بين عدوى الفيروس وعدوى الكراهية
(القصة الفائزة بالجائزة التشجيعية الأولى في الفئة الثانية، فئة الماجستير، في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
نعيم أختر *
كان اليوم مشمسا وبدت كتل السحب البيضاء كجبال القطن المعلقة في الفضاء وأشعة الشمس زادتها جمالا وبهاءً ورونقاً، وهبت نفحات النسيم مبشرة بقدوم موسم الربيع، وكان كل شيء تقريبا على ما يرام إلا ذلك الضجيج القادم من جموع الناس أمام دار السينما في تلك المدينة الظالم أهلُها.
عصبة من الناس كانت تحيط بولد وتضايقه، وتستجوبه في همز وغمز، الولد يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، نحيف، ليس بالطويل ولا بالقصير، أسمر اللون، شعره فاحم كالليل المظلم، عيناه سوداوان لماعتان، يرتدي قميصا (يسمى "بنجابي") وسروالا (بيجاما) وفوق رأسه قلنسوة بيضاء، من مظهره يبدو ذا حسب كريم، ساذجاً، بريئاً، وعلى ظهره حقيبة مدرسية وفي يده حقيبة أخري مملوءة بالأغراض المدرسية ولكن كان أمامه جماعة من الذئاب في أجسام البشر، وكانوا يضايقونه.
– " ما في يدك يا نجس! وما اسمك هه!"
– " آسف جدا، أنا أسامة، وفي يدي بعض الأغراض المدرسية (وهو يرتعش من الخوف)
– "آه، إذن اسمك أسامة، هههههههههههه! بن لادن! ماذا تفعل هنا، يا إرهابي!" (عبست وجوه الجماعة)
وصُدم أسامة، لا بهذه المحادثة الغريبة والمرعبة فحسب، بل بسبب التغير الفجائي المباشر في وجوه الذين هددوه بشراسة، فاقشعر جلده، وسرى الخوف إلى أحشاء بدنه.
لم يكد يفهم أسامة، لماذا تغير لون وجوه الرجال! أهو بسبب كونه موجودا في ذلك المكان أم لخطأٍ صدر منه–ولكن هو مـتأكد جدا أنه لم يفعل شيئا - لم يعاملهم بسوء – أم أن ثيابه استفزتهم! هو لا يعرف بالضبط.
ما سمع أسامة هذا اللفظ "إرهابي" إلا مؤخراً عندما كان في بيته في إجازة الصيف عام ٢٠٠١م. وقد سمع مرة من إخوانه أن هناك حادثة تفجير كبيرة وقعت في دولة غربية، والمتهمون الرئيسيون بارتكابها هم من المسلمين كما زعمت الدولة.
ومن ثَمّ شنت تلك الدولة حملة عسكرية وإعلامية على البلدان التي كان المتهمون ينحدرون منها، ثم شُنت حملات ودعايات عالمية واسعة ضد المسلمين عامة والدول العربية خاصة بتهمة الإرهاب، فعانت دول العالم الثالث من غطرسة تلك الدولة التي أتت على الأخضر واليابس ولا سيما الدول العربية والإسلامية والمسلمين جميعهم في كل أنحاء العالم: أفغانستان دمرت، العراق خربت، ليبيا حطمت، وحولت سوريا إلى جحيم، أما اليمن فحدّث ولا حرج، أحيلت اليمن إلى عصر الحجارة.
ولم يكن يعرف أسامة أن في الدولة التي يعيش فيها وباءً ينتشر بسرعة أسرع من الضوء، وهو وباء الحقد والكراهية ضد الأقليات وهو يقض مضاجعه الآن، ولم يكد يصدق أنه يذوق مرارة ذلك الوباء قرب بيته وأمام دار الأوبرا.
وكان اليوم يوم الثلاثاء، خرج أسامة من بيته قاصدا المدرسة، ولكن الطريق بين البيت والمدرسة يمر بالسوق والمحلات التجارية وحتى دارٍ للسينما. وصل أسامة في ذلك اليوم المشؤوم إلى تلك السوق المليئة بكل أنواع الرغد والرفاهية. ونظر إلى اللوحة المعلقة أمام السينما من داخل الباص الذي ينقله من البيت إلى المدرسة. فجذبته اللوحة وما كان عليها من الصور الخلابة، فاشرأب أسامة عنقه إلى اللوحة حتى جاء قرينه وبدأ يهمس في أذنه:
– بماذا تفكر يا ولد! هيّا نذهب للسينما ونأخذ قسطا من الترفيه.
قال أسامة لقرينه بلهجة قاسية:
– صه يا لعين! أ ظننتني من الغاوين! لا والله، لا أذهب إلى ذلك المكان اللعين. فأدرك القرين أنْ لا سبيل إليه، ولكن قول سيده "...فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ" يحثه، فبادر إليه قائلا: ألا تشعر بالعطش يا أخي العزيز؟
فقال أسامة:
– بلى، ولكن لا أرى دكانا يبيع المشروب هنا للأسف (وجف حلقه بشدة العطش)، فماذا أفعل؟
– أنظر هناك دكان صغير تحت اللوحة، فاذهب، واشرب الماء، وارتو.
فذهب أسامة واشترى قنينة ماء صغيرة بعشر روبيات وشرب الماء غير مدرك أنه واقف تحت تلك اللوحة وأمام دار السينما. ثم وجد نفسه بين جماعة من المتنمرين، عليهم لباس أصفر وقد لفوا وشاحا أحمر حول أعناقهم، أبدانهم مثل أبدان الجاموس، لونهم مثل لون الغراب ولو لقيهم الغراب لسخر منهم ، وفي يد كل من هم عصا طويلة، فهاجموه بأسئلة أكثر حدة من ضربة المهند وبغمَزات شريرة أكثر طعناً من طعنة القنا، ثم أرادوا أن يضربوا أسامة، ولكن لحسن الحظ، فر أسامة فرار حمُرٍ مستنفرةٍ فرت من قسورة، والدموع تنهمر من خديه، لا بسبب سوء معاملة الجماعة به فحسب، بل لسوء حال وطنه العزيز الذي يعاني من عدوى البغض والحسد الذي هو أخطر وأشد فتكا من عدوى الفيروس. أخيرا، لجأ أسامة إلى ظل الشجرة، ثم جلس يفكر في مستقبل وطنه الأعز إليه من كل شيء، ومع ذلك هو متفائل جدا رغم كل ما حدث له وما قد يحدث في المستقبل، تذكَّر محاضرة الأستاذ التي قال فيها: "الأيام دُوْلٌ، والدهر قُلَبٌ، والليالي حبالى، والغيب مستور، نتركها على مشيئة الله ونتوكل عليه".
**********
* طالب في الماجستير، مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.
Good