بدا الشارع شبه خال من السيارات بسبب حظر التجوال، في منطقة آر كيه بورام جنوب دلهي، حين عبرت سيارة بسرعة ثمانين كيلومتراً في الساعة من شارع ويويكاناندا، الواقع في هذه المدينة الهادئة بسبب الحجر الصحي الكلي المفروض من قبل الحكومة، وذلك في شهر يوليو من العام ألفين وعشرين، قائد السيارة هو أستاذ جامعي شاب الدكتور "ويويك كومار"، يدرّس علم الاقتصاد في إحدى جامعات دلهي الشهيرة، والذي كان على عجل من أمره، ينحدر ويويك من مدينة ميرت في غرب ولاية أوترا براديش، من أسرة ثرية، لأب من رجال الأعمال الناجحين.
فجأة، استوقفته الإشارة الحمراء، عند تقاطع الطريق الكائن أمام سوق آركيه بورام بالقطاع الأول، في هذا الشارع بالذات يكون فيه الضوء الأحمر مستمرا لمدة ثمانين ثانية، وبينما هذا الأستاذ الجامعي الشاب غارق في أفكاره، ويستمع إلى أغاني كيشور كومار من مذياع التشغيل السمعي للسيارة، إذ لاحظ طفلا وسخاً يبلغ حوالي عشر سنوات، يطرق زجاج نافذته اليمنى يطلب منه الصدقة من النقود أو الأكل ويقول: سيدي لم آكل منذ يومٍ، أعطني نقودا لأتناول الطعام، ورأى عددا من الصبيان والفتيات وحتى المسنات والمخصيات يتسولن هناك، بطرق زجاجات السيارات التي تتوقف عند التقاطع.
لقد بدت أمارات الجوع جلية على وجوه هؤلاء المتسولين البؤساء، وفحص ويويك محفظته ليعطيهم بعض النقود، للأسف، لم يجد في جيبه إلا بعض أوراق النقود من فئتَي خمس مائة وألفَي روبية، وبينما هو في حيص بيص من أمره، لاحت الإشارة الخضراء، فغير ترس السيارة من N إلى الأمامي 1، وكاد أن يُحرك السيارة فإذا به يرى الطفل يسرع إلى أمام السيارة، واستلقى أمامها وقال بصوت سمعه كل الحاضرين :"سيدي أطعمني أو أدهسني بسيارتك، لا أستطيع أن أتحمل مزيدا من الجوع"، هنا تملّك ويويك غضبٌ شديدُ، وأبواق السيارات المتعالية أصواتها من ورائه تزيد من حنقه وارتباكه، والطفل هو الآخر باق على حاله، لا يتحرك من مكانه، ونزل ويويك من سيارته غاضباً وأمسكه بقوة ودفعه جانباً وصاح عليه عالياً، دون أن يعبأ ببكاء الطفل من شدة جوعه، وعاد إلى المقود، ومضى بأقصى سرعته في هذا الشارع شبه الخالي من المركبات.
الحقيقة أن الدكتور ويويك كومار، محاضر ألمعي في علم الاقتصاد في أشهر جامعة هندية في نيو دلهي، تربّى في أحضان الترف والنعيم في مدينة "ميرت" القريبة من نيو دلهي، ثم انتقل إلى نيو دلهي ليكمل شهادة الماجستير ثم الدكتوراه في نفس الجامعة، بعدها عين محاضرا في القسم وأصبح واحداًً من الأساتذة الشباب اللامعين، ومقبولا جدا بين الطلبة والطالبات، وكان معتادا على حياة البذخ والترف، بحكم نشأته في ظل الترف والنعيم، ولكونه مازال أعزب يعيش مع زميل له في حرم الجامعة، هو الأخر غير متزوج.
بعد ساعتين من حادثة الطفل المتسول، عاد ويويك إلى منزله، فوجد صديقه د. ماهيندار يلقي محاضرة عبر الانترنت، في ندوة افتراضية عن معاناة وشقاء أطفال الشوارع في دلهي، زمن الإغلاق الكبير هذا بسبب عدم توافر ما يسد رمقهم، وهذا في الوقت الذي هاجر العمال من نيو دلهي وأوترا براديش إلى بيهار وأماكن أخرى، التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة في الهند وخارجها.
كان الدكتور ماهيندار يشتغل على إعداد تقرير لما يواجهه أطفال الشوارع في دلهي من مشكلات خطيرة، زمن الحجر الصحي العام، فكان على دراية بها، ويعرض ما عنده من إحصائيات على شكل "باور بوائنت". الأرقام مفزعة، وشد الدكتور ويويك ما ذكره زميله من هول المصائب والمشكلات، التي تواجه أطفال الشوارع في نيو دلهي، في زمن الوباء والإغلاق، وقد بلغ عددهم حسب إحصائيات حكومة دلهي، سبعين ألف طفل مشرد يقتات معظمهم بالتسول على الطرقات والإشارات الحمراء.
ليس الأمر أن الدكتور لم يكن على دراية بهذه الحقائق، وكيف لا، وهو خبير بعلم الاقتصاد، وأستاذ ألمعي له، ولكنه ربما لم يعر ذلك اهتماما كافيا، فقد كان مجال تخصصه الأكاديمي هو دور الاستثمارات الأجنبية المباشرة، في خلق فرص العمل وجلب الرخاء الاقتصادي، ورغم أنه كان اسما على مسمى، فـاسم "ويويك" باللغة السنسكريتية يعني "الضمير"، كان حقا صاحب ضمير، كان يساعد الفقراء من الطلبة والطالبات أحيانا من ماله الخاص، بالرغم من أنه لم يتخل عن نمط حياته المرفهة، التي حظي بها منذ نعومة أظفاره، ولم ير عيبا في شراء ملابسه وحاجاته من الماركات الفاخرة، فهذا من ماله الحلال، وله الحق في صرف أمواله كيفما شاء، على عكس صديقه ماهيندار الذي رأى أن من واجب الأثرياء وميسوري الحال كفالة المعوزين قدر الإمكان، وخصوصاً زمن الوباء ونقص التموينات الغذائية لدى الفقراء والمعوزين، وإذا سمعوا نداء ضميرهم فلن يوجد هناك فقير، ولن يبق من يموت جوعاً.
استمع ويويك إلى محاضرة زميله بعناية جالسا بقربه، وبدأت حادثة اليوم تتردد على شاشة ذهنه، وأحس بوخز شديد في قلبه، كان ذلك ضميره الذي بدأ يؤنبه، وأحس أنه اسم على غير مسمى، واستحضر وجه الطفل المستلقي أمام سيارته، يا إلهي!!! هل هو إنسانُ، وأي نوع من الناس هو، طفل وسيم، لا يدري اسمه، ثيابه متسخة، بجسم هزيل منهك من شدة الجوع، كيف غضب منه، وصاح عليه، ودفعه بقوة؟، ولماذا كان يبحث عن الصرف ليعطيه إياه، ولِمَ لم يعطه ورقة نقدية من فئة خمس مائة أو ألفين...عندها ...سال فيض من الدموع من عينيه...وبهت المحاضر ماهنيدار وأوقف محاضرته، لما رأى صديقه يبكي، فلم ير صديقه يبكي من قبل.
على تمهل حكى ويويك القصة بكاملها، وماذا يحس به الآن من تأنيب شديد لضميره...ماذا لو فعل الطفل نفس الشيء مع شخص آخر، ودهسته السيارة...ألا يكون هو المسؤول؟ فالجوع يجعلك ترتكب إثما ويجعلك تقتل نفسك وتقتل غيرك، وللجوع قصص مروعة، سمعها وقرأها هو الآخر زمن الوباء.
أضاف ماهيندار: "العائد إلى البيت مساءا بعد أن نسي بيته لا يطلق عليه ناسي"، هذا ما يقول المثل الهندي، أنا سعيد جدا صديقي على هذا التحول الكبير في نفسك، وإن شاء الله سوف ننفذ مشروعاً لإنقاذ أطفال الشوارع، أبشر يا صديقي!
في هذه الأثناء، تملكت ويويك حالة جنونية، وأخذ كل ما عنده من النقود وقاد سيارته بأقصى سرعتها إلى حيث وقع الحادث، عله يجد الطفل في مكانه، فيحتضنه، ويطعمه أشهى الأطعمة، ويعطيه كل ما عنده من نقود، وأحس بسعادة غامرة تفوق كل سعادة، يا إلهي! ما هذه السعادة، سعادة لم يذق حلاوة مثلها من قبل، وتمنى ويويك أن يطير إلى ذلك التقاطع، وبالفعل وصل إليه في ربع ساعة، ولكن لم ير الطفل هناك بين الأطفال الآخرين، فخفق قلبه، وتوجه إلى تقاطع آخر، فلاح له عن بعد جمع من الناس يلتفون حول شيء، وما إن وصل وأوقف السيارة ليرى ماذا حدث، خفق قلبه بشدة لما رأى ذلك الطفل ملطخاً بالدم...وقال أحدهم: لعن الله هؤلاء الأثرياء مالكي السيارات الكبيرة.... دهسته سيارة وأنهت جوعه للأبد.
في اليوم التالي، نشر خبر في الصفحة الأولى لمعظم الجرائد اليومية في نيو دلهي: وجدت جثة المحاضر الألمعي في علم الاقتصاد الدكتور ويويك كومار معلقة على المروحية في غرفته، وقد ترك رسالة خطية ذكر فيها أنه مسؤول عن موت الطفل الذي دهسته السيارة البارحة...وضميره لا يسمح له بأن يبقى حيا في معشر الذئاب، حيث مئات الألوف يموتون جوعاً وحفنة من الناس تزداد ثراء فاحشاً، حتى في زمن الوباء والإغلاق الكبير!
ماشاءالله،مقال جميل، يعرض البؤس والفقر المتواجد في الهند، وهذا ايضا يثير الانسان لا قلما يهتم بازالة الفقر ومحوه في الهند ويحرض الناس جمعاء بان السعادة الحقيقة يمكن حصولها باقل انفاق المال علي ذوي الحاجة كما حصل كما حصل ويويك، والله جمل سلسةوفكرة نيرة وكلام يمس القلب، واطال الله يا استاذي الغالي
تصوير جميل للواقع ومعاناة كثير من الفقراء والبائسين الذين يعيشون في الشوارع... إبداع من أجل خدمة المجتمع. زادكم الله بسطة في العلم وقوة في القلم