قصص قصيرة جداً
بقلم: وفاء عبد الرزاق[1]
لندن
(ظِلٌّ)
لمْ يكُنْ ظِلُّه الدَّليلَ المُستعصِيَ علَى أبلَهٍ... هُنا رجلٌ تشظَّى سواداً حينَ انتحرَ البياضُ. وهُناكَ نحاسٌ لا يَصلحُ لظِلٍّ. بينَ هُنا وهُناكَ تَعكَّرَ كُلُّ شَيءٍ، كُلُّ شَيءٍ فِي طريقِ المُشاةِ تَعكَّرَ حينَ تَهدَّمَ الجِسرُ.
(عَبَثٌ)
عَبَثاً تُحارِبُ الأُسُودَ، الذِّئابَ، وعَبَثاً تتظاهرُ لِنَيلِ الحقِّ ما تعلو فِي السَّماءِ ليستِ الغيوم، بلْ غابة صراصيرَ، مِنَ المُفترَضِ أنْ تكونَ تحتَ أقدامِنا... كُلُّ شَيءٍ جائعٌ، حتَّى غيومُنا الانيِّة هطلتْ لتأكُلَ الفضاءَ المُعَطَّرَ بفضيلتِنا... ما تستوطِنُ فِي السَّماءِ، ليستِ النُّجومَ، رؤوسُنا المُتَوَّجة بِحكمةِ الربِّ.
(طِفْلةٌ، وَقَبْرٌ)
قبلَ أنْ يَمضِي خيالُها، راقبَتْهُ، كانَ مَضمومَ اليدَينِ مُهَيَّئاً للاحتِضانِ... يانِعَةٌ نظرة الأُمِّ التِي ودَّعَتْ قبرَ ابنتِها، كانتِ العائلة حولَها حينَ التهمتِ النّارُ الجباهَ. بقيت صورة مِنها؛ طِفلة الخامِسةُ، بعينِ أُمِّها كُلَّ شروقِ شمسٍ، تأتِي إليها لِيُضيء القبرُ الخيوط الذَّهبيَّة فِي المُروجِ.
(الصَّرخَةُ)
صَرْختُهمُ المُدويِّةُ، ستركنُ إلَى الصَّمتِ قريباً.
لِكَي تخافَ العاصِفةُ، علَى البَرقِ أنْ يأتِي قبلَ الرَّعدِ وبعدَهُ.
ما يطوفُ حولَ النَّخيلِ، صارَ ثعابينَ مِنْ أجلِ أنْ يسودَ العَمَى.
سَتبقَى الأرضُ لهمْ، ونحنُ،
الغُرباءُ.
كمْ هوَ نبيلٌ هذا الخُبزُ الشَّقِيُّ، مِثلَ وَمْضةٍ سكرانةٍ، يتعجَّلُ فِي تحاياهُ ويُغادِرُنا.
الصَّفْوَةُ
(الصَّفْوَةُ)
استبدَلوا الجواسيسَ بِالمليشياتِ، والدِكتاتورَ بِدِكتاتوريينَ.
الخَدشُ الذِي أصابَ الشُّرفةَ، هوَ ذاتُهُ الذِي أصابَ البابَ... الظَّلامُ لا يحتاجُ إليهما، لأنَّهُ يتغلغلُ فِي الهواءِ.
لا زَوجاتٍ، لا أطفالَ، اليدُ النّاعِمَة شُبهةٌ. والخدوشُ تَقتفِي أثَرَ الشَّرارةِ التِي تَرسِمُها اليَدُّ؛ ثُمَّ تَحرِقُها.
تِلكَ هِيَ الصَّفوةُ المُختارةُ، مِنَ العَرشِ الأعظَمِ.
(إجازَةٌ)
الآهَة طويلةٌ، لكَنَّ اللحظة فِي إجازةٍ.
الحديقة الفاتِنَة فِي إجازةٍ.
سُرِقَتْ،
الأنْهارُ، اقتُطِفتْ، الأشجارُ مُجرَّدُ تماثيلَ عُرِضَتْ للبيعِ.
واللحظة فِي إجازةٍ.
(ذاتَ لَحْظَةٍ)
مُنذ أنْ كُنتُ فِي خَفَقاتِ القلبِ البُرتُقاليَّةِ، قالوا سَتُزهِرُ البراعِمُ.
أصبحَ الشَّتاءُ جَلّاداً، ومَرِضَتِ المَواسِمُ... كانَ ذلكَ بعدَ عشرةِ قيودٍ أُخرَى جَنزرَتْ خَفَقاتِ القلبِ.
...
ذاتَ لحظةٍ، دَخلتُ مَقبرةً، كانتْ يَديَّ حَنجرةً، وصَوتِي خَليَّةٌ!
طرقتُ باباً مُتَوَهِّمة أنَّهُ مدينةٌ.
لمْ تكنْ عقارِبُ السّاعةِ مِزماراً، ولمْ أكُنْ أنا سِوَى صَريرِ صُندوقٍ بالٍ.
ذاتَ...
ذا...
تَ...
تَجَزَّأ كُلُّ شَيءٍ
وأصبحَتْ "ذا" تُشيرُ إلَيَّ بِحِزمةِ عصا
و "ت" تَوسَّلتُها، لتُعطينِي هَويةَ "الذّاتِ" المَمْحِيِّةِ.
لَكِنِّي لمْ أنَلْ سِوَى إثْمَ الفراغِ.
وَجْهٌ
(وَجْهٌ)
شَيءٌ ما فِي هذا الوَجهِ، شَيءٌ يُشبِهُ صَحوةَ الخيزرانِ علَى جَسَدٍ رَخْوٍ، أشياءٌ تلمعُ ألوانُها الحمراءُ مُختبئة فِي حُفرةِ فِي الخَدِّ، بَعدَ هَرْسِ أضلاعِ بَريءٍ.
شَيءٌ ما فِي هذا الوجهِ، كُلُّ شَيءٍ فيهِ إلّا الشَّرفُ.
(مُرُوْرٌ)
حَرَكة السَّيرِ تَغسِلُ ملابسَها المُلطَّخة بالأغبِرَةِ... تغسل الماضي العالق بأسمالها، الحاضِرُ الذِي أنكرَتْهُ الزَّحمةُ، المُستقبلُ بِالكادِ يُهيِّئُ نفسَهُ لِيلتصقَ بِالحوائطِ المُبهَمةِ. بينما النُّورُ يتضاءلُ... يَتَضاءلُ... ويَتخشَّبُ... ثَمَّة قِطعة خَشَبٍ طافية فِي النَّهرِ لا تَعكِسُ شكلاً.
(صِفَةٌ جَدِيْدَةٌ)
فِي العَتمةِ كُلُّهمْ يكذِبونَ، فِي النَّهار دَوّامة كَذِبٍ تَدوووو... ووووور... مُنزلِقةً فِي العَتمةِ القُصوَى.
هكذا حينَ يُعلِنُ البَعوضُ عنْ هَيبتِهِ فِي الليلِ.
الطَّحالِبُ تنمو بِعنادٍ؛ وتُعلِنُ عنْ رَجمِ كُوخٍ تَعَرَّى وكفرَ بالجوعِ.
(شَجَرَة الحاضِرِ)
تدفَّأتْ أغصانُها.
بأيةِ شمسٍ تدفأتْ أغصانُها، لِتعكسَ ضوءَ الرؤوسِ المُتدليَّةِ؟
الثِّمارُ النّاضِجةُ، أليستْ صالحة لليقظةِ؟
الشَّجرة العِملاقة سكرانُ قمرُها، والليلُ إلهٌ مريضٌ.
كُلُّ شيءٍ نائمٌ إلّا العتمة التِي شرَّعَها إلهٌ مريضٌ.
[1] د. وفاء عبد الرزاق: هي كاتبة وشاعرة عالمية وروائية فذة، رشحت لجائزة نوبل عددا من المرات لمساهمتها المتميزة في الأدب العربي بشتى أجناسه وإثرائها للثقافة العربية بشكل عام سفيرةً للسلام الدولي؛ تتراوح إبداعاتها بين القصة والرواية والشعر، فصدر لها ١٤ ديوانا في الشعر الفصيح و١١ ديوانا في العامية العراقية، و١٢مجموعة قصصية و١١ رواية. ومن أهم إنتاجاتها الأدبية: بيت في مدينة الانتظار، وتفاصيل لا تسعف الذاكرة، والسماء تعود إلى أهلها، والزمن المستحيل، وأقصى الجنون، والفراغ يهذي، وحاموت، ورقصة الجديلة والنهر، ودولة شين ورواية - آن وغيرها من الروايات.
تناول النقاد والكتاب والباحثون مؤلفاتها نقدا وتحليلا، وأقبل الباحثون على كتابة رسائل الدكتوراه والماجستير حول منجزها الأدبي في جامعات عربية وأجنبية، ويتجاوز عدد الأطاريح في الجامعات العربية والعالمية عن أعمالها مئة وخمسين أطروحة، واختير عملها في ٤٤ جامعة كمادة دراسية أيضا، وقد نالت أعمالها جوائز عالمية وترجمت إلى اللغة الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والكردية، والإيطالية، والفارسية، والألمانية والأمازيغية والأردية.
أسست المبدعة وفاء "المنظمة العالمية للإبداع من أجل السلام" ويقع مقرها الرئيس في لندن ويزيد عدد مكاتبها على ٤٣ مكتباً في مختلف دول العالم، ومن بين أهم الجوائز التي حازتها وفاء، جائزة الأوسكار للسيدات الرائدات، الذي تنظمه جمعية ثقافات بلا حدود، بشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للفنون عام 2019، وجائزة أميرة الإبداع العالمي من المؤسسة الدولية للسلام والمساواة في كندا 2019، واختيرت لمنصب فارسة السلام الإنساني من المجلس الأكاديمي العالمي للسلام 2019، وكرمت ضمن أفضل 100 شخصية مؤثرة في الشرق الأوسط في الأدب العربي من طرف اتحاد منظمات الشرق الأوسط للحقوق والحريات، مصر 2018