لا تبحث عن الفوضى في بريق القصور العالية بل تجول في الشوارع الضيّقة المعتمة التي يجعلها الجوع والفقر مسكنا له. كان هناك المقنع يرتدي عباءة سوداء حينما تصغي أذناه إلى كلام الناس.
كان المنازل عالية لمدينة أوجيان تترآى كقمم شاهقة لهمالايا في صمت منتصف الليل. تضمها الظلمة في حضنها مثل الأم. كانت الممرات الضيقة الصغيرة ساكتة مثل أمكنة مظلمة لجبل. إنه جاء بعد مغادرة البقعة الصاخبة إلى حيث لا يحب الناس من الطبقة المتوسطة المجيء إليها. كان في الشارع الذي جدران بيوته من الطين بدلا من الحجر. قال أحد: يا الله! اسعد العالم، ثم أخذ نفسا عميقا. ففجأ الرجل المقنع ثم تقدم قليلا إلى الأمام وسأل ببطء، من الذي يتنهد؟
اصطدم رجله بجسم أحد فتمتم.
قال أحد وهو يتنفس نفسا باردا من قرب في صوت متعب. قال: يا الله اسعد العالم. سأل المقنع مرة أخرى، من هنا؟ وهذه المرة كان صوته عاليا.
أنا باحث السعادة.
السعادة؟ باحث عن السعادة؟ فضحك ضحكة سخرية، أين السلام والسعادة هنا؟
أنا أبحث عن مسكن الفوضى.
إذن لقد وصلت إلى مكان رشيد.
ماذا؟
هذا هو المكان الذي يفجر الفوضى.
هنا؟
نعم.
ثم ظهر رجل من قرب المقنع كأنه هو مثل شخصية عفريت في حكايات ألف ليلة وليلة. كان ثيابه ناعمة قذرة عليها بعض رقعات، تساعده في تغطية جسمه. نظر إلى المقنع وفي هذا الظلام شعر أن نظراته تمزق ملابسه وتغلغل في أحشاء قلبه.
وضع الرجل يده على كتف المقنع وأشاره إلى جهة أخرى وقال أفهمت؟
ماذا؟
هذا المكان هو مصدر الفوضى؟
هذا المكان؟
نعم.
من الذين يسكنون هنا؟
المظلومون لأوجيان.
مظلومون؟ ماذا تعني؟
مجتهدون، فقراء ومفلسون.
كل منا يجتهدون.
لكن ليس الكل مفلسين، وهنا يعيش أولئك الذين يجتهدون لكنهم ما زالوا مفلسين. تقف أمامهم بنايات فخمة بُنيت بأعمالهم الشاقة، أما هم فيعيشون أنفسهم في مثل هذه البيوت المتهدمة الصغيرة الضيقة. سكان تلك المنازل مدمنون على كثرة الأكل وأما هم فلا يقدرون على ملء بطونهم حتى ليلة واحدة.
ظل المقنع صامتا.
ثم أخذ يقوده إلى باب بيت بين الشوارع.
أنظر!
أخذ ينظر المقنع من ثقب باب قديم.
هل رأيت؟
نعم.
ماذا رأيت؟
نظرت هنا يتأوه رجل ضعيف نحيف الجسم ورجل شاب مشغول بدلك جسمه. وأنظر !
إنه صاحبه إلى باب أخر.
كان سقف البيت متهدما وبابه كان فقط اسميا. كانت تنعس إمرأة ضعيفة على الخيش القديم جانبا من حطام المنزل المنهار وكان جسمها نحيلا جدا.
ذلك الرجل أعاده المقنع إلى قرب نفس المنزل السابق حيث كان هو يتمدد. ثم فتح الباب وأخذه إلى داخل البيت، كان في ساحته الفزع والرعب. كان هنا قفص لطفل على السرير المقصور ووجهه كان متلألأً بالتشوق.
هل تعرف من هو؟
سأله من المقنع.
ما زال المقنع صامتا. هذا هو إبني، وأخذ يقول إنه نور عيني التي أصبحت ظلمة. وهذه هى النعمة يدعو الناس لها مئة مرة يلجؤون إلى السحر ويقدمون العطايا والصدقات. تغمر قلوبهم سعادة عظيمة بعد حصولها، لكنني لم أستطع أن أسعد بعد حصوله وإضافة إلى ذلك، عندما توفي لم أحصل على الأرض حتى ياردين في محرقة الجثث. كان ينير المصباح على جانب رأس الطفل الميت وضوء المصباح يسقط على جثة طفل. كان حقاً منظرا مؤلما جداً، فملأ خناق المقنع وعيونه مبللة.
أنت تبكي؟ سأل الرجل.
تحزن وأنت غريب هنا، (أما أنا والده) فوالدٌ لكنني لا أبكي. وليس بسبب أنني لا أريد أن أبكي بل جفت الدموع في عيني. بعد أن أخذ نفساً عميقاً خرج معه إلى الشارع. قد طلع القمر ببانجامي وفي ضوءه الخافت كانا يشبهان مثل روحين مضطربتين.
وضع الرجل يده على كتفه قائلا: هل فهمت؟
ماذا؟ تفاجأ المقنع.
أين مكان للفوضى؟
الفوضى!
نعم، هذا هو مسكن الفوضى، مثل موجة الماء المجهولة التي تصبح نهرا عاصفيا شديدا بعد الإلتقاء. هنا ينشأ الفوضى رويداً رويداً في شكل غير مريء وثم يغمر البلاد مثل عاصفة شديدة. ما زالا قائمين صامتين لبرهة، لكن هذه البرهة كانت بمثابة قرن للرجل الملبوس، لا يُعلم كان نظراته تتجه إلى العاصفة من ذلك الزقاق، وفوق بيوت الزقاق وسكانها. ثم قال:
هنا يخلق الحزن وتنمو الفوضى، تذكر كان هناك شيخ في البيت الأول، وإنه مريض منذ ثلاثة أيام. لكن ليس لديه دواء، ابنه لم يتناول شئيا منذ يومين، وما وجد شئيا من الخبز. وبسبب مرض أبيه لم يستطع أن يخرج للعمل. وفي البيت الآخر تعيش تلك العجوز التي شاهدت أبناءها الصغار الثلاثة يموتون جميعا واحداً تلو الآخر. الآن إنها تقضي حياتها من الشحاذة.
والبيت الثالث هو لنفسي العاجز. ولا فرق بيني وبينهم. في هذه البيوت يعيش أولئك الذين يتحملون طغيان القدر. وهذا هو السبب الرئيسي لانتشار الفوضى. كما توفي إبني وأنا لست في أمان. وعندما يموت والد هذا الشاب، فسوف يخرج في البحث عن الطعام جائعا وفي هذه الحالة لا يعرف ماذا سيفعل؟
لماذا لا تذهب إلى المستشفيات الخيرية، والآن يقول مثل إنه وجد لسانه. قال هناك توزع الأدوية مجاناً على الفقراء والمحتاجين. يتوفر الطعام والأشياء من المأكولات لكل الفقراء في المطابخ الخيرية الملكية.
ويحصل العمال على العمل في المصانع الملكية. في حكم الملك ترى كل نوع من ترتيب وتنظيم وأنت الذي لا تنتفع به، فمن فيه الذنب؟
أين الأدوية في المستشفيات الملكية وأين الأطعمة الخيرية؟ قال الرجل، وكان أسلوبه يمتزج بالحزن والسخرية.
بعد رحيل الملك السابق يظلم الضباط ظلما شديدا حتى يقضى الفقراء حياتهم تحت الخناق والانتحاب.
لماذا ما ذهبت إلى الملك الجديد؟ عليك الذهاب إلى الملك الجديد.
قال المقنع، الملك الجديد...شاب ومغرور. ما زال ينظر ساكتا ذلك الشخص أمامه إلى الخلاء. تحرك المقنع قليلا لكنه ظل قائما في صمتٍ. فقال بنفس عميق، إن نذهب إليه لا يسمح لنا باللقاء معه، لأنه في الوقت الحاضر محاط بالوزراء، هم لا يريدون ملكا بل دمية متحركة.
ومازالا قائمين بصمت للحظة. قطعة صغيرة من السحاب تطير من مكان إلى آخر حتى حجبت القمر.
فجأة قال المقنع، أريد أن اسأل منك شيئا.
توجه الباحث عن السعادة إليه.
ما طبقتك؟ لا تشبه هذه الطبقات السفلى.
أنا؟ لست من أي طبقة، نحن فقط عمال فقراء. نحن سواء في عمل وطبقة.
رغم ذلك، أخبرني.
كنت برهمياً.
برهمي؟
تفاجأ المقنع.
لكنني، قال ضاحكا، الآن أنا عامل فقط.
برهمي وعامل!
بلى، برهمي وعامل، كنت برهميا عندما أقوم بعمل البراهمة، والآن أعمل كعمال وأصبحت عاملا. الأعمال هي التي تحدد طبقة الإنسان ولا الولادة، أخذ يحدق ساكتا في الخلاء مثل تكسّر أجنحة الماضي في تصاوير حياته الماضية/ السابقة. وأصبحت قطعة السحاب معلقة في السماء مرورا على القمر.
أخرج المقنع من جيبه حفنة من العملات الذهبية ووضعها على يد الرجل البرهمي وقال: أيها البرهمي !قم بحرق جثة طفله.
رفع البرهمي عينيه إليه إنه كان ماشياً ببطء.
قال الملك يمسح عيينه، لم أستطع أن أنام.
بدأت الخادمات تحرك المروحة اليدوية بسرعة.
ما الوقت الآن؟ سأل الملك.
أيها الملك! قد مضى الجزء الثالث من الليل. أجابت خادمة بسرعة تحرك المروحة اليدوية.
الحرارة شديدة جدا!
فتشدد تحريك المروحة
توقفن.
يا أيها الملك! هنا تمطر النار.
لا أبالي أنا.
توقفت الخادمات عن تحريك المراويح.
اضطجع الملك لكنه لم ينم. كانت هذه المرة الأولى التي يحاول فيها أن ينام بدون مروحة.
كان هذا هو التفكير الذي أخذه إلى زقاق الفقراء. غير جانبه ووقف.
أخافت الخادمات، قال لهن، اذهبن واستيقظن الوزير الأعظم وقلن له. قم بعقد المحكمة غدا. ستعقد مجلسة لانتخاب العالمين.
ذهبت الخادمة. ثم رقد الملك، وحاولت الخادمات تنفق المراويح مرة أخرى. لكن رفض الملك عنه. لم يستطع أن ينام تلك اليلة، كانت ما زالت عاصفة من الأفكار تهيج في قلبه وهو يستمر في تغيير جانبه.
* * *
عقد مجلس المحكمة، والملك فيكراما جيت جالس على عرشه الذهبي. وكان الصمت مخيماً في كل مكان. كلهم ينتظرون لحركة شفتيه.
سأل الملك، أين مسكن الفوضى؟
سكت جميع الحاضرين برهة.
حيث لا يتلقى العقلاء الاحترام والقيمة.
إنه كالي داس، شاعر شهير لأجيان. فأجلسه الملك قربه لكنه سأل مرة أخرى، ماذا بعد؟
حيث يُظلم على النساء.
حيث تسفك الدماء باسم الدين.
حيث ينزل القحط والجفاف على الأرض.
حيث الناس يفضلون الرماد.
حيث الملك ظالم.
حيث لا يحب بعض الناس أن يمسهم أحدٌ.
تم اختيار ثمانية علماء لكن لم يرضى الملك.
فسأل الملك: ما هو السبب الرئيسي للفوضى؟
الفقر، قال أحد من الحضور. حيث لا أحد يعبأ بالمفلسين، ولا يقدر المفلسون على ملء بطونهم، فهذا المكان هو الذي تنمو فيه الفوضى.
فتوجهت نظرات الجميع إليه.
فنزل الملك عن العرش.
فتقدم هذا الشخص، وكانت حالته سئية للغاية، وثوبه قديما وممزقا، رأسه وقدمه عاريان. لا يزال البريق في عيونه المغرقة بحيث يرعب المشاهدين.
مس الملك قدمه وقال: أقدم التحيات إلى الباحث عن السعادة.
اسعد! أنت الباحث عن السلام. فابتسم القادم الجديد.
فتم انتخاب تسعة لؤلؤة من العلماء. عين البرهمي على مساعدة المضطربين.
[1] باحثة الدكتوراه، مركز الدراسات العرابية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند
[2] أوبيندرا ناث شرما أشك (1910-1996م)، روائي، قاص ومسرحي شهير بلغة الـ "هندي" Hindi، والأردو، ولد أشك في مدينة جالندهار بولاية بنجاب، ولكنه استقر في مدينة الله آباد في عام 1940، بدأ مشواره الإبداعي بكتابة الرواية بالأردو، ثم تحول إلى الكتابة بالهندي على مشورة عملاق الرواية الهندية بريم تشاند، له عدد من الروايات منها، ستارون كيه كهيل (لعبة النجوم)، غِرتي ديوارين (الجدارن المتهدمة)، غرم راخ (الرماد الحار)، بدي بدي آنكهين (العيون الكبيرة)، وشهر مين غهومتا آئينه (المرآة المتجولة في المدينة) وله أيضا مجموعات قصصية، وعدد كبير من المسرحيات، ومجموعتا الشعر، حاز جائزة سانغيت ناتك أكادمي في عام 1965 على مساهمته في المسرحية وبذلك كان أول كاتب مسرحي بلغة الهندي فاز بجائزة مجمع المسرح الهندي.