الجنين المصلوب
(القصة الفائزة بالجائزة الثالثة بالمناصفة في الفئة الأولى، فئة الدكتوراه في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
محمد معراج عالم *
"دلهي مدينة لأهل القلوب والعشاق ومومباي مدينة لأرباب الأموال والتجار" مقولة تتلألأ في ضوء المصباح على لافتة كبيرة الحجم التي أقيمت على عمد حديدية، وما إن خرجت رضية من الباب الرئيسي إلى خارج المحطة حتى وقع نظرها عليها، فنادت بزوجها من بعيد، وطلبت منه الالتفات إلى اللافتة، فاهتز طلحة طربا، وتقدم بوازع من السرور المتفاجئ إليها وقرب شفته إلى خدها، فدفعته إلى الوراء وقالت: أيها المجنون: هل جن عقلك؟ كيف تتجرأ على هذا على رؤوس الأشهاد؟
ابتسم ابتسامة خفيفة وقال: يا غزالتى: هذه ليست قريتك "هري نغر" حيث يبقى الناس عاطلين، فليس لهم عمل سوى التجسس، والإتيان بالنميمة، والاغتياب، ومحاولة التفريق بين القلوب ونشر الفوضى بين الناس، بل هذه مدينة دلهي عاصمة البلاد، كل في غنى عن الآخرين، ولا يسعهم الوقت لكى يفكروا بما لا يعنيهم، وآل الأمر إلى أن الجار لا يعرف عن جاره شيئا في كثير من الأحيان؛ ولو مات أحد بجواره لما عرف بموته، ولو مرض أحد لا يعوده الجار لكثرة أشغاله، فالحياة في مدينة دلهي حياة الانعزال عن العالم على الرغم من ازدحام الناس، وحياة الغربة على الرغم من كثرة تواجد الإنسان، وحياة الحرمان على الرغم من وجود وسائل العيش؛ كل يعيش في هذه المدينة بمنعزل عن الآخرين، ومثل العيش في مثل هذه المدن كمثل مشهد من مشاهد القيامة التي صورها الله تعالى في كتابه المجيد"يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ".
بينما كانا يناقشان إذ تسابق سائقوا التاكسي إلى حقائبهما، وجعل يسب بعضهم بعضا، وكادت أن تتحول ساحة المحطة إلى ساحة القتال.
انزعج طلحة من خصامهم، والتفت مع الحقائب إلى محطة الباص، فظهر أمامهم رجل ستيني مرتديا اللباس الأحمر، وطلب منه وظيفة حمل أغراضه وحقائبه إليها مقابل مائتي روبية.
بدأ الحمال يسير بخطى سريعة نحوها حاملا الحقائب على كتفيه ورأسه، وتسير الزوجة مع الطفلين على إثره، وبقي طلحة يمشي بخطى بطيئة ومثقلة مستغرقا في الخيال. ولاحت من بعيد عدة خيام مصنوعة من الثياب البالية تحت الجسر العالي محاذية إشارة المرور، ولما دخل في النفق ووصل إلى الخيمة تحت الجسر ظهرت فتاة أربعينية في الساري الهندي، ويتضوع منها المسك، ويتوهج المكان حواليها بشذاها، وقطعت عليه الطريق، وأغرته بجسدها قائلة: الجسد كله مقابل خمس مأة روبية.
بدأت تزداد دقات قلبه خفقانا، وفي البداية فقد توازن أعصابه، وخيل إليه كأنه فقد حواسه أو مسه الجن، وعندما رأت الفتاة أنه لا يقول شيئا، حاولت استفزاز غريزته الجنسية بإبراز أعضاء جسدها الفاتنة المثيرة للشهوات: "جسدي السافر كله لك مقابل مأتى روبية ولا غير، علاوة على الخصم المتوفر لك أيها الثور الهندي.
استجمع قواه الحاسة واسترد توازنه وتمالك أعصابه ودفعها إلى الوراء، وقال: يا أيتها المرأة: أنا أعطيك ألفي روبية، ولكن قومي مبتعدة مني، ولا تحاولي مد يدك إلى جسدي مرة أخرى.
بدأت عيناهما تلتقيان دون أن يغادر أحدهما مكانه، لقد ساد صمت مدهش، ووقفا ساكتين حائرين متعجبين؛ كأن على رأسيهما الطير؛ وبعد برهة بدأت المرأة تعتذر إليه.
سامحيني يا سيدي، هذه مهنة امتهنتها مجبرة وليس عن طيب خاطري.
لماذا لا تتوظفين في أي شركة لاكتساب الرزق أيتها السيدة؟
تنهدت المرأة وقالت: فمن يوظفني يا سيدي؟ لأني في نظر الجميع امرأة تبيع جسدها للقمة العيش، ولكن اسأل هذه الصخرة الموضوعة تحت قدمي، ستحكى لك قصة عشر سنوات.
تغير لون وجهه، وبدأ ينظر إلى صخرة موضوعة تحت قدميها، وجاش قلبه بالحب والترحم لها، وكاد أن ينفجر كالبارود باكيا، ولكنه بقي محتفظا بتوازنه، وتمالك أعصابه، وقال في نفسه مخاطبا الصخرة" أيتها الصخرة الحبيبة: لو نفخ الله فيك الروح ستذوبين ترحما على النساء البائسات على الرغم من صلابتك، ولكن الإنسان الذي يستغل فقرهن لإشباع غريزته الجنسية أصلب منك".
لو لم يكن لك أن تحصلي على الوظيفة في شركة؟ فلماذا لا تعملين كخادمة في البيوت تكنسين وتغسلين الملابس وتنظفين الأواني، لأن الوظيفة سواء كانت من أي نوع خير من بيع الجسد، لأن الجسد أمانة لزوجك.
تنهدت المرأة ثانية كأنها دفنت في قلبها كثيرا من الآلام والأحزان، هل تتحدث عن الزوج؟ فلا تحاول إثارة أحزاني الدفينة، وهل تتحدث عن العمل كخادمة في البيوت؟ فلو لم أعمل خادمة في بيت عمدة القرية لما كنت وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من شقاء وخزي واستياء. ولكني أخاف من أنك لا تصدقني يا سيدي، ولكن هذه الصخرة مودعة أسراري، لقد بحت لها بجميع أسراري وآلامي، وستحتفظ بجميعها طوال الدهر.
قدم إليها ألفي روبية. ولكنها لم تقبل ولفظت: لست متسولة يا سيدي، لو لم تعجبك بضاعتي فلا بأس.
هذا ليس نوعا من التبرع، بل وعدتك به فأوفي.
سأقبل لو سمعت مني قصتي.
هم ينتظرونني في محطة الباص، دعيني ألحق بهم.
لوكان الأمر كذلك، فالحق بهم، ولكن هذه أمانة لديك، وعندما تعود إليّ ثانية ستعيدها إلى أهلها، وأنا أحكي لك قصتي المؤلمة.
تقدم طلحة إلى الأمام وصرخت المرأة من الوراء: اسمي "أجالا" وهذه منطقة الضوء الأحمر، فلا تنسني يا سيدي، سوف أنتظرك طول حياتي لكي أخفف من أحزاني. ثم جعلت تردد كلمات بلهجة محزنة "أنا لست بالمسيح، ولن أكون كفارة لجميع الذنوب التي اقترفتها وللآثام التي تلوث بها وجودك وروحك، فلو صلبتني لن أكون إلا مجلبة للشر والمصيبة لك، لأن "من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا"، وإثمه يجلب المصيبة والآلام للقاتل".
لقد وصل طلحة إلى أرض البطولات النسائية "شاهين باغ " التي عرفت كرمز للكفاح النسائي في سبيل الوطن، ولكن هذا الحادث علق بذاكرته، وتسبح على أفق ذهنه حينا لآخر كلمات قالتها عند الوداع، أصبحت الكلمات غصة في حلقه. ذات مرة لاحت له فكرة الذهاب إلى منطقة الضوء الأحمر لكي يطلب من "أجالا" دواء للمرض النفسي الذي كاد أن يفتك بروحه ، وحلا للغزة التي بقيت معقدة وعبأ يثقل قلبه منذ التقائه بها، فلما وصل إلى "منطقة الضوء الأحمر" عاد اليأس إلى قلبه، وغشيه الحزن، وأحاط به الهم؛ لأن النفق تحت الجسر العالي تحول إلى خراب، لم تبق فيه خيام تعيش فيها الشرموطات ولم تبق فيه "أجالا"، فأصبح طلحة عاطفيا ولاح أثره على وجهه، وغاب في الذكريات الماضية، والدموع تسيل من عينيه على خديه كالجدولين، بينما هو كذلك إذ رن في أذنيه صوت "يا سيدي لا تقلق، لقد ساق القدر "أجالا" إلى حيث يشاء، فغادرت المكان، ولكنها تركتني كمودعة أسرارها، تقدم إلي؛ ستجد حلا للغزة أصبحت غصة في حلقك".
أجال البصر فوقع نظره على الصخرة التي شهدت بكل ما جرى بينهما، فتقدم إليها، فوجد فيها ثقبا يصل إلى جوفها، ورأى فيها دفترا باسم "رسائل بنات جعلها الوضع شرموطات"، وعندما فتح الصفحة الأولى وجد فيها "لايجوز لك إلا أن تقرأ الرسالة الأولى، والتجاوز إلى الرسائل الأخرى حرام عليك، لأنها أسرار رفيقاتي يجب أن تبقى أسرارا، فمن كتم السر يكتم الله سره ومن فضح السر يفضحه الله ويذله أمام الخلائق".
فتح الرسالة الأولى وكتبت أجالا مخاطبة طلحة:
يا سيدي: أنا أحببتك، وهذه أول مرة في حياتي عشقت رجلا، لأني وجدتك إنسانا حقيقيا في زحام البشر الذين لم يبق فيهم من البشرية إلا اسمه ولكنهم أسوء من البهائم في الطبائع، لأني أدركت خلال عشر سنوات أن كل من مر بهذا النفق راودني ومال إلى جسدي لإشباع هوسه الجنسي، ولكنك يا حبيبي لا تثق بحبي بقدر يسير من السهولة، لأني شرموطة في نظرك، وهي لا تستحق أن تحب في نظر المجتمع، لأنها الروبوت الجنسية وماكينة ممارسة الجنس الخالية من العواطف والمشاعر، ولكن يا سيدي، الظروف هي التي أجبرتني على الوقوع في هذه القذارة التي أصبحت نصيبي، ولا أستطيع أن أخرج منها إلا إذا أردت.
يا حبيبي: لقد كنت بنتا فقيرة يتيمة الأب، وأمي تعمل كخادمة في بيت عمدة القرية "سيتهو"، وكنت أدرس في مدرسة حكومية، وعندما كنت أرجع من المدرسة أصطحب أمي إلى بيت العمدة لمساعدتها في العمل، وأعجب "كالو" بجسدي، فبدأ يحوم حولي كما تحوم الغربان حول الشاة الميتة، حتى تدفأ بي يوما إجبارا وطلبت منه بإلحاح ألا يهدم قصر أنوثتي، ولكنه هدم وجودي لتبريد ناره الجنسية رغم أنفي، ولما ظهر الحمل طلبت أمي من "العمدة “أن يزوج ابنه معي. غضب العمدة، وقال: هذه طبيعة النساء الفقيرات، استأجرتها كخادمة إشفاقا عليها، ولكنها تريد أن تهينني وتحط من شأني، وهددني أبو الجنين "كالو" بقتل أمي لو لم أجر عملية الإجهاض ولم أتلخص من الجنين، فوقعت في صراع شديد بين حياة أمي سندي وظهري وبين الجنين مظهر الحب البشري، وفي نهاية المطاف قضيت بالإجهاض، فظهر قبل يوم من الإجهاض في الحلم جنين جميل ووسيم اجتذب قلبي إليه، واحتضنني وقال "يا أمي"أنا لست بالمسيح، ولن أكون كفارة لجميع الذنوب التي اقترفتها وللآثام التي تلوث بها وجودك وروحك، فلو صلبتني لن أكون إلا مجلبة للشر والمصيبة لك، لأن "من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا"، وإثمه يجلب المصيبة والآلام للقاتل".
**********
* باحث بمركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو بنيو دلهي، البريد الإلكتروني: mohdmeraznadvi@gmail.com، رقم الواتساب:9044534036..
ماشاءاللہ ،الف مبروک اخی الغالی ،اللہ یقدم اقبالک وسعادتک