"بابا، بابا"
كأن طفلة همست في أذني بهذا الصوت، يا لروعة هذا الصوت، إنه صوت فاق أروع الموسيقى رقة وعذوبة، صوت دغدغ سمعي بلطفه ونقاءه، صوت تردد صداه في ذهني منذ سنوات، صوت لطالما اشتاق له قلبي وحنت إليه روحي.
هبت بداخلي نفحات السعادة عندما علمت من الفحص الطبي أن زوجتي حملت بطفلة، الفرحة أذهبت النوم من عيني تلك الليلة، عندما نامت سلمى تسللتُ من الغرفة، وصعدت إلى سطح بيتي وافترشت السجادة والوسائد وتمددت على ظهري، ثم بدأت أمعن النظر في صفحة السماء التي كانت تفاخر الأرض بصفاء أديمها وضياء كوكبها، في عتمة الليل سكب القمر أشعته الخاطفة في قريحتي ليطلق العنان لخيالي، فحلقت بالفضاء الرحبة وذهبت بي مخيلتي إلى أحلى الخواطر، فهمست في نفسي:
"سأسميها بشري تيمناً بقدومها كطليعة للسعادة والبركة، وسينجلي بها كل همي، يا له من اسم جميل، بشري طفلتي السعيدة ستبشرنا بطلوع شمس السعادة والبركة على أهلنا. بشرى، سلمى، اسمان منسجمان، أليس كذلك؟ آه سلمى! كم أحبها، أنا أسعد الناس بها، حقق الله لي بفضلها أغلى أمنيتي، كنت أحلم أن تكون باكورة أولادي بنتاً، وها هي بوادر هذه البشارة تزيد من حبي واحترامي لسلمى بأضعاف، لن أتمكن من تسديد دينها، حتى لو ضحيت لها بنفسي."
كنت غارقا في خيالي إذ أحسست بتربيت لطيف على كتفي ما جعلني أهبط على جسدي من سماء خيالي عنوةً، وتنبهت فإذا هي سلمي جالسة بجانبي. قالت سلمى بصوت ملئه الحب وبعض اللوم:
"تركتني بمفردي لتسامر النجوم والكواكب ههنا، هل أنت قلق بشأن الطفلة في رحمي، لا داعي للقلق حبيبي، كل طفل، ذكرا كان أو أنثى، يأتي في هذا العالم ورزقة معه، أنا آسفة جدا إنها أنثى، ولكن ذلك ما قدر الله، فلنرض بقضاء الله."
ارتعدت فرائصي وغمرتني الحيرة عندما سمعت قولها الغريب، ولكني قلت في نفسي: في المجتمع الذكوري ليس من الغريب مثل هذه الأفكار، ثم خاطبتُ سلمى بلطف:
"حبيبتي سلمى، أنت أغلى وأحلى امرأة في الدنيا، أنت التي جلبت السعادة في حياتي، أملي تألق واعتلى عرش الزهو بفضل تلك المضغة التي تركل رحمك يا حبيبتي، أنا أنتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم السعيد الذي تطلع فيه شمس السعادة علينا، يوم يعلو بنا إلى السدرة المنتهى، يوم يبشرنا بقدوم روح تنورنا بتباشير الخير والبركة. لا أتذكر بالضبط عدد الليالي التي سهرتُها لأمدَّ يدي إلى الله تضرعاَ لأسأله أن يرزقني بنتاً لطيفة بارة، فأنا اليوم أخرُّ ساجدا لله وأسكب دموع السعادة أمامه، إنه استجاب دعاءي، أعتبر قدوم هذه الروح الميمونة نعمة لا يلقّاها إلا ذو حظ عظيم."
-هل تعلمين يا سلمى ماذا أسميها؟
ـ ماذا؟
ـ"بشرى". رائعة، أليس كذلك؟
- بالطبع، إنها رائعة، ولكن ما هو الدافع وراء هذه التسمية؟
- اخترتها تيمناً ببشارة تحل بنا بقدومها الميمون، وأيضاً إنها تنسجم في الوزن مع اسمك.
شعرتً بشعاع لطيف ينسكب من عيني سلمة وببشاشة هادئة تعلو وجهها، واختفت رعشات تلك الأحزان التي كانت تنبثق من صوتها حينما صارحتني بقلقها بشأن الوليدة في بطنها.
ـــــــــــــــــــــــ
مرت الأيام ودخلت سلمى المرحلة الأخيرة للحمل، عندما أغادر للعمل في الصباح لا يطاوعني قلبي أن أتركها لوحدها، وعندما أكون غارقاً في عملي لا تزال ذاكرتي عالقة بابتسامتها الحلوة وقبلتها الدافئة عند مغادرتها، ويداخلني الإحساس بأن زوجتي سلمي في هذه الأيام في أشد الاحتياج لحبي ولرعايتي، لا يجدر بي أن أواصل عملي في المكتب وأتركها لشأنها. قررت أن أكون على إجازة حتى قدوم ابنتي الحبيبة. قدمت طلباً لإجازة نصف شهر في شركتي، فوافق عليه المدير، رجعت لمنزلي مصمماً على مساعدة سلمى ورعايتها بكل ما في وسعي، أشرت عليها بالتزام ما وصفه الطبيب من المكملات الغذائية وتناول الوجبات المتوازنة والغنية بالفيتامينات اللازمة للصحة الجيدة للطفلة والأم، لم أدعها تحمل الوزن الثقيل إشفاقاً من أن يعتري الطفلة بعض التلف. رغم رفضي، أصرت سلمى على تدبير شؤون المنزل ومسح عدسات منظاري وشاشات حاسوبي وتلميعها. لم تكن في منزلي الغسالة، فساعدتها على حمل دلو الماء الثقيل وغسل الملابس الكثيفة، كما ساعدتها في الطبخ عندما حصلت لها مشكلة. لامني بعض أحبابي واستغرب تعاملي مع زوجتي، ولكني لم أكترث لقولهم.
ــــــــــــــــــــــــ
جاء ذلك اليوم السعيد الذي طال انتظاري له، أدرك سلمى المخاضُ فبادرت بحملها إلى المشفى القريب مع أختها وبعض جارتي، دخلت سلمى غرفة الولادة، وبقيت في الخارج أدعو إلى الله بتضرع للولادة السهلة، مضت ساعات، ولكني لم أسمع خبراً يسرني، سألت الطبيبة، فأجابت: هناك مشكلة طفيفة فقط، ولكن لا داعي للقلق. ما زلت في انتظار وكل أملي منوط بالله عز وجل، تارة أدعو، وتارة أبكي حتى مالت الشمس إلى الغروب ومد الظلام رواقه. بعد ست ساعات قريباً اتجهت إلى إحدى الممرضات، فظننت أن موعد فرحتي قاب قوسين أو أدنى، ولكن سرعان ما خاب أملي عندما همست في أذني قائلة: "الأمر خارج عن السيطرة يا سيدي، نحتاج لإحالتها لمشفى آخر ليتم الإنجاب عن طريق عملية قيصرية." لسماع قولها، ارتفعت دقات قلبي، وتمايلت أشباح الأحزان أمام عيني، اتصلت بإحدى المستشفيات المتقدمة حالاً ونقلت زوجتي إليها، فحص الطبيب حالها، وقال: الأمر خطيرٌ جدا، ولكن لا داعي للقلق، سوف يكون كل شيء على ما يرام. أحاطت بي المخاوف من كل صوب، وانهمرت دموعي كالمطر من عيني، لم يبق لي حول ولا قوة إلا أن ألوذ بالدعاء إلى الله، في سكينة الليل قابعاً في إحدى زوايا المشفى، بكيت وتضرعت حتى احمرت عيناي. بعد أن انتهيت من الدعاء، أسرعت نحوي إحدى الطبيبات والدموع تترقرق في عينيها: "تعازينا لك يا سيدي لم نستطع إنقاذ الأم، ولكن الطفلة على قيد الحياة." أرسلت هذه الجملة رعشات عاتية في كياني، ووقفت على قدمي مرتجفاً كقصبة في مهب الرياح، وشعرت كأن وجودي تشتت وتبعثر في الهواء كالرماد. بكيت بصوت تردد صداه في جدران المستشفى. تملكني الألم الشديد والغضب الثائر في نفس الوقت. ما فائدة هذه المعدات الطبية، وما جدوى هذه التقنيات الحديثة إذا لم تتمكن من إنقاذ بشر من مخلب الموت. قبضت بأصابعي من شدة الغضب وتمنيت لو كان بوسعي لحولت جميع مباني المشفى مع جميع معداتها الطبية إلى حطام.
آه يا لشقاء الأيام، داستني بأقدامها الحديدية ولطمتني بقساوتها. رفيقة حياتي سلمى هجرتني؟ لا أكاد أصدق. كيف أتحمل فراقك يا سلمى، لقد تركتني ميتاً بين حوافر الحياة، أين أجدك يا سلمى، وبم أستعيض عنك؟ ضميني إلى صدرك يا سلمى وخديني معك إلى قبرك.
ــــــــــــــــــــــــ
بعد أن استفقت قليلاً من نوبات الهموم، وعادت إليّ بعض القوى بعد أن هدأت وطأة الكآبة. قصدت إلى بيت ذكرى أخت زوجتي سلمى التي حملت معها ابنتي لتسربل عليها الرعاية الأموية وتحفها بدفء حبها. أول نظرتي على ابنتي بشرى أوحت إلى قلبي السكينة. إنها تشبه أمها بجميع تفاصيلها، بصباحة سحنتها، وإشراق وجهها، وروعة جبهتها، وبهاء، وجنتها. إنها ابنتي، فلذة كبد سلمى، وجزاء ليالي الساهرة وتضرعاتي المتذللة أمام الخالق، آه، يا لروعتها وجمالها، صبيحة كديمة، أنيقة كمزنة، سكن القمر شرايينها ليضيء بضوءه وجودها، وحلت الكواكب خلاياها ليشرق كل ذرة من ذرات كيانها.
استودعت ابنتي بشرى خالتها، لتربيها في كنفها وتعوضها بحنانها عن فقد أمها.
انصرفت إلى عملي بشكل روتيني وظلت ذكريات سلمى مستقرة في مخيلتي، أثناء عملي في المكتب أحاول التغلب على البكاء، ولكن أجفاني الطافحة بالمدامع تأبى إلا أن تستفرغ إناءها الهائج بموجات الشجي. أسير ميتاً بين الأحياء، وأتجرع جرعات الحياة من أجل ابنتي فقط. في ظلام الليل الدامس عندما تشرب جفون الأنام كأس الكرى، أختبأ بستائرها السوداء لأسكب الدموع.
في إحدى الليالي عندما أنهك النحيب عيني وأخلدهما لحضن النوم، زارتني سلمى في المنام وضمتني إلى صدرها كما تضم البحر السواقي الهائمة نحوه، ولامست شعري بأطراف أصابعها، وخاطبتني بصوت يحاكي نغمة النأي رقةً:
"لقد سحق الأسى قلبك حبيبي، جئت لكي أضمك بذراعي وأرش على وجودك الذي لحفته نيران الحزن رذاذا من الماء الصافي المتدفق من ينبوع عواطفي الزكية، أنا أعلم أن أيامك المشرقة تحولت إلى ليل دامس بفراقي، وأصبحت حائراً بين أشواك الحياة. لا تحزن لموتي حبيبي، إنه الموت، الموت الذي يفوق الحياة قوةً وأثراً، ويضم كل حي إلى طياته، إنه يلتهم كل ما دنا وبعد ليحوله صفراً أبدياً، فأنا الآن أصبحت صفراً أبدياً لأرافق روحك وأضفي على فلذة كبدي بشرى كل ما أمتلك من الطاقة، أنا ذاك الصفر الذي هو منبع جميع الطاقات. حبيبي جئت لأعلمك أسرار الحزن وأخفف عنك أثقاله، الحزن يشبه الموت في العظمة، كما أن الحياة تسلس قيادها لجبروت الموت، السعادة تذوب أمام هيبة الحزن، إنه عظيم فلا يدنو إلا من العظماء، كما أن الجداول تتجه نحو البحر والأزهار تتفتح للنور والغيوم تهبط نحو الوادي، كذلك الحزن يتخذ من ضلوع العظماء مقرا له، إنه مفتاح إلى الأسرار المكنونة والخفايا الغامضة، إنه يصطفي الخيرة من البشر فيجعله عظيماً كعظمته، استقبل هذا الحزن برحابة الصدر يا حبيبي وضمه إلى صدرك بشجاعة، لا تدع جسمك المادي يخور وينهار لشد لوعته، إنه مصباح استنار بداخلك ليضيء روحك. فاستخدم لوعته لإنارة روحك لا لإحراق جسدك.
حبيبي عندما تتغلب عليك ذكرياتي، ألق نظرة على ابنتنا الحبيبة بشرى ستجدني في ملامحها، لقد استنسخت نفسي في وجودها لتعكسني بجميع تفاصيلها، أنا أحبها أكثر من حبك لها."
بعد أن انتهت من كلامها، أردت أن أبوح لها بما يدور بخلدي، ولكن نابت عيناي الطافحتان بالدمع عن لساني، أمسكت يدها بقوة لكيلا تغرب عني، ولكن فجأة فرقت اليقظة ما جمعه المنام. ليتني ما صحيت قط من هذا المنام، ليتني تمكنت من مصارحتها بخواطري، آه! يا لشقاء الحظ، لقد فرقت اليقظة بيني وبينها ولم أستطع أن أقول لها: "كيف أتحمل الحياة بدونك، إن أقصى مرامي أن أري نور عينيك وأسمع نغمة صوتك. آه يا عزيزتي! من يسبر أغوار ذاك الأسى الذي يعتصر عظامي ويفتت محاجر فؤادي."
ــــــــــــــــــــــــ
مرت الأعوام ودارت الأيام دورتها، وظهرت على وجهي تجاعيد الزمن، واستقرت على جبيني آثار الكآبة القابعة بقرارة روحي، ودخلت ابنتي بشرى الربيع السابع من عمرها، تزوجت ذكرى بأحد أبناء عمها، بعد زواجها دخلت بشرى تماماً تحت كنفي ورعايتي، غمرتُ صغيرتي بشرى بنعيم الحياة ورخاءها، سعادتها من أول يوم كانت من أسمى غاياتي، جهزت لها الوجبات، وطبخت لها أشهى الأطباق، وغسلت ملابسها. قضيت الساعات بتجعيد شعرها وتنضيد اثوابها، عندما خلعت الطبيعة أثواب النور واسود الظلام وسجى برداءه الدامس جسد الطبيعة، قصصت لصغيرتي قصصا لترتشف كأس النوم ممزوجة بلذة الأقاصيص وحلاوة الحكايات، أخبرتها خالتها عن فاجعة أمها، ففي بعض الليالي سألتني عن أمها، فتجاذبنا أطراف الحديث بتلهف عن سلمى وصفاتها الملكية. عندما مزق الصباح نقاب الكرى عن أجفاننا وسكبت الشمس أشعتها في قلوبنا، صحينا وجهزت الفطور لبشرى، ثم أخذتها معي إلى المدرسة الواقعة في طريقي إلى مكتبي، وعند المساء عدت للمنزل برفقتها. صغيرتي بشرى رفرفت في سماء حياتي كالطائر وسكبت في وجودي عطر أنفاسها كالزهور، وتناجت على مسامعي كالعصفور، ولمحت في عينيها روعة توحي السكينة إلى قلبي، برؤية وجهها اضمحلت كل متاعبي، عندما تكلمت انبثقت من صوتها نغمة أعذب من همس الحياة وألطف من حفيف الأجنحة وأعمق من أنين الأمواج. عندما نادتني "بابا" اهتززت لسماعها اهتزاز الأغصان الناعمة لحفيف الهواء العليل. "بابا، بابا" كلمة ضربت أوتار قلبي وأحستني برقيق المعاني وبديع المشاعر، كلمة تخفي في طياتها كل شيء، كلمة بابا من شفتي ابنتي العزيزة هي حصيلة حياتي، سمعت فيها همس أوتار العود، وتنهيدات النأي، وخرير السواقي، وتسبيحات الطيور، وترنيمة الدفوف. إنها كانت أجمل أيام حياتي، تمنيت لو كان بوسعي لأوقفت الزمن لأستمتع بنشوة الحياة مع صغيرتي للأبد.
ــــــــــــــــــــــــ
السعادة والكآبة تتصارعان في القلب البشري، وفي نهاية المطاف تتغلب الكآبة على السعادة، وذلك بالضبط ما حصل لي، مرضت عزيزتي بشرى، أصيبت بالصداع ونزيف الأنف، وسبحت الحمى في جسدها سباحة السمكة في الماء، استشرت الطبيب، فأجرى بعض الفحص الطبي، ووصف لها بعض الأدوية، برئت قليلاً، ولكن الوعكة ما زالت سابحة في جسمها، نقلتها إلى أحد المستشفيات الراقية حيث خضعت لفحص طبي دقيق، نتائج الفحص أحدثت زلزالاً تحت قدمي وارتميت على الأرض كغصن قصفته العاصفة، عزيزتي بشرى نائمة بجانبي في المشفى وقد عاد وجهها الناضر كغصن أصفر في مهب ريح الخريف، وأنا غارق في تموجات الحزن العميق، والدمع السخين يتساقط من مقلتي كالمطر. آه! عزيزتي وقعت فريسة لسرطان الدم، لا تدوم حياتها طويلاً، وسيتوارى عن نظري تلك الروح القدسية التي كان مبعثاً للسعادة في حياتي.
أهكذا تمر بي الليالي؟ أهكذا يدوسني القدر بأقدامه؟ أليس بوسع الطب مع أحدث تقنياته وجميع ثوراته أن يهزم السرطان؟ هل السرطان أكثر تقدماً من الطب؟ إذا لم يكن كذلك، فلماذا لا يتفادى البشر من هجمات هذا المرض الشرس؟ آه! إن هذا الوحش الضاري سيمتص دماء عزيزتي ويقتات لحمها ويعتصر النضارة من وجهها الملكي.
لم أخبر عزيزتي عن مرضها، وبدأت أستغل كل لحظة لإسعادها، حاولت وباطلاً حاولت أن أكتم حزني من عزيزتي، ولكنها شعرت بمكامن حزني، وبدأت تخفف عن حزني بجميل قولها وبديع حديثها.
-بابا لماذا تحزن لهذا الحد؟ سيكون كل شيء على ما يرام.
-نعم عزيزتي، أتمنى ذلك
آه! يا لعجزي واستكانتي، ليتني تمكنت من إخبارها أنها في مخلب مرض سينقش وجودها على ورقة الفناء.
‘بماذا تفكر بابا؟’ تغردت بصوتها العذب، ثم أردفت قائلة:
-بابا، عندما أكبر، سأجلب لك كل السعادات، وسأهتم برعايتك مثلما تهتم أنت برعايتي.
يا له من مشاعر طاهرة! ليتها علمت، إنها لن تكبر ولن تدخل الكلية والجامعة وتستمتع بسعادة التخرج، وتحظى بكفالة نفسها وأبيها. وبينما أنا في مخيلتي فجأة قاطعتني سلسلة خيالي قائلةً:
-استمع إلي بابا، طموحي في الحياة أن أكون طبيبة لأساعد البشر على التخلص من الأمراض. أعجبني منظر تلك الطبيبة البارعة في المستشفى، أتمنى أن أكون مثلها.
-بالطبع عزيزتي، ستكونين طبيبة خارقة وتطهرين الأرض من الأمراض الفتاكة.
-بابا أنا أحبك كثيراً، أنت كل شيء في حياتي، أنت أمي وجدتي، وأنت أبي وخالي وعمي، أنت أجمل الآباء في العالم.
-أنت حياتي صغيرتي، كالشمس أشرقت وكالعصفورة غردت وكالربيع لونت حياتي برونق الزهور وبهرجة الأعشاب والحقول. أتمنى أن أسعد بوجودك للأبد عزيزتي.
وما زالت تتحدث معي حتى داعب النعاس أجفانها، وضممتها إلى صدري فأغمضت عينيها لاقتبال قبلة النوم. تحدثت معها بصوت تتموج نغماته بين طهر كلماتها وشدة الأحزان المستترة في قلبي. يا للأسى! عزيزتي بشرى التي هي في حضن الحياة اليوم، ستصبح غداً في قبضة الموت. لماذا خلق هذا الموت؟ فهل توجد قوة تتغلب عليه، ليتني امتلكت هذه القوة الخارقة، فأهزم السرطان لتحيا عزيزتي وتحقق كل أمانيها في الحياة. آه! إنه مستحيل استحالة إعادة سلمى إلى الحياة. سمعت أن في الماضي آمن بعض البشر أن سر الموت والحياة موجود في بعض المغارة في أسفل الأرض، ليتني علمت البوابة إلى أعماق تلك المغارة فسافرت إليها من أجل الحياة الأبدية لصغيرتي وإعادة زوجتي سلمى إلى الحياة.
وما زلت كذلك حتى انتصف الليل، حاولت سدىً أن أنام مع المآقي المكحولة بأشباح الكآبة. في جوف الليل الدامس استيقظت ابنتي بصراخ تفطر له قلبي، فإذا الدم ينساب من أنفها وفمها بشدة، فحملتها وأسرعت إلى سيارة الإسعاف بسرعة الكهرباء، وصرخت بأعلى صوتي وثيابي تقطر دماً، أنقذوا ابنتي، إنها على حافة الموت. لحقت عزيزتي بشرى بأمها سلمى قبل أن تصل سيارة الإسعاف إلى المشفى. انتحبت بصوت عال خارج من صميم كبدي، ولا زلت أبكي في تلك الليلة حتى نضبت مدامعي وأصبحت عيناي مقرحتين من شدة البكاء.
يا لهول المنظر، ويا لاختبار الحظ! كيف أتحمل لوعة الأسى عندما أواري جسد عزيزتي في التراب. يا لهف نفسي ليتني لم أولد! مع العبرات الغزيرة واريت ذاك النور السماوي تحت التراب الأرضي. كيف يحلو لي العيش بعد ابنتي! هيا أيها السرطان هيا، هزمت عزيزتي، فاهزمني أيضا، وأنشب أظفارك في وجودي، اقتربي مني وحلي قيود جسمي المتضعضع الذي تعبت من جره. ألا يا أيها الدهر القاسي، فتكت بزوجتي سلمي ولا زلت تتطاير في سماء حياتي كالنسر الجائع لتقضي على أغلى ما عندي، ألم يشبع سيفك بدماء سلمى، فشهرته ثانيا لتقتل عزيزتي؟ فها أنا ذا ماثل أمامك فاقتلني أيضاً.
آه! لقد فتحت لي الحياة باب سجنها وتظهر لي جدرانها المظلمة مثلما تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح فكيه متثائباً. بدأت كلمات سلمى تتردد في مسامعي. "الحزن عظيم فلا يدنو إلا من العظماء". سلمى وبشرى بلغتا ذروة العظمة بالموت الذي هو قمة الحزن. ها أنا أنتظر ذلك اليوم الذي أتربع فيه على عرش تلك العظمة وألتقي بالروحين العزيزتين اللتين فاقتا عليَّ في العظمة.