشفى، وقد استحوذت عليها الأفكار المشوّشة عن نفسها ووالدها العطوف: "إنّها فقدت أمّها قبل أن يضرب الوباء البلاد، والآن يهدّد الموت أباها العطوف، وهو قضى معظم حياته مدافعاً عن الوطن على الحدود وقاتل الإرهابيين والمقاتلين، والآن لا أحد يسأل عن أحواله، هل هو حقّاً ضيف لبعض الساعات فقط،" شعرت بقشعريرةٍ في جسدها ما أن داهمتها هذه الفكرة، إنّها بنت وحيدة له، وقد بلغت ثلاثين سنةً من العمر وعلى حظٍّ وافرٍ من الجمال، ولكنّها لم تتزوّج بعد، على الرّغم من إصرار أبيها وعلى الرغم من أنّ عدداً من الشبّان طلبوا يدها، لأنّها على يقينٍ أنّ والدها سيبقى وحيداً بعد الزواج، وأنّ الوحدة ستقوّض كيانه وتنقضّ عليه الأمراض من كلّ جانبٍ، ولكن الآن كيف تنقذ أباها من براثن الموت المدبّبة؟ من يأخذ بيدها ومن يتقدّم للمساعدة؟ دمعت عيناها الورديّتان على هذا، ودعت الله الشفاء والصّحة لأبيها، وتلت بعض السور من القرآن الكريم التي حفظتها في الطفولة.
بلغت مركز الأكسجين، ونزلت من آتو، فما أن رأت زحام الناس والطوابير الطويلة المعوّجة مثل قطار البضائع، حتّى مادت بها الأرض! كيف لفتاةٍ أن تملأ الأسطوانة في غضون ساعتين، والنّاس ينتظرون نوبتهم منذ ساعاتٍ، حتماً أبوه ضيف لسويعات! لم تفهم ما تفعل، ومثل مجنونٍ استعرضت الطوابير من الأوّل إلى الآخر، لعلّها تجد صديقةً أو زميلةً، ولم تهتمّ بالخمار الذي انزلق من رأسها الأسود الفاحم، ولكن جميع الناس ألقوا الكمائم على وجوههم، فلم تعرف أحداً، كما لم يكن هناك طابور خاصّ للنساء والفتيات، فانضمّت إلى الطابور الذي كان قصيرا نسبياً، وأصبحت تنتظر نوبتها، وكانت الشمس حوّلت الأرض إلى أتّونٍ، وتصبّب النّاس عرقاً، وجفّت الألسنة عطشاً، وأصبحت مثل أشواكٍ، فتذكّروا يوم القيامة! حيث ينقلب الأقرباء غرباء، ولا يتعاطف أحد مع أحد، وتصرف الأمّ وجهها عن أولادها، وكأنّ الأسطوانات الّتي يحملها كلّ شخصٍ سجلّات لأعمال حياتهم، أسلمها إليهم الملائك، وهم ينتظرون نوبتهم للتقديم أمام الذي يقول: "لمن الملك اليوم؟" ما أفزع ذلك اليوم! وما أشدّه!
كان الطابور يزحف مثل السلحفاة، والوقت يمضي بسرعةٍ مذهلةٍ، فاتّصلت عفيفة بأخيها "محمّد حماد" مرّةً أخرى، فبدوره واساها قائلاً: "لا حاجة إلى القلق، اتّصلت بالأصدقاء وهم وعدوني بأنهم سوف يوفّرن أسطوانة الأكسجين".
فأخذت نفس الطمأنينة، وقد نال منها التعب كلّ منالٍ، فأزاحت الكمامة عن وجهها المستدير، وهوّت نفسها بالخمار، وفي أثناء ذلك واصلت تلاوة آية الكرسي والصلاة على النبي، ثمّ فتحت الجوّال، واتّصلت ببعض الأقارب والأصدقاء وأطلعتهم على الأزمة، فأشاروا عليهم أن تكتب رسالة المعونة عبر المواقع الاجتماعية، على هذا النحو فقط يمكن أن تتلقّى المساعدة.
وكانت عفيفة خانم تتحيّر كيف داهم بيتها الوباء هذه المرّة، وقد عملت بتوجيهات الطبيب والحكومة كأحسن ما يكون العمل، ونفّذتها في حياتها اليومية مثلما تنفّذ رجال الدين القرآن والسنّة في حياتهم، فسدّت باب بيتها في وجه كلّ زائرٍ، ولم تسمح لأبيها المسن بالخروج صباح مساء للتنزّه، وقطعت صلتها عن الخارج تماماً، ولم تزر الدكان الذي كان يفتح في الليل خفيةً، واكتفت بقدرٍ زهيدٍ من الطعام الساذج والماسخ، وقد كتبت على بوّابة بيتها: "لي خمسة أطفئ بها حرّ الوباء الحاطمة، المصطفى والمرتضى وابناهما والفاطمة!"
وفجأةً نظرت الساعة، فإذا هي تدقّ الواحدة ظهراً، فاتّصلت بأخيها مرّة أخرى، فلم يردّ عليها، فلعنته وتعليمه وأسرته، كان والدها العطوف يخوض معركة الحياة والموت، وهو يستريح في الغرفة المكيّفة! ولكن لم تمض إلا دقائق حتّى رنّ جوّالها، كان أخوها يتكلّم من الجانب الآخر: "كنت اتّصلت بجميع معارفي، ولكن للأسف الشديد لم يردّ عليّ أحد". فلم تجب عليه بحرفٍ، وأرادت أن تقطع المكالمة، ولكنّه واصل كلامه قائلاً: "لا بأس، إني تحدّثت إلى الطبيب، فواساني، وقال لا حاجة إلى القلق، وقد أودعت المال في حسابك المصرفي".
فتمتمت قائلةً: "المال، النقود، ما المال إن لم يعش والدي؟!"
وفي عجلةٍ فتحت واتس اب وفيس بوك، ولكنّها لم تجد سوى بعض الكلمات للأدعية والمواساة، فتضاعف قلقها، وترسّب الحزن في قلبها كالعكارة في قعر القدر، وقد مضت أكثر من ساعةٍ، ولم يزل هناك عشرون رجلاً في طابورها، فاتّصلت بالطبيب فقال لها بلهجةٍ حاسمةٍ: "سيدة! لا نكون مسؤولين عن حياة أبيك بعد ساعةٍ!"
هوت في بئر الظلام واليأس، وتمثّل لها موت أبيها، فدعت الله من أعماق قلبها، وفجأةً رنّ جوّالها، فرأت رقماً جديداً على الشاشة، فردّت على الفور: "سيدة عفيفة! سيدة عفيفة"!
"نعم، نعم، عفيفة تتكلّم".
"هل أنت تحتاجين إلى أسطوانة الأكسجين؟"
"نعم، بالطبع!"
"أنا منصور، صديقك على فيس بوك، لديّ أسطوانة مملوءة بالأكسجين".
فبدا لها كأنّ ملك الرحمة يزفّ بشرى المغفرة إلى عبدٍ مذنبٍ، فقالت له بعجلةٍ: "جزيل الشكر لك، ولكن كيف لي أن أحصل عليها؟"
"شخص واقف عند بوّابة المستشفى في انتظارك!"
"جزيل الشكر لك!"
"لا شكر على الواجب!"
كان حالها أشبه بحال غريقٍ يتشبّث بثمامةٍ، فخرجت من الطابور فوراً، وركبت آتو، وانطلقت إلى المستشفى، وشكرت الله على أنّه استجاب دعاءها، والآن سوف ينجو أبوها من مخالب الموت، وسيعيش حياةً طويلةً، ولكنّها في فورة الحماسة والسرور نسيت أن تستفسر عن هوّية ذلك الشخص، ولا تأكّدت من اسمها! ماذا إن كانت هي خدعة؟ فداخلها الخوف والقلق والاضطراب، ففتحت فيس بوك، وفتّشت عن اسمه وهويته، فعرفت أنّه تخرّج في جامعة شهيرة، ويعمل موظّفاً في منظّمةٍ غير حكوميةٍ، ويساعد النّاس في الكوارث والآفات، فعادت إليها الطمأنينة.
وبلغت المستشفى، فوجدت فتىً طويلاً عريضاً واقفاً عند البوّابة الرئيسية، وهو منشغل في الجوّال، وأسطوانة الأكسجين موضوعة في جانبه. فألقت عليه التحية، فرفع وجهه المغطّى بالكمامة، وردّ عليها التحية، واستفسر عن اسمها، ثم أسلمها الأسطوانة، فسألته عن الثمن، فرفض، فأصرّت عليه، فقال لها: "عليك أن تتحدّثي إلى "محمّد أسلم!"
فلمّا اتصلت به، وسألته عن الثمن، رفض وقال: "إنّه يساعد المنكوبين ويخدم الإنسانية".
فقالت له: "لا بأس، سوف أتّصل بك فيما بعد، وأدعوك إلى البيت أيضاً".
فشكرها على هذه الدعوة، وقطعت المكالمة.
لم تستطع أن تسيطر على نفسها، وانحدرت من عينيها العسليتين قطرات ساخنة من الدموع، فكفكفتها بأصابعها النحيلة، وقالت لنفسها: "إنّ الدنيا لا تزال باقية بسبب هؤلاء المخلصين، لو لم يكونوا لقامت القيامة."
خرج أبوها من بؤرة الخطر، وفي غضون أيّامٍ عاد إلى بيته معافىً، فأرسلت "عفيفة خانم" رسالة الشكر والامتنان إلى محمّد أسلم، ووجّهت إليه الدعوة لزيارة البيت، ولكنّه رفض وقال إنه منشغل جدا، ولا يجد الفرصة للزيارة واللقاء، إذا انتهت الموجة الثانية للوباء، فمن المحتمل أن يزورها.
فبعد شهرٍ تقريباً عندما هدأت وطأة الوباء، ورفع الحظر، جاء محمّد أسلم مع صديقٍ له، فرحّبت به ترحيباً حاراً، وعرّفته إلى أبيها، واستضافته بمأدبةٍ فاخرةٍ، ثمّ جرى بينهما الحوار عن الوباء والتعليم والعمل والأسرة في جوّ من المودّة، حتّى مضى شطر من الليل فودّعته على أنّه يرتاد البيت في الأيام القادمة أيضاً.
منذ ذلك اليوم فصاعداً توطّدت بينهما الصداقة والمودّة، فزار البيت مراراً وتكراراً، وأمضى أوقاتا سعيدة معا، فاقترحت عليه أن يرتّب لها اللقاء مع أهله وأسرته، ولكنّه أجّل، واختلق الأعذار، فأصرّت عليه ذات يومٍ، وألحّت في الإصرار، فأذعن لها.
أعدّت عفيفة خانم نفسها، وارتدت ملابس زاهيةً جميلةً من موضةٍ حديثةٍ، وأخذت الزواق، وانتظرت حتى جاء بسيارةٍ خاصّةٍ، فحدق بها ملياً، وأعجب بجمالها الساحر، فقبّل شفتيها عندما جالسته.
ركضت السيارة على شارع دلهي المنشغل، ومرّت بكثيرٍ من إشارات المرور، وشعرت عفيفة خانم أنّها خرجت من حدود دلهي، واتّجهت إلى غور غاون، وأمام فيلا توقّفت السيّارة، فتعجّبت واستفسرت فقال لها: "بعد احتساء الشاي سوف نستأنف الرحلة".
ذهب إلى المرحاض، وأجلسها على كرسيٍ وثير في قاعة طويلة وعريضة مكيّفةٍ، وبعد برهةٍ جاء خادم وقال لها إنّ صديقها ينتظرها في الغرفة.
فقامت ودخلت الغرفة فردّ الخادم الباب، وعاد من حيث جاء، فاستغربت ولم تجد محمّد أسلم هناك، وإنّما وجدت شخصاً غريباً يحدق بها، فسألته: "من أنت؟ وأين محمّد أسلم؟"
فأطلق ضحكةً رنّانةً اهتزّت لها جدران الغرفة وقال: "أدّى أسلم واجبه، وقد دفعته الثمن، وذهب لعمله، إنّك أجمل مما تصوّرت".
**********
* باحث الدكتوراه، مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.
يا له من قلب ذليل ! ! لا ممكن إدراك قلوب الناس سهلاً......اين وصلت الإنسانية....؟ امتلأت النفوس بالشهوة و الحرص و المنفعة الذاتية و الأنانية...... شكراً جزيلاً لك لتناول مثل هذه القصة الملائمة للوقت الحالي .....فيها رسالة عظيمة للقراء