دعوة المظلومة
الكاتب: بريم تشاند[1]
ترجمة وتلخيص:
د. قمر شعبان[2]
خرج المنشئ رام سيواك من منزله مُتَجَهّماً وقال: "الموت أفضل من مثل هذه الحياة".
الدهر كله يشكو تطاول الموت على الإنسان، ولم يكن في مقدوره وإلا لكان قضى على الموت.
كان المنشئ رام سيواك من السادة البارزين في منطقة تشاندفور، يتسم بجميع سمات السيادة متمتعا بجميع وسائل الرفاهية التي توراثها كابرا عن كابر من آبائه. كان يجلس كل يوم على سرير متكسِّر في حرم المحكمة تحت شجرة النيم، فاتحا حقيبة الأوراق والمستندات، لم يره أحد قط يرافع في قضية شخص ويدافع عنه في المحكمة، ولكنه كان معروفا بــ"مختار صاحب"، لايغادر سريره مهما كان الطقس، هبت عاصفة أم أمطرت السماء مطرا، أم سقط الثلج. عندما يخرج إلى المحكمة يتجمهر حوله ركب عظيم، يمطرون عليه شآبيب المودة والتقدير والإجلال، وكان معروفا فيما بينهم بسحر لسانه مثل "السرَسوَتي" (إله الهندوس).
كانت محامية المنشئ مهنة إما وراثية أم فخرية لاتجلب له الدخل حتى فلوس رديئة فضلا عن فلوس فضية.
ومعرفة المنشئ بالقانون لا بأس بها، ولكن السجن المشؤوم بجوار داره هو الذي أجبره على ممارسة المحاماة، أما معاشه فكان معتمدا على مواءمة الأرامل الغنيات والشيوخ البسطاء المترفهين إياه. كانت الأرامل يستودعن عنده الأمانات، وكان الشيوخ يدّخرون رؤوس أموالهم لديه احتفاظا بها من أولادهم الفاشلين. وإذا صارت الأموال لدى رام سيواك قلّما يمكن استرجاعها منه، أحيانا كان يستقرض لحوائجه، يستقرض صباحا بوعد تسديده مساء، ولكن لن يأتي ذلك المساء أبد الآبدين. وبالجملة، لم يكن المنشئ رام سيواك صادق الوعد والأمين، وذاك ديدنه الذي توارثه من آبائه.
ولطالما تتدخل هذه المعاملات في استراحة المنشئ، ولايخاف فيها القانون والمحكمة، ومن ذا الذي عارضه في هذه الأمور فهو عدو له. ولكنه يتألم جدا عندما يسيء الظن إليه الأشرار، ويشكّون في نيته، وينالون منه على رؤوس الأشهاد. وكان أكثر ما يواجه هذه المشاكل، حتى أخذ صغار الناس أيضا يشتمونه، واجترأت امرأة بقالة على أن تسيء إليه في عقر داره. كان المنشئ زبونها منذ عهد قديم، وابتاع منها الخضراوات منذ سنين، ولم يدفع الثمن، كان عليها أن تتصبر رجاء تسلمه عاجلا أم آجلا، ولكن المبتذئة هذه انزعجت في سنتين ولا غير، وأساءت إلى رجل محترم.
كانت، ثمة، أرملة من طبقة البرهمن تدعى مونغا، كان زوجها شرطيا فمات قتيلا في بورما، فكرَّمتها الحكومة بخمس مئة روبية نظير خدمات زوجها. وكان العصر عصرا غير آمن، فاستودعت الأرملة هذه النقود المالية عند المنشئ رام سيواك، وجعلت تسحب منه ما تقتات به شهريا، وأدّى رام سيواك من هذه الأمانة على مدار سنين، ولكن مونغا لم تكد تموت رغم كبر سنها، فذات يوم قال لها المنشئ رام: "ألا تموتين يا مونغا؟ صارحيني! لكي أفكر في أن أموت!"
فهبّت مونغا يومئذ من سباتها، وقالت: أين حسابي؟ فحاسب المنشئ رام، ولم يتبق من مستودعها حبة خردل. فأمسكت الأرملة يده بكل ما عند العجوز من قوة، قائلة: لقد خنت في أماناتي مئة روبية، وسوف أتسلمها.
ولكن غضب المساكين صدى في الصحراء!!
لم تكن تتمتع بنفوذ في المحكمة، ولا مكاتبة، ولا حساب، فكيف يكون لها الرجاء في مجلس القرية؟! اجتمع سادة القرية، وكان المنشئ رام سيواك حسن المعاملة معهم، فلايخاف أعضاء مجلس القرية في شيء، فوقف في المجلس مخاطبا إياهم:
"أيها الإخوة! أنتم السادة والأمناء، ولستُ أنا إلا عبدكم وربيبكم، وأنا مقر بكل ما لكم على من العطاء والكرم، والوداد، هل تظنون أني نهبت شيئا من مستودعات أرملة؟! فرد أهل المجلس جميعا بصوت واحد: لا وكلا! لايمكن ذلك!، وإن ظن كرام أمثالكم أنني نهبت الأموال، فهلاكي محتوم، لست صاحب ثروة، ولا أدَّعي الكرم، ولكنني بفضل قلمي، وبفضل كرمكم لست مفتقرا إلى أحد. فكيف لي أن أكون لئيما وأنهب من أموال امرأة مسكينة وبائسة.
فرد أهل المجلس من جديد بصوت واحد:
لا وكلا، لايمكن ذلك"!
فبرَّأه أهل المجلس، وانتهى المجلس، ولم يكن لمونغا الأرملة المسكينة إلا الصبر، وجزاء الصبر يوم القيامة......
وكذلك لم يكن لها من يؤنسها ويتألم لها وينجدها، فعانت من كل ما يعاني الإنسان من أجل الفقر والبؤس، كانت قوية، تقدر على كسب الحلال بعرق جبينها، ولكنها أقسمت أن تجهد نفسها ليل نهار للحصول على الروبيات المنهوبة، لقد شمرت عن ساق الجد، ولم يكن لها في حلها وترحالها إلا فكرة واحدة، وهي إساءة الظن بالمنشئ رام، جعلت تجلس على مصراعي باب كوخها، وتدعو على منشئ رام سيواك، وتشتمه، وتنال منه، وتستخدم له كل المحسنات اللفظية والبديعية التي يُبهت بها السامع، حتى بدأت يجن جنونها رويدا رويدا، تخرج إلى الأماكن الخربة عارية سافرة وفي يدها الفأس، تتسكع هنا وهناك في المحارق على ضفاف النهر وفي الطلال غبراء شعثاء، محمرّة العينين، متوحشة المحيا، ذابلة الأيادي والأرجل، يهاب منظرها من رآها، ولايمازحها أحد. كلما طافت في أزقة القرية أغلقت عليها النساء أبوابهن، وأما الرجال فكانوا يمرون بها مرور الكرام، ويهرب منها الأطفال، وكان، ثمة، غلام جريء فقط يتعرض لها ولايهرب منها، وليس هو إلا ابن المنشئ رام سيواك، يدعى رام غلام، الذي كان بمثابة تكملة لمافات أباه من العيوب والمناقص، يتضايق منه الأولاد ويتأذون، ويتجهمه الرجال العور والعرُج من سكان القرية، ولايلاقيه أحد إلا بالشتم والعار، يتعقب المسكينة مونغا مصفقا مع الكلاب النابحات مادامت لم تغادر المكان.
لُقِّبت مونغا بـ “المجنونة"، وبعدما فقدت المال والعقل أصبحت مجنونة حقا، تكالم نفسها الساعات، وتبدي رغبتها في مضغ لحوم رام سيواك وعظامه ودمائه وعينيه، وكبده. وعندما تهيج هذه الرغبة وتثور تتجه إلى منزله، وتصرخ: "سوف أمتص دماءك".
ولطالما تذعر من هذا الصوت الرهيب النساء، ولكن قهقهتها الجاهرة كانت أشد هلعا من صوتها. تقهقه بصوت جهوري مبتهجةً بفكرة شرب الدماء الكاذبة الخيالية لمنشئ رام سيواك، وذلك ما يحدث ضجة شيطانية سافكة، وضراوةً تتبرد منها دماء الناس في الليالي. كان يبدو أن مآت الخفافيش تتضاحك معاً.
كان المنشئ رام سيواك رجلا جريئا وقويا لايبالي بالقضايا المدنية والجنائية، ولكنه رغم جراءته هو أيضا يرتعب من هذه الهتافات المخيفة لمونغا المسكينة، اللهم نعم! لطالما لايخاف الإنسان العدالة والمحكمة، ولكنه مطبوع بخوف العدالة الإلهية، وأحيانا يفاجأ الإنسان بتغلب هذا الخوف الدفين في أعماق الحس والشعور، كانت هذه الهتافات الليلية المرهبة لمونغا بمثابة هذه المفاجآت على المنشئ رام سيواك. وكانت أشد من ذلك على زوجته التي كانت لاتوافق على جميع أمور المرأة فحسب، بل لها مشاركات قوية في المناظرات النسوية، ولخطبه شهرة شعبية في الأوساط النسوية، كما لها دور في حل المشاكل.
أخذ المنشئ رام سيواك في منتصف الليل جرعات من الخمر، واستغرق في النوم كعادته كل ليلة.
إذ طرأت مونغا بصيحة عند بابه:
"سوف أمتص دماءك".
وتقهقهت بكل ما لديها من قوة.
اندهش المنشئ من هذه الصيحة المرعبة، وبدأت ترتعد منها الأرجل، ويخفق القلب، فتح الباب على الرغم من أنفه، وأيقظ زوجته.
زوجته (غاضبة):
مابك؟ ماذا تريد؟
المنشئ بصوت خافت:
"هي ماثلة على الباب".
قعدت زوجته وقالت:
"آه، هل وصلت إلى أبوابنا"
نعم، هلا سمعت صوتها"؟
لم تكن زوجته تخاف مونغا، ولكنها تتفزع من توحشها، وتؤمن بأن تصارعها في المناظرة، نطقت على حذر:
"هل أكالمها قليلا؟
ولكن المنشئ نهاها عن ذلك.
أشرف عليها كلاهما من الشرفة، كانت مونغا ساقطة على الأرض، تتنفس بسرعة، ولم يكن جسمها إلا هيكلا عظميا، إن دفعه طفل صغير يسقط على الأرض، ولكن سكان القرية على بكرة أبيهم يخافونها.
"لايخافون الأحياء، يخافون الموتى".
رغم أن الباب كان مغلقا من الداخل، قضى كلاهما الليلة ساهرين، لاتقدر مونغا على دخول المنزل، ولكن صيحتها تطير النوم، صوتها أرعب من شبحها.
خرج المنشئ صباحا وسأل:
"لماذا أنت هنا"؟
مونغا:
"سوف أمتص دماءك"
فنطقت زوجته متمايلةً:
"سوف أسلخ وجهك بالنار".
ولكن سمومها لم تؤثر شيئا في مونغا، بل تقهقهت جاهرة، فانفعلت زوجته، فإن القهقهة تسكت اللسان.
نطق المنشئ ثانية:
"اذهبي من هنا"
"لن أذهب"
"إلى متى سوف لاتغادرين؟"
"سأمتص دماءك ثم أغادر".
بلغت سكانَ القرية أن مونغا أضربت عن العمل وجلست على باب منزل المنشئ رام سيواك، وكان أهل القرية تستهويهم إهانة المنشئ، فتجمع مئات السكان، وكانوا يتجمعون هناك بين الفينة وأخرى بحماسة ونشاط، ولكن تجمعهم اليوم تجمع جادٌّ وصامت. ولايُعجب رام غلام بهذه الجدية، كان يزعل على مونغا، ويفكر أن يلقيها في الجب إذا استطاع ذلك بحيلة من الحيل، كانت لرام سيواك بقرةٌ ضخمة من أجود الأنواع، ملأ رام غلام بروثها قدرا كبيرا وحلله بالماء تحليلا، ثم ألقاها على مونغا والموجودين الآخرين، لُطخت منه المسكينة مونغا، كما قذرت منه ملابس المآت من الموجودين، هرب الناس، هذا باب منزل المنشئ رام سيواك، وهكذا يقرى الضيوف هنا، فلنهرب من هنا وإلا سوف نقع في ورطة أخرى.
خلوا الباب، فدخل رام غلام المنزل، وضحك كثيرا، وصفق، وهنأه أبوه على هذا التدبير الجميل في إخلاء الحشد الكبير، فروا جميعا، ولكن مونغا المسكينة لم تغادر المكان، وعند الظهيرة أيضا لا أكلت شيئا ولاشربت، حتى غربت الشمس ولم تأكل شيئا، فتضرع إليها رئيس القرية أن تأكل شيئا، واعتذر إليها المنشئ رام سيواك، ولكنها لم تكن راضية، ونهائيا دخل المنشئ منزله، وأمضت مونغا هذه الليلة أيضا دون أكل وشرب، وبات المنشئ وزوجته الليلة ساهرين.
لم تكن قهقهة مونغا هذه الليلة جاهرة، فظنوا أنها غادرت المكان، ونجوا منها، ولكنهم عندما أصبحوا فإذا هي جثة هامدة لاحراك فيها، تطن فوقها الذباب، وماتت المسكينة، كان ورودها إلى هذا الباب لتفدي نفسها، لقد سلَّمت نفسها إلى من كان نهب رأس مالها، وتفادت له بروحها.
كان المنشئ رام سيواك رجلا قانونيا، وإنه لم يرتكب جريمة وفق القانون، ولم يكن موت مونغا تحت مادة قانونية، كما لا يوجد له نظير في القانون الجزائي الهندي، فكل من أراد معاقبة المنشئ رام سيواك، ومقاطعته كان على خطأ كبير، فإنه لايبالي بأن لايأتي له السقَّاء بالماء، وهو يقدر على ذلك، ولا بأس بأن لا يقص شعره الحلاق، ولا داعي لقص اللحى فإنها أجمل شيء، وهي التي تزيد الرجل بهاء وجمالا، ولايبالي بأن لايغسل الغسال ملابسه، فالصابون يباع بثمن بخس دراهم معدودة، وهكذا أمضى المنشئ وزوجته النهار كله مسليا بعضه البعض.
ولكن عندما أفلت الشمس غلب عليها نوع من الرهبة، وبدأ هذا الشعور المفزع يتفاقم مع حلكة الليل، حتى لم يتسن لزوجته أن تدخل المطبخ بمفردها لتحضير العشاء، لقد تسربت مونغا وشبحها إلى أمخاخهما، فخيل لهما بمجرد ظلالهما أنها هي المسكينة مونغا التي سبق أن ماتت. لعلها جالسة في ظلمات الزوايا، يتراءى لهما الهيكل العظامي، والشعر الأشعث، والتوحش، والعيون المهيبة، والهلع، كأن مونغا هي الواقفة أمامهم في كل مكان، وبعدما تعشوا ذهب كل من الثلاثة إلى غرفة النوم، ولكن مونغا مازالت تتعقبهم كطيف ملم، فطفقوا يتكلمون مع بعضهم البعض ويسلون، حكى زوجته قصة الملك هردول والملكة سارندها، وسرد المنشئ تفاصيل بعض القضايا، ورغم ذلك كله لم يغب عن مخيلهم شبح مونغا وطيفها، إذا تحرك الباب يندهشون، وإذا تحركت أوراق الشجرة تقشعر منه جلودهم، وكان هناك صوت خفيف ومرعب، لاندري من أين يأتي، من على السماء أو من تحت الأرض:
"سوف أمتص دماءك".
تيقظت زوجته في منتصف الليل وكانت حبلى، فخيل لها أن مونغا صاحبة العيون المحمرّة، والأسنان الحادّة المخيفة جالسة على صدرها، فأطلقت صيحة، وهرعت إلى فناء الدار مندهشة مبهوتة، وسقطت على الأرض، وجسمها غارق في العرق، لقد سمع المنشئ صيحتها، ولكن الفزع لم يتركه أن يفتح العينين، فتخبط في البحث عن الباب خبط عشواء، ولم يجده إلا بعد مدة طويلة، وأتى الصحن حيث زوجته ساقطة على الأرض، حملها إلى الداخل، ولكنها لم تفتح عينيها طوال الليل، وأصيبت في الصباح بالحمى الشديدة، واحمرّ جسمها احمرارا، ولم تبرأ من الحمى المزمنة، وعندما ساد في الأجواء صمت رهيب، وظلام حالك في منتصف الليل استأثر الرب روح زوجته أيضا.
مضى الليل، وطلعت الشمس، وأضحى النهار، حتى أتى الظهر، ولكن لم يأت من يحضر جنازتها، لقد نادى المنشئ واستنجد، وطرق بابا بابا، ولكن لاشخص لبى نداءه ولا أجاب، فمن يأتي دار القاتل؟ ومن يحمل جنازة القاتلة؟ لقد ذهبت هيبة المنشئ رام سيواك، وصولة قلمه السفاك سدًى من دون نجوى، عاد المنشئ إلى داره خائبا منهزما، لايستطيع أن يدخل داره ولايستطيع أن يبقى خارجا، فإن جثة مونغا على مصراعي الباب، وجثة زوجته في الداخل، دخل المنزل رغم أنفه قارئا أوراد هانومان تشاليسا (الأوراد الهندوسية)، ومن يدري ما نزل به من النوازل والكوارث، جنازتان في البيت، ولا يوجد من يسانده ويساعده.
وفي اليوم التالي حمل الجنازة على العجلة، وخرج إلى نهر الغانج، لم يكن من مقدمي التعازي إلا العدد المعدود، واحد هو المنشئ نفسه، والآخر ابنه رام غلام، ولكن المسكينة مونغا ظلت تتعقبه بعدما ماتت زوجته أيضا، كأن شبحها مستحوذ على مخه طول الليل والنهار، ولم يكن له من يسليه، لقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت.
على هذا المنوال مضت عشرة أيام أو اثنا عشر يوما في ضيق، وفي اليوم الرابع عشر غيَّر الملابس، وأخذ الحقيبة، واتجه نحو المحكمة، كان وجهه اليوم نوعا ما مشرقا، سوف يرحب بي اليوم زبائني، ويقدمون إليّ التعازي، وسوف أسيل قطرات من الدموع، ثم يكون هناك مجموعة هائلة من وثائق البيع، وعقود الرهن، واتفاقيات الهدنة، يسر خاطره بهذه المشاعر، ثم سوف تمطر علي الإكرامات والهدايا، وسوف نرى قريبا صورة النقود المالية، ونمرح الليلة بسكر الخمر، لقد كانت نفسي متوجعة على حرمانها، وعلى هذه المشاعر الممتعة وصل المنشئ إلى المحكمة.
ولكن استقبله هناك صحراء موحشة من الأسى بدل الوثائق والعقود والاتفاقيات المتراكمة، وتراحيب الزبائن والزوار، فتح الحقيبة وجلس ينتظر ساعات وساعات، ولكن ليس بجواره داع ولا مجيب!! حتى لم يسأله أحد: كيف حالك؟ يفر منه الزبائن الجدد فضلا عن الزبائن القدامى الذين لهم صلات قوية به أبا عن جد منذ عهد قديم. ورمضان خان هذا الرجل الفاشل الأحمق الذي كان لايستطيع القراءة والكتابة، والمنشئ كان يزدريه ويستهزئ به كل يوم، ولكن بين يديه اليوم جمهرة عظيمة من الزبائن، يا له من نصيب! لقد أعرضوا اليوم عن المنشئ رام سيواك بطريقة كأنه لم يكن له عهد بهم.
لقد قضى نهاره كله منتظرا الزبائن، ثم عاد مساء إلى المنزل منهك البال، يسوده اليأس والملل، وبقدرما اقترب من داره جعلت تزعجه دهشة مونغا وطيفها الرهيب، ولما فتح الباب إذا به كلبان تداعا عليه، حبسهما ابنه رام غلام، ففقد رشده، وسقط مغشيا على الأرض. لايتأثر قلب الرجل وعقله بشيء بقدر ما يتأثران بالخوف. الغرام، والأسى، واليأس، والفراق، والخسارة، كل ذلك يؤثر أثراً ما في الإنسان، ولكن هذا الأثر موجة خفيفة، وأما أثر الخوف فهو عاصفة هوجاء. من يدري؟ ماذا طرأ على المنشئ فيما بعد؟؟ لقد رآه الناس أياما يرتاد إلى المحكمة بائسا وتاعسا. كلن عليه أن يذهب إلى المحكمة رغم قحط الزبائن.
ثم غاب عن أعين الناس شهورا، لعله حجَّ إلى بادري ناث.
وذات يوم، زار القرية راهب أغبر أشعث، وفي يديه كُنَّاشة، تشبه صورته بصورة المنشئ رام سيواك، ولا فرق في الصوت والمشية، ظل جالسا تحت شجرة متبخرا بالبخور، وفي الليلة ذاتها، ارتفع دخان في منزل المنشئ رام، ثم اشتعلت النار، واندلع الحريق، وهذا هو المنزل الذي كانت تشتعل فيه نيران خطب زوجته في يوم من الأيام. أسرع إليه سكان القرية، لا لإطفاء النار، بل للتمتع بهذا المنظر، يا له من تأثيرٍ لدعوة المظلومة!!
ذهب ابنه رام غلام إلى بيت خاله، ومكث هناك أياما..، ولكن كره الناس عادته، سرق يوما حبوب الحمص من حقل الآخرين، فلطمه العقاري لطمات غير رفيقة، ثار بها غضبه، وأحرق أكوام الحمص كله، فصارت رمادا، كانت هذه خسارة فادحة لآلاف الروبيات، فتش الشرطي القضية، وتم القبض على المجرم، فأقر بالجريمة، ويوجد الآن في المدرسة الإصلاحية بمنطقة تُشُنار.
****
[1] بريم تشاند (1880-1936) عملاق الأدب الأردي والهندي ومن أساطينه ورواده، اسمه الحقيقي هو "دهانابات راي سريواستوا"، ولكنه بدأ الكتابة تحت الاسم المستعار "نواب راي" ثم اختار اسم "بريم تشاند" وبه اشتهر، وملأ الساحة الأدبية في الهند برواياته وقصصه البارعة التي صورت المجتمع الريفي الهندي تصويرا دقيقا وبارعا وهو يعد من أوائل الكتاب الهنود الذين كتبوا عن التراتبية الطبقية ومحن النساء والعمال والفلاحين في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويعد أشهر وأبرز كاتب في شبه القارة الهندية في اللغتين الأردية والهندية وهما لغة أغلبية الهنود. ويعرف بلقب "إمبراطور بين الروائيين"، تشمل أعماله اثنتي عشرة رواية و300 قصة قصيرة وعدد من المقالات وترجمات للأعمال الأجنبية إلى الهندية، ومن أشهر أعماله رواية "غودان"، و"ارام بهومي" وغبن"، و"عيد غاه"، و"مانسرور" و"سوز وطن". وتجري مقارنته مع كبار الأدب العالمي مثل تشيخوف، وتولستوي، وتشالز ديكنز ونجيب محفوظ..
[2] أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية في جامعة بنارس الهندوسية، ولاية اترابراديش، الهند، وكاتب وصاحب مؤلفات عديدة.