كانت هيلين تحملق والرعب ينبض مع كل خفقة من قلبها.. كانت تحملق والرعب ينزّ مع كلّ قطرة عرق يفرزها جسدها..
جثث الموتى تغطّي أديم الأرض.. الجثث متكدّسة بعضها فوق بعض.. وهياكل أشباه الموت مبثوثة هنا وهناك كالوهن يسري في مفاصل المرضى..
لم تصدّق عينيها.. ما تراه حقيقة فاقت كل التصورات.. وهولا فاق الهول..
سمعت الكثير عن المجازر البشرية في العالم ورأت آلاما تتلوى أمام عينيها آلاف المرات.. لكنها لم تر "الموت" ينظر متحدّيا.. ويختال متبخترا.. كما رأته في ربوع الصومال..
حطّت هيلين كالحمامة البيضاء مع الفريق الطبي المرافق لها.. وكانت تملأها قناعات بأنها قادرة على تخفيف آلام أولئك المعذّبين السمر..
ستوزّع عليهم الأدوية.. وتطمئن أمعاءهم المتضررة بأن الطعام تذكّرهم أخيرا واتّجه إلى ديارهم.. ولكن ما رأته.. ما عايشته فاق كلّ تصوّراتها.. وأعجز تبرّعات المحسنين ...
كانت تنتقل بين الأكداس لتفرز الأموات من أشباههم.. وتوقع جواز الأموات إلى عالم سيجدون فيه العدل والخير.. ولكنها في كل مرة كانت ترى الجوع. يكشّر عن أنيابه ويقول لها: " انتصر عالم على عالم.. انتصر عالم الخبز والتخمة على عالم الصحراء والجهل والقحط.. وانتصرت التكنولوجيا على بدائية الإنسان الثالث “.. فكانت تحسّ بمرارة القهر.. وتواصل الأنين يتواصل ضعيفا هنا وهناك..
وهذه أم تحاول قطع جزء منها لتطعم فلذة كبدها ولكنها لا تقوى فتتوسل إلى هيلين أو غيرها بأن تساعدها على ذلك ... جفّ الجل على العظم ولم يبق غير الثدي جلدة متدلّية هذا الثدي الذي كانت تنساب الحياة منه عذبة وبلا حدود.. وكم كان وليدها يعب من "فراته" حتى الارتواء.. تتوسّل إليهم بقطع هذا الثدي وإطعام طفلها المتكدّس إلى جانبها يعاني سكرات الموت.. تلحّ في الطلب كي يواصل هذا الثدي مهمته ويواصل هذا الطفل الحياة ولو إلى حين..
وتلك أم ممددة.. صرة من العظام تحويها جلدة جافة.. وليدها يمتص ثديا صار ينزّ دما وهي تنظر إليه بلا حراك.. بلا ألم..
كانت هيلين تهرول مع مساعديها لتعجّل برشفة ماء.. أو بعض الدواء.. أو قضمه خبز لكن البريق المنطفئ في تلك العيون العربية السوداء كان يلحّ في السؤال: ماذا سيفعل الدواء سيدتي؟ هل سيشد عودي المنخور؟ أين ستصل هذه اللقيمات؟ وإلى أي معيّ من أمعائي ستتجه؟ وأي عضو من أعضاء ستبعث فيه القوة؟
وهل ستكون أسرع من الموت؟ بل هل ستكون الأدوية قد وهن على أداء وظيفته.. هذه الهياكل البشرية صارت أشكالا مخيفة لا فرق بينها وبين أشكال الرعب الخرافية.. بل ماذا تبقى من الإنسان فيها؟
كانت هيلين تهرول.. ولكنها كثيرا ما كانت تصل متأخرة إلى العيون السوداء المنطفئة بعدما تشق أكوام الجثث بصعوبة.. تصل لتجد تلك العيون التي كانت تنتظر الرحمة انطلقت من عقالها وحلّقت عاليا.. دون خوف.. دون تردد.. دون تراجع..
تتألم هيلين كثيرا.. وتنحدر الدموع ساخنة.. وكثيرا ما كانت تعضّ شفتيها القرمزية لتكظم غيظا يفور في دالتا.. تبكي في صمت. وتشهق في صمت تعلمّته من هذه العيون السوداء المنتظرة..
.. "القطار " لا يتوقف.. رحلاته لا تنقطع يشحن جثث الموتى حينا ويوزّع الأمل بين أشباههم حينا آخر.. خط الاتجاه واحد.. حياة.. موت..
لأول مرة ترى محطة القطار مكتظّة بالركّاب لكنهم لا يتدافعون.. لا يتسارعون.. الوجهة معروفة.. فيما العجلة؟ لا حاجة للتدافع.. وهل هناك قوة؟ سيدفعون دفعا.. في كل سفرة لا يتأخر عن الصعود الا القليل.. القليل الذي سيلحق في السفرة المقبلة.
كرت الرحلات.. وكثر المسافرون.. والمنتظرون.. وهيلين لا تجد تفسيرا لما يحدث.. أحيانا تخرج عن حدود المعقول.. وتقنع نفسها أن ما تراه مجرّد شريط سينمائي مرعب لا غير.. فتبتسم وتقول كم كنت طفلة.. انسجمت كثيرا مع أحداثه حتى خلتها حقيقة..
ولكن هذا الألم الذي يخز ظهرها بمفعول الانحناء يعيدها إلى الواقع. بل إلى الحقيقة – الكابوس.. تتأوه.. وترفع عينيها الزرقاوين إلى السماء.. فترى المائدة تحفل بما لذَّ وطاب.. زوجها وأمها وطفلها الصغير يلتفون حولها كل يومٍ.. ينعمون بخيرات شتى.. تود لو تكون ذراعها.. وتطول وتطول لتصل إلى هناك.. فتشرك هؤلاء الجوعى وتطعمهم من تلك الخيرات..
ترى عيني وليدها الواسعتين تنظران إليها في صمت.. تدعوانها إلى البقاء.. تلحان عليها في مراجعة قرار الرحيل.. وتحس الأم بأن أمومتها تجاوزت الحدود لتشمل آلاف الأطفال أو أكثر.. يهددهم الجوع بالموت..
عينا طفل دعتاها إلى البقاء.. وعيون الطفولة دعتها الى الرحيل.. فاستجابت.. واهي تعيد نظرها إلى الأرض.. الأرض صحراء مترامية الأطراف قد بلغ منها العطش مبلغا جعلها تتشح بوشاح أحمر وهّاج.. تصاعد لونه واصطبغت به السماء.. السماء دامية.. والأرض جريحة.. والحرارة بخّرت المياه.. فكان الجدب.. وكان الجوع.. وكان الموت سيد الموقف.. كان متربّعا على عرش لم تقدر الأيادي العاتية على زعزعته..
هيلين حمامة بيضاء ... ابنة الثلج والخبز والصليب.. جاءت تحمل الحب في قلبها والسلام في عينيها إلى العيون العربية السوداء.. جاءت تعيد البريق.. والنبض.. والحياة إلى أشباه الموتى.. أشباه الأحياء.. فوجدت أن حقائبها المملوءة أدوية.. وأن قلبها المملوء حبا.. وأن عينيها الزرقاوين المملوءتين أملا ورحمة كلها مجتمعة. ضئيلة.. عاجزة أمام صولجان الموت والجوع في الربوع العربية السمراء.. الخبز في بلادها كثير.. كثير والحب في قلبها كبير.. كبير.. الخبز في صحرائنا معدوم.. والحب في أحشائنا مطعون.. مطعون..
الله في بلادنا معبود.. والكنائس في بلادها مفتوحة الأبواب مكتظة بالرواد في الآحاد والأعياد.. الله في بلادنا نسيه الكثيرون.. والدين في بلادنا تخلف وعار.. فمتى يعود الله إلى قلوبنا؟ ومتى يعود الإيمان إلى صدورنا؟ ومتى تنبت الصحراء ف بلادنا خبزا وزيتونا ... وحبا...؟
متى يتوقف القطار عن رحلاته؟ متى يقزم الموت؟ متى تزرع الصحراء حدائق.. أعنابا وأبّا؟ متى تجري أنهارا ... وأمنا ... وودّا؟؟
وتظل عينا هيلين تبحثان عن العيون العربية السوداء لتعيد إليها بريقها من جديد. وتظل الأيادي العجفاء الناشفة ممدودة .. فمتى تمتد نحوها قوافل الإخاء والرحمة؟ تنطفئ عيون وتظل أخرى منتظرة ... تتفتت هياكل وتظل أخرى منتظرة ... تجف إهابات وتظل أخرى منتظرة ...