اليوم.. أول أيام عيد الفطر المبارك.. يا له من يوم جميل.. الأشجار السامقة تظلل المكان بأوراقها الخضراء الوارفة.. الحقول تبدو في أروع صورة لها.. السماء يشوبها لون يميل إلى الأحمر الداكن.. الشمس تبدو رقيقة هادئة.. وكأن الدنيا كلها تحتفل بالعيد.. القرية بأكملها تعج بالنشاط والحيوية.. الجميع يستعدون للذهاب إلى ساحة صلاة العيد.. هناك من يكتشف أن قميصه يحتاج إلى أزرار. فيهرع إلى جاره ليستعير إبرة وخيطا.. وهنا أخر يجد حذاءه جامدا.. فيجري إلى محل الأحذية ليستعين بلبيسة " الأحذية " الأبقار يجب إطعامها قبل أن يخرجوا. فاليوم سوف يكون قد انتصف عند عودتهم من ساحة الصلاة.. إن عليهم أن يقطعوا ثلاثة أميال أو ما يزيد حتى يصلوا إلى الساحة ليقابلوا مئات الأصدقاء والمعارف والجيران ويتبادلوا التهنئة بالعيد.. الأطفال هم صحيح أن بعضهم لم يصم يوما واحدا إلا حتى العصر.. والبعض لم يصم على الإطلاق ولكن الرحلة إلى ساحة الاحتفال بالعيد هي نصيبهم من الفرحة، فالصوم للبالغين.. أما العيد فللصغار.. إنهم لا يكفون عن التفكير في العيد منذ أول يوم رمضان.. واليوم جاء العيد حقا.. كل ما يهم يذهبوا للاحتفال.. غير عابئين بالمشاكل المنزلية.. فلا يعنيهم إذا كان بالمنزل لبن وشعرية لعمل حلوى السيوای التي يأكلونها في العيد أم لا.. إن كل ما يهمهم هو أن يأكلوها.. جيوبهم تمتلئ بنقود العيدية.. لا يتوقفون عن إخراج العملات من جيوبهم وعدها.. ثم إعادتها مرة أخرى إلى جيوبهم محمود يعد ثروته.. واحد.. اثنين.. عشرة.. اثنتي عشرة.. إنه يمتلك اثنتي عشرة بيسة أما محسن فيمتلك.. واحد.. اثنين... ثلاثة.. ثمانية.... تسعة.. خمس عشرة بيسة إنهم سيشترون العالم بهذه الثروة الهائلة لعب.. وحلوى.. وطبول.. وكرات.. وأشياء أخرى كثيرة..
وأسعد كل هؤلاء الأطفال هو حميد.. الصبي البالغ من العمر أربع أو خمس سنوات.. نحيف.. ذو وجه بريء مات أبوه العام الماضي بعد أن أصيب بالكوليرا.. وأخذت أمه تضعف وتشحب يوما بعد الأخر حتى ماتت هي الأخرى.. لم يتمكن أحد من معرفة ما أصابها.. وحتى لو كانوا قد عرفوا. فماذا كانوا سيفعلون؟ لقد كانت تعاني في صمت.. وعندما وهنت قدرتها على الاحتمال. تركت العالم في هدوء.. والآن يعيش حميد مع جدته العجوز أمينة في سعادة لم يعرفها من قبل.. إن والده قد رحل ليجلب له ثروة.. وسوف يعود محملا بالحقائب المملوءة بالمال.. أما أمه فقد رحلت إلى جوار ربها لتجيء له بأشياء حلوة كثيرة...! لهذا يعيش حميد سعيدا.. الأمل شيء جميل وخاصة لدى الأطفال.. وخيالهم الواسع يمكن أن يحول حبة القمح إلى جبل شاهق.. حميد ليس لديه حذاء.. ورداءه بال وباهت فقد فقدت الخيوط التي تزخرفه باللون الذهبي وأصبحت سوداء اللون.. ولكنه مع كل ذلك لا يزال سعيدا. فعندما يعود أبوه محملا بحقائب المال، وتعود أمه بالهدايا الكثيرة.. عندئذ سيكون لديه كل شيء.. ولا يعرف كيف سيستطيع محسن ومحمود ونور وسامي أن يتباهوا بذلك القدر الذي يملكونه من المال!! جلست أمينة البائسة تبكي في غرفتها.. فاليوم عيد.. ولا توجد بمنزلها حبة قمح.. لو كان عبيد لا يزال على قيد الحياة، هل كان العيد سيمر عليها هكذا؟
غرقت أمينة في اليأس والظلام.. لا أحد في هذا المنزل يشعر بالعيد إلا حميد.. إنه لا يدرك معني الموت.. والحزن.. بل تملؤه الفرحة والأمل.. دخل حميد غرفة جدته. وقال لها " لا تخافي يا جدتي.. سأكون أول من يعود.. لا تقلقي! "
شعرت أمينة بقلبها ينفطر حزنا.. إن كل أطفال القرية سيرحلون بصحبة آبائهم.. وحميد ليس لديه سوي جدته. كيف يمكن أن تتركه يذهب بمفرده؟
أليس من الممكن أن يتوه وسط ذلك الزحام.. إنه لا يزال صغيرا.. كيف سيقدر على أن يقطع كل تلك الأميال. هل ستتحمل قدماه الصغيرتان؟ إنه حتى ليس لديه حذاء.. إنها تستطيع أن تحمله لبعض الوقت.. ولكن لو ذهبت معه، من سيبقى ليعد حلوى السيواي.. لو كان لديها بعض المال لذهبت لشراء كل ما تحتاجه لإعداد الحلوى وصنعتها على الفور ثم ذهبت مع حميد.. ولكنها تحتاج إلى ساعات طويلة حتى تجمع كل ما تريده.. إن عليها أن تستعير من هذا وتشحذ من ذلك.
لقد صنعت ذاك اليوم ثوبا لفهيمة وأعطتها ثماني أنات مقابل ذلك.. ومنذ ذلك اليوم وهي تدخر الثماني أنات ليوم العيد. ولكن بائعة اللبن أصرت بالأمس على أن تأخذ كل ما تدين به امينة من نقود وحميد لا يمكن أن يستغني عن اللبن لذلك لم يبق معها الآن سوي اثنين.. ثلاث بيسات في جيب حميد.. وخمس بيسات في كيسها.. هذا كل ما تحتكم عليه.. ومن المؤكد أن زوجة الحلاق وزوجة الكناس وبائعة الأساور سوف يأتين إليها اليوم ليهنئوها بالعيد.. وسوف يرغبون بالطبع في بعض من حلوى السيواي.. وبالطبع لن تتفهم أي منهن الأمر إذا قدمت لها قدرا ضئيلا من الحلوى... بدأت الحشود تتجمع في القرية استعدادا للانطلاق إلى ساحة الاحتفال.. حميد أيضا ذهب مع الأطفال الآخرين.. كانوا ينطلقون جميعا في بعض الأحيان، ويتوقفون في أحيان أخرى لينتظروا من تأخر منهم تحت الأشجار لماذا يسرون بكل هذا البطء؟ إن حميد يعدو وكأن قدميه قد تحولتا إلى جناحين.. إنه لا يشعر باي تعب. لقد وصلوا الآن إلى مشارف المدينة.. على جانبي الطريق.
تصطف حدائق الأثرياء، تحيط بها الأسوار العالية من كل ناحية.. وبداخلها تبدو أشجار المانجو عامرة بالثمار الطازجة.. بين الحين والآخر يقف مجموعة من الأطفال أمامها يقذف أحدهم ثمار المانجو بحجر صغير.. فيخرج الحارس مسرعا يكيل لهم السباب والإهانات.. فينطلقون فارین.. وهم يضحكون ويقهقهون.
واصل الجميع السير.. كل المتاجر مفتوحة.. وكلها تعلق الزينات اليوم.. من ذا الذي يستطيع أن يأكل كل هذه الكميات من الحلوى؟ إن كل متجر منها يحتوي على آلاف الأطنان من الحلوى.. يقولون إن الجان يحضرون ويشترون كل هذه الحلوى في الليل.. قال محسن: "إن أبي يقول إن رجلا يحضر في منتصف الليل إلى كل متجر ويشتري كل ما فيه.. ويدفع مقابل ذلك نقودا حقيقية مثل العملات التي معنا تماما! “
وجد حميد صعوبة في تصديق ذلك.. فسأله "ومن أين يأتي الجان بمثل هذه العملات...؟" أجابه محسن: الجان لا تنقصهم الأموال.. ففي مقدورهم أن يزوروا أي خزانة.. فحتى الأبواب الحديدية ليست عائقا بالنسبة لهم.. إنهم يملكون أيضا جواهر وألماس.. ولو أنهم مسرورون، فيمكن أن يعطوك ملء حقائب من الجواهر.. وهم يكونون معك في لحظة.. وفي اللحظة التالية يكونون في كلكتا.. '
تساءل حميد ثانية هؤلاء الجان لابد أن يكونوا مخلوقات ضخمة؟"
أجابه محسن بأن كلا منهم يطاول عنق السماء.. ولكن عندما يريد يتحول إلى كائن أصغر من أن تراه.
سأله حميد كيف يمكن أن نراهم؟ لو علمني أحد السبيل إلى ذلك فسوف أفعل ذلك؟
أجابه محسن إنني لا أعرف السبيل إلى ذلك.. ولكن السيد شودري يسخر الكثير من الجان.. وعندما يكون هناك حادث سرقة، فإنه يستطيع أن يكشف اسم السارق.. ذلك اليوم عندما سرق اللصوص جارنا جومراتي.. ظل يبحث في كل مكان.. ولما فشل في العثور عليهم ذهب إلى شودري صاحب.. فأحضر الجان وعرف منهم كل شيء.. الآن فقط عرف حميد لماذا يمتلك شودري صاحب كل هذه الثروة.. ولماذا ينال كل هذا الاحترام من الجميع..
واصل الجميع سيرهم.. وصلوا إلى نقطة الشرطة. جميع رجال الشرطة يصطفون هنا.. في الليل يكون على هؤلاء المساكين أن يقوموا بدوريات ليلية، وإلا ستقع حوادث سرقة في المدينة.. هذا ما يفهمه حميد.. ولكن محسن ناقض ذلك.. " إنهم هؤلاء رجال الشرطة يقومون بدوريات ليلية! إنك تعلم الكثير! إنهم هم الذين وراء
حوادث السرقة.. وهم الذين يحمون كل أنذال ولصوص المدينة.. فعندما يحل الليل يعطون الإشارة للصوص ليشرعوا في السرقة ويذهبون هم إلى أماكن أخرى، ويصيحون بأعلى أصواتهم "من هناك؟ من هناك " هكذا يصبحون أثرياء.. إن عمي، يعمل رجل شرطة في أحد أقسام الشرطة.. ويتقاضى مرتبا شهريا يبلغ عشرين روبية.. ولكنه يرسل إلى أسرته خمسين روبية شهريا.. أقسم بالله وعندما سألته ذات مرة من أين يحصل على كل هذه النقود ضحك وقال " إننا نحصل عليها بركة الله يا بني.. ولو أننا نريد لكان في إمكاننا أن نحصل على آلاف الروبيات يوميا.. ولكننا لا نأخذ إلا القدر الذي يجعلنا نحيا حياة كريمة، وفي الوقت نفسه لا يكلفنا فقدان وظائفنا.
ساله حميد ولو أنهم وراء السرقات.. أليس من الممكن أن يقبض عليهم.. شعر محسن بالشفقة نحو حميد لجهله البين.. ومن الذي سيقبض عليهم أيها الساذج.. إنهم هم الذين يقبضون على الناس.. ولكن الله ينزل بهم عقابه.. فكل ما يكسبونه حراما يضيع هباء.. فمنذ فترة قصيرة شب حريق هائل في منزل عمي.. أتي على كل شيء في المنزل.. حتى أنهم ظلوا ينامون في العراء لأيام طويلة.. أقسم بالله.. في العراء.. حتى اقترض عمي من مكان ما مائة روبية ليشتري بها ما يحتاجون
سأله حميد: المائة روبية أليست أكثر من الخمسين؟ ضحك محسن وقال: المائة روبية تختلف تماما عن الخمسين.. فالخمسون روبية يمكن أن تضعها في حقيبة أما المائة فربما لا تكفيها حقيبتان...!
وأخيرا.. وصل الجميع إلى ساحة الاحتفال.. أشجار التمر هندي تظلل المكان.. الأرض مفروشة بسجاد الصلاة.. المصلون يقفون في صفوف متساوية، الصف وراء الأخر إلى أبعد ما يمكن أن يمتد إليه البصر.. وعندما يفد مصلون جدد يصنعون صفا جديدا.. وهكذا.. لا اعتبارات هنا لأصحاب المناصب العليا.. أو الثراء.. الوقوف في الصف الأمامي ليس معناه السمو في المكانة أو الغنى.. . الجميع سواء في الإسلام.. الوافدون من القرى أيضا.. يتوضؤون وينضمون لصفوف المصلين.. منظر مهيب؟؟ ما أروع النظام الذي يلتزمون به وهم يصلون.. آلاف الرؤوس تنحني في خشوع.. ثم ترفع مرة أخرى.. الجميع يركعون ويسجدون معا.. يكادون في دقتهم والتزاماتهم يبدون مثل آلاف المصابيح الكهربائية التي تضيء ما إن تضغط على الزر.. وتنطفئ ما إن تضغط عليه مرة أخرى.. يا له من منظر خاشع.. رائع.. يملا القلب بالإيمان والفخر والفرحة.. كل هذه الجموع الغفيرة بدت وكأنها اجتمعت على روح واحدة من الأخوة...
انتهت صلاة العيد.. وتفرق الجميع.. راحوا يتعانقون ويهنئون أحدهم الآخر.. وجاء وقت الشراء.. بدأ الهجوم على متاجر اللعب والحلوى.. والأراجيح والألعاب.. هرع محمود ومحسن ونور وسامي نحو الحصان الخشبي.. ركب كل منهم دورة واحدة مقابل بيسة واحدة.. وقف حميد بعيدا يرقبهم.. فهو لا يملك سوى ثلاث بيسات..
نزلوا جميعا من الأراجيح.. وجاء دور شراء اللعب. عدد هائل من المتاجر.. ماذا ينفقون؟ اللعبة الواحدة ثمنها بيستان.. وحميد لا يمتلك سوى ثلاث بيسات.. لو اشتري لعبة واحدة لن يبقى معه سوى بيسة واحدة.. إنه لا يستطيع أن يشتري هذه اللعب الغالية.. ثم إنها في النهاية ليست سوي فخار مطلي بالألوان.. فلو وقعت من يديه ستتحطم. ولو سقط عليها بعض الماء سيزول لونها.. ماذا سيفيده، إذاً لو اشتراها إنها عديمة الفائدة.. هكذا قال لنفسه.. ولكن روحه كانت تتوق للعب بها.. أو حتى ضمها بين يديه لدقائق معدودة.. اشترى كل من أصدقائه لعبة مختلفة وراح كل منهم يتباهي بلعبته.. ولما أخبرهم حميد أنها عديمة الفائدة ويمكن أن تتحطم في أية لحظة.. ضحكوا على تعليقه طويلا..
انتقل الجميع إلى متاجر الحلوى.. واشتروا جميعا ما يريدون منها.. إلا حميد.. فهو لا يملك سوى ثلاث بيسات.. أخذ أصدقائه يغيظونه بما اشتروه من حلوى.. أخبرهم حميد بأن أكل الحلوى ليس صحيا.. وأن الحلوى تسبب أمراضا كثيرة.. هكذا يقول الكتاب.
بعد متاجر الحلوى.. يوجد العديد من متاجر الأدوات المنزلية.. لا يقف أمامها الكثيرون يوم العيد.. لا شيء فيها يجذب الأطفال.. لذلك مرّوا جميعاً من أمامها مرور الكرام إلا حميد وقف ينظر إلى ما يحتويه المتجر.. وقع نظره على ملقطة خشبية تذكر أن جدته لا تمتلك واحدة.. وعندما تخبز، دائما تحرق يديها.. تخيل الفرحة التي يمكن أن يرسمها على وجهها عندما ترى الملقطة الخشبية.. نظر إلى الثلاث بيسات التي يملكها.. ماذا يفعل.. هل يشتري لعبة؟ وماذا لو وقعت منه وتحطمت؟ هل يشتري حلوى؟ إنها تتسبب في تسوس الأسنان وظهور الحبوب على الوجه.. أما لو اشتري الملقطة.. من المؤكد أن جدته ستغرقه بدعواتها.. ودعوات الكبار حتما تصل إلى السماء أسرع من دعوات الصغار اشتري حميد الملقطة الخشبية.. وبالطبع لم يسلم من تعليقات أصدقائه الساخرة.. بحلول الظهيرة.. عاد الجميع إلى القرية.. ذهب كل طفل يحكي لرفاقه عما فعل في ساحة الاحتفال.. دخل حميد إلى جدته.. احتضنته في شوق.. سألته.. ماذا اشتريت يا حميد؟ عندما رأت الملقطة الخشبية ثارت ثائرتها.. هذا الصبي الأحمق.. لم يأكل أو يشرب أي شيء طوال النهار.. لم يشتر أي لعبة.. وبماذا عاد من ساحة الاحتفال..
ملقطة خشبية.. نظر إليها حميد وفي عينيه نظرة ذنب.. قال لها جدتي.. إن أصابعك تحترق كلما تخبزين.. وذلك يحزنني كثيرا.. لهذا اشتريت لك هذه الملقطة الخشبية. تحول حنق الجدة إلى شفقة، هذا الصبي المسكين حرم نفسه من كل شيء من أجل جدته لابد أنه تعذب كثيراً حتى يمنع نفسه عن كل ما يمكن أن يمتع صبيا مثله حتى يسعد جدته.
في هذه اللحظة تحولت الجدة أمينة إلى الطفلة أمينة والطفل حميد إلى الرجل المسئول البالغ.. ضمته بين ذراعيها.. وأغرقته بدعواتها.. ودموعها راحت تنهار عليه.. ولكن حميد لم يفهم سبب هذه الدموع.
[1] - المؤلف: بريم جاند، أعظم كاتب وأديب في الأدبين الأردي والهندي، حظي بشهرة أسطورية في الهند، توفي
المترجم: بروفسير جلال السعيد الحفناوي – رئيس قسم اللغة الأردية – كلية الآداب – جامعة القاهرة – مصر