البوصلة والأظافر وأفول المطر
بقلم: د. سناء الشعلان (بنت نعيمة)[1]
selenapollo@hotmail. Com
إن كان اسمك هاشماً، وكنتَ تملك بوصلة نحاسيّة قديمة مربوطة بجيبك بخيط صوف أزرق غليظ، فلا تفارقه، وكنتَ تجزمُ بأنّك ستموت في أشدّ أيام مربعانيّة ([2]) الشّتاء برودة، وكنتَ تدسّ يديك في غالب الأحيان في جيبي معطفك أو في جيبي بنطالك كي لا يرى أحد أصابع يديك العاريتين من الأظافر، فأنتَ بلا شكّ هاشم النتّيفيّ ([3]). الكثيرون يعرفونه ويجهلونه في الوقت ذاته؛ كان اسماً بلا وجه لسنوات طويلة، فطوال سنين سجنه الطّويلة في غياهب المعتقل الصّهيونيّ كان يذكره أفراد عائلته دون انقطاع باسم البطل، وكان يقرن اسمه دائماً بجملة "فكّ الله أسره".
كان يتجسّد في مخيلتي حينها على شكل فارس أسطوريّ قامته ممتدة حتى السّماء، ويداه مغروستان في الأرض على شكل زيتونة ألفيّة، وعيناه مسكونتان بأسراب الحمام البريّ البغداديّ، كان - في نفسي - أكبر من أن أتمنّى أن ألقاه، وبقيت أرفض أن أصدّق أنّ الحاجة وطفة المتكوّمة في ثوب فلسطينيّ أزرق قديم فيه آثار دارسة لقصب ذهبيّ، والمتلفّعة بشالٍ كان أبيض في يوم قد نُسي متى كان هي أمّه التي ولدته، وحملته تسعة أشهر في أحشائها قبل أن يسرقه العدّو الصّهيونيّ من حضنها صبيّاً صغيراً، ويزّج به في غياهب المعتقلات بتهمة الشّروع في قتل مستدمر استولى على بيّاراته، وشرع يخلع أشجارها الواحدة تلو الأخرى بذنب أنّ زارعها فلسطينيّ!
كنتُ أضنّ على أيّ امرأة بشريّة فانية أن أمّه، وأرى أنّ أمّاً أسطوريّة هي من تليق به؛ فهذا البطل الغائب الذي سمعتُ الكثير من القصص عن شجاعته لا تليق به إلاّ أمّاً بعظمة الزّباء أو أمّ سيف بن ذي يزن أو أليسار أو شجرة الدّر، أمّا الحاجّة وطفة المقتضبة في نحو خمسين كيلو غرام وفي مئات خطوط الكبر في وجهها أنّى لها أن تلد كائناً أسطوريّاً مثل هاشم؟!
يوم قيل لنا إنّ هاشماً قد خرج أخيراً من المعتقل شعرت بحزن أنانيّ عميق، فبعد أن يخرج من المعتقل من سيكون بطليّ العائليّ المأسور الذي أفاخر به الصّديقات والمعارف؛ وعندما قيل لنا إنّه قد وصل إلى الأردن، وسوف تقيم له العائلة استقبالاً عائليّاً حاشداً في ديوانها الاجتماعيّ كدتُ أتقيّأ من شدّة الانفعال ثم أصابني صداع نصفيّ لساعاتٍ طويلة، ثم تورّطت في لعبة الانتظار مجهولة الأسباب.
وكان الحفل الأسريّ الحاشد بعد أيام قليلة تواترت عليها أخبار شتّى عن تفاصيل عودة هاشم، فعرفنا أنّه عاد وحيداً عبر معبر الجسر إلى الأردن، وانتحبنا طويلاً عندما عرفنا أنّ الحاجة وطفة الضّريرة عرفته من رائحته قبل أن يقول أيّ كلمة، وخجلنا من بخلنا عليه عندما عرفنا أنّه اشترى بدنانيره القليلة التي يملكها من حطام الدّنيا مترين من قماش الحبر لأمه التي لطالما سمعها في طفولته تسبّ أخوته إن شاكسوها بقولها: "يا أولاد الكلب، هل اشتريتم لي ثوب الحبر كي تزعجونني هكذا؟! فخمّن أنّ غاية ما تحلم أمّه به هو أن تملك ثوب حبر مطرّزاً بالحرير الأحمر المونّس ([4])، ولكنّ نقوده قصّرت دون أن يشتري لها "طبب" ([5]) الحرير المطلوبة.
كنتُ أعتقد أنّني سأرى فارساً ذهبيّاً يجرّ بحبله نمراً مقيّداً، خمّنت أنّ أرض ديوان العائلة ستميد بخطواته الضّاربة في الأرض التي ألفت أن تسخر من ثقل الأغلال الوقحة التي تنحاز إلى المعتدي ضدّ صاحب الأرض والحقّ، أغمضت عيني للحظة كي أفتحهما استعداداً لدخوله بصحبة رجالات العائلة، ثم فتحتهما، فلم أرَ الفارس الأسديّ العائد الذي لطالما تخيّلته، وإنّما رأيت رجلاً متكوّماً في معطف شتويّ قديمّ بلحية بيضاء وشعر عنزيّ مسدّل، يسير بثقةٍ مقصودة تكابر عرجاً بادياً في قدمه اليسرى، ويحرص على أن يدسّ يديه في جيبي معطفه، كدتُ أخون لحظة استقباله، وأهرب من المكان، وطفقت أنتظر الفرصة المناسبة للهرب خارجاً، ولكنّ صوته هو من أخجلني من خيانتي المزمعة، فوحده صوته من جاء على قدر الأمنية؛ كان صوتاً فيه إرث كامل من الحكايا والنّضال والشّهداء والأوجاع والكفاح الذي لا يعرف مهادنة، صوته غابة من الرّوائح والكلمات الوجلات والتّنهّدات والصّرخات والإغفاءات واللّمسات. من يستطيع أن يهرب من صوت ابتلع معتقلاً بكلّ ما فيه من جنود غواشم وكلاب عادية وأغلال وسياط وآلات تعذيب؟! صوته مقبرة للأعداء، وترنيمة للبداية والنّهاية.
تكلّم طويلاً عن تجربته في المعتقل، لم يستخدم كلمة أنا أبداً، دائماً كان يقول نحن، كلماته نقلتنا إلى المعتقل، هناك عرّفنا بالأبطال اسماً اسماً، ووجهاً وجهاً، وقصةً قصةً، كنّا نسأله بفضول وشره، فيجيبنا عنهم بإسهاب وتفصيل، كنّا نكلّمه عن هنا، فيحدّثنا عن هناك، كنّا جميعاً غائبين، وهو وحده الحاضر. يومها صمّمتُ على أن أكون في أقرب مسافة من هذا الرّجل ذي الصّوت السّماويّ، ودفنت صورته المتخيّلة في أبعد نقطة خارج ذاكرتي؛ فما حاجتي إلى الصّور الباذخة التّمنّي، وأمامي الحقيقة وافرة الصّدق؟!
لم أكن الوحيدة التي أرادت أن تكون في أقرب مسافاتها من هاشم، فهناك الكثير من أفراد العائلة الذين أرادوا أن يقتربوا من هذا الرّجل المثقل بالصّمت على الرّغم من موهبته الفطريّة في البوح الآسر المؤثّر، ولكنّني كنتُ الأكثر حظّاً في الحصول على النّصيب الأكبر في الاستماع إليه، وفي مرافقته في كثير من الدّعوات العائليّة والمحافل الشّعبيّة التي استضافته بفضول مجلوب مفتعل لتزيد من رصيدها الشّعبيّ، وتستعرض قائمة جمهورها غير العريض في غالب الأحيان، ثم نسيته تماماً بعد أن حقّقت هدفها الإعلاميّ منه.
وأخيراً خلا لي وجه هاشم ووقته واهتمامه، ولكنّه عندها كان وجهاً كسيفاً فيه خرائط حزن بائد لا تضاريس جبال شمّاء كما هي نفسه الأبيّة العصّية على الكسر أو الصّهر أو الاستلاب، قدّر سريعاً بحسّه المرهف أنّ الجمع قد انفضّ من حوله، وخلّوا بينه وبين أحزانه، ليجرع منها ما شاء، فقد نفِدَ نصيبه من الاهتمام المجتلب المصنوع، أحد لم يسأله عن حاضره أو مستقبله، قليل من عرفوا عن وحدته وخواء جيبه من أيّ قرش، وشخصان أو ثلاثة هم من سألوه عن سرّ بوصلته النّحاسيّة أو أظافره المنزوعة من أصابعه.
أمّا أنا فتحوّلت أقداري من امرأة حالمة بفارسٍ أسطوريّ تفكّر في خبثٍ بأن تحصل من هاشم على مادة شيّقة لتقرير صحفيّ يصلح لأن ينشر في عامود بارز في صحيفة يوميّة مشهورة إلى صديقة مخلصة تحرص على أن تستمع باهتمام موصول لبطل حقيقيّ قرّر الجميع في خضمّ صخب حيواتهم أن يسرقوا فمه منه، ليعتقلوه من جديد في صمت خبيث.
حكايا هاشم كانت بوصلة لا تشير إلاّ إلى الوطن فلسطين وإلى العودة، كانت طُرقه كلّها تقود إلى دربٍ واحد، وهو درب العودة إلى بيت نتّيف، كان حريصاً في كلّ مكان يذهب إليه على أن يمدّ أصابعه العارية من الأظافر إلى جيبه ليخرج بوصلته النّحاسيّة القديمة، ويفتحها ليرقب إبرة المؤشّر تشير إلى اتّجاه فلسطين، وكأنّه في مسير مستعجل نحو العودة، كان يقول لي دائماً إنّه عائد في القريب إلى قريته، وهناك سيعيش في بيت العائلة في الحارة (التحتي)([6]) ، وسيتزوّج من بنات عائلة أبو حلاوة ([7])؛ لأنّهنّ الأشدّ جمالاً وخصوبة في نساء القرية، وسيعيش وأولاده العشرة الذين يريد أن ينجبهم من ريع الأرض، فهو فلاّح ابن فلاّح، ولا يتقن إلاّ أن يكون كذلك. وعندها يشتاط انفعالاً، فتغلب الحُمرة على خدّيه، وكأنّ الحياة ردّت إليه فجأة بعد رحيل وهو يرفل في أمنياته، كان يحرّر يديه من سجنهما الجيب، ويشرع يستنطقهما في حركاته وهو يتكلّم بإسهاب أخضر مورق بالسّعادة عن أدق التّفاصيل قرية بيت نتّيف، فيطوّف بي على عائلات حاراتها الثّلاث، ويعدّد أسماء ساداتها، ويتتبّع أنسابها، ويؤكّد في كلّ مرّة أنّ كثيراً من أفخاذ عائلاتها كادت تنقرض في تصّديها الشّجاع لعصابات اليهود الواغلة في أراضيهم في عام 1984، ثم يطوّف بي على قاعة السّحلة والمالحة وبير الصّفصاف وخربة أم الذّياب وخربة أم الرّوس وجسر الأربعين ومراح أبو جهنّم وسهل حمّادة([8]).
وعندما يحين وقت المساء يصمّم على أن يعود إلى بيته راجلاً بحجّة رغبته في بعض الرّياضة، وأنا أعلم علم اليقين أنّه لا يملك ثمن أجرة حافلة تنقله إلى بيته، فأصمت رحمة بحاجته الأبيّة على الشّكوى والاستجداء.
لم تطل صحبتي مع هاشم، فقد ألّبت خيبات الأمل الأمراض عليه، وكان سهلاً عليها أن تتحالف ضدّ نفسه المفطورة على الإباء حتى أمام الألم، كنتُ كلّما عرضتُ عليه أن أصحبه إلى الطّبيب، يؤجّل ذلك قائلاً: “سأذهب فيما إلى حكيم الوكالة ([9]) ليكشف عليّ، لا تخافي، لن أموت أبداً في الصّيف، أنا لن أموت إلاّ في مربعانيّة الشّتاء، لأدفن في ليلة ماطرة كلّها زخّ من الرّب".
فأضحك عندها، ويضحك هو، ونتكلّم في أيّ موضوع إلاّ عن أظافر يديه المنزوعة بالكامل تعذيباً في المعتقل الصّهيونيّ التي أؤجّل السّؤال عنها إلى وقت آخر لا أعرف متى يكون، دون أن أعرف أن لا مزيد من الوقت أمامي، بل أمامه؛ فقد مات هاشم بهدوء وحيداً في بيته الغرفة في المخيّم بعد أن سافرت أمّه لتحقّق حلمها بأن تزور البيت الحرام قبل أن ترحل إلى العالم الآخر.
مات هاشم وفي كفّه بوصلته، وعلى شفتيه ابتسامة صافية كروحه المهر التي لا تبالي بأن تفارق جسده في ليلة صيفيّة لا ممطرة من ليالي المربعانيّة كما كان يتوقّع، مادامت طليقة تحلّق نحو وطنه فلسطين لتخلد هناك إلى الأبد.
[1] روائية وقاصة وكاتبة مسرحيات وناقدة وأستاذة جامعية وناشطة حقوقية، ملقبة بشمس الأدب العربي وأميرته، حازت أكثر من ستين جائزة عالمية وعربية.
(1)- أيام المربعانيّة: هي عند العامّة الأيام الأربعون الأشدّ برودة في فصل الشّتاء.
(2) - نسبة إلى قرية بيت نتّيف: تقع إلى الشّمال الغربيّ من مدينة الخليل، وتبعد عنها 21 كم، وترتفع عن سطح البحر 425م، وتقوم على قمّة جبل في المنطقة الغربية من جبال الخليل. تبلغ مساحة أراضيها 44587 دونماً. وقُدر عدد سكّانها عام 1922 بحوالي (1112) نسمة، وفي عام 1945 بحوالي (2150) نسمة، وفي عام 1948بلغ عددهم (2499) نسمة. قامت المنظّمات الصّهيونيّة المسلّحة بهدم القرية، وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 1948 (2499) نسمة، وكان ذلك في21/10/ 1948. ويبلغ مجموع اللاجئين من هذه القرية في عام 1998 حوالي (18995) نسمة. وقد أقام الصّهاينة على أرضها مستدمرة (نتّيف هلامدة) 1949، ومستدمرة(افيعيزر) 1958، ومستدمرة (روجيلت) 1958، ومستدمرة (نفي مخائيل) 1958. وتُعدّ القرية ذات موقع أثريّ يحتوي على خربة أم الرّوس وخربة أم الحاج والنّبي بولس واليرموك والعبد وجداريا والشّيخ غازي والتّبانة وغيرها.
(3) - الحرير المونّس: أيّ يتكوّن من درجتين من اللّون ذاته.
(4)- طبب الحرير: كرات الحرير.
(5) – التّحتى: أيّ الجنوبيّة، إذ كانت قرية بيت نتّيف قبل هدمها تتكوّن من ثلاث حارات رئيسيّة.
(6)- أبو حلاوة: هي إحدى عائلات قرية بيت نتّيف.
(7) - أسماء أماكن جغرافيّة في قرية بيت نتّيف.
(8) - طبيب عيادة وكالة الغوث(الأونروا).