الإمام الطائش
بقلم: د. طارق انور الندوي[1]
كان ذلك الحادث أليمًا ومخزيًا للغاية. أليمًا لأنه تألّمت به قلوب مئات المصلين، ومخزيًا لأنه وقع على أقدس مكان وفي أفضل شهر وأقدس يوم، وقع على منبر المسجد وفي شهر رمضان وآخر أيام الجمعة منه، الذي يسمّيه مسلمو شبه القارة الهندية بجمعة الوداع ويحترمونه أكثر من الجُمع الأخرى، حتى أنه يُعتبر في بعض الولايات الهندية يوم العطلة الرسمية.
وحسب ما جرت العادة عليه، فإن مسلمي قرية مسلم فور من مديرية هنومان نغار كانوا قداجتمعوا لأداء صلاة جمعة الوداع في مسجدهم الجامع، رغبةً منهم في التظاهر بالوحدة قدر وسعهم وتطبيقًا في حياتهم لرسالة الإسلام المتمثلة في الجماعة والحياة الاجتماعية. ولذلك بدا المسجد الجامع عامرًا ومزدحمًا في ذلك اليوم أكثر من غيره. كان الجزء الداخلي والبهو والصحن كله غاصًا بالمصلين، شيوخهم وشبابهم وصبيانهم، كأنهم خرجوا إلى المصلى لصلاة العيد وربما توجه إليه مسلمو ضواحي القرية أيضا بسبب مكانتها الاجتماعية والثقافية في نفوسهم. وربما كانوا يتمنون أداء صلوة جمعة الوداع في جماعة أكبر منها في قريتهم ويستمعون لخطبة أفضل منها في مسجدهم ويقومون بهذه العبادة المفروضة في محيط اجتماعي أكثر أمنا وأفضل روحيا منه في أحيائهم، لذلك هم كلهم أسرعوا إلى المسجد الجامع الفخم لقرية مسلم فور بنياتهم الطيبة في عدد ضخم، ضاق به المكان بما رحب واضطر بقية المصلين إلى أداء الصلوة في المدرسة المجاورة له.
عندما دخلتُ المسجد، كان الإمام يخطب والمصلون كانوا يستمعون لخطبته كأن على رؤسهم الطير. جلست وأصغيت إلى كلامه وتراءى لي في أول الأمر أن السيد الإمام قد تناول اليوم في خطبته الموضوع الأكثر إلحاحًا وأهمية للمجتمع الإنساني وكان الشباب المعاصر وحياتُهم اللاهية وانحرافاتُهم اليومية وانجذابهم كالمغناطيس إلى الهواتف الذكية واستخدامهم إياها لأغراض تافهة خسيسة وتورطهم في ألعاب الفيديو وخاصة في تطبيق دريم اليوان بشكل مهووس، ثم اختبارهم حظوظهم عليه وطمعهم في الحصول على مصادر الرزق بشكل مجاني وبالتالي انشغالهم بلعبة كالقمار، تاركين صلوة التراويح ومضيعين أعز أوقاتهم وأثمنها ربحًا وحسنةً، هذا كله كان نقاط بارزة لخطبته اليوم. وما أشدَ المجمتمعَ الإنساني-بله المجتمع المسلم- حاجة إلى مثل هذه المواضيع اليوم، لذلك بدأت انجذب إليه وتأثرت به تأثرا شديدا ووقع في نفسي مكان السيد الإمام موقعًا حسنًا. ومما يميز إمام المسجد الجامع لقرية مسلم فور من غيره هو أنه مرهف للغاية وواع جدا لمستجدّات العصر ومطلع على مشاكل وقضايا، يمرّ بها المسلمون في الهند الراهنة، إضافة إلى كونه عالمًا متخرجًا في إحدى كبريات المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية، التي يعرف متخرجوها بصلابتهم في التعبير عن الدين ومقوماته واستمساكهم الشديد بها، مهما كان الوضع ولهم فضل رائد ومشهود في نشر الدعوة الإسلامية في أنحاء البلاد من أقصاها إلى أقصاها. ولذلك يبدو حديثه مشوقًا ومفيدًا للمستمعين والمصلين.
كان الإمام يواصل الخطبة وشعرت فجأة بأنه انتقل على غير المعتاد من موضوع غواية الشباب المعاصر إلى موضوع آخر، مسّه وأثّر عليه شخصيًا، موضوعِ التقلّص التدريجي من مكانة العلماء وحفظة القرآن الكريم في نفوس عامة المسلمين، حيث صرف عنان خطابه إلى ضرورة وجود الطبقية المبرّرة في المجتمع المسلم وأراد منه وخاصة من أعضاء لجنة رعاية شؤون المسجد أن يعاملوا موظفيها وخدامَ المسجد كلاً حسب رتبته. فالإمام أرفع درجة من المؤذن، ولوكانا متفاوتين في كمية العمل. صحيح أن المؤذن أكثرُ استخداما لأوقاته من غيره في شؤون المسجد وأثقلُ مسؤولية بالنسبة لغيره، لكنه أقلُ تعبًا من الإمام فيما يتعلق بمعنويات الأمور، لذلك هو لايستحق من الأجور والرتب والعلاوات أو التحفيزات مايستحقه الإمام. ثم صرح الإمام بقوله إنه ما عومل معه في البارحة وما أعطي له من تحفيز عوضًا عن ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح هو يعتبر إهانة له ووصمة عار لأعضاء لجنة رعاية شؤون المسجد وأعلن في نفس الوقت أنه يمكن أن يتخلى عن مسؤولية إسماع القرآن في صلاة التراويح في المسجد الجامع من العام القادم.
والعجب كل العجب، بل من المفارقات المضحكة أن الإمام كان يقول ذلك اعتقادًا بأنه يجاهر بالحق ولا يخاف فيه لومة لائم ويتظاهر بأنه لا يقول ذلك طمعًا في المال بل الغرض من ذلك كله أن يعترف المجتمع المسلم بالفرق بين مكانة الإمام والمؤذن. كنت في الحقيقة سئمت كمصلٍّ مستمع للخطبة طولَ خطبته وتشتتَ أفكاره وخوضه في مثل هذه القضايا التافهة وخشيت أن يحدث أمر أو يصدر قولٌ من مصلٍّ كرد فعل على صبيانية الإمام المحترم.
وفعلا حدث ما خشيت. فما ان انتهى حضرة الإمام من خطبته وجلس على منبر المسجد، استعدادا للخطبة المأثورة، قام أحد المصلين ونقده نقدا لاذعا، بل أنّبه أشد تأنيب ورفع احتجاجه الشديد على خطبته، ثم بدأ التراشق بالكلام بين الإمام والثائر وطالت المشادة بينهما بشكل امتد سرطانُه إلى بقية المصلين، بدءاً بمن كانوا جالسين في الجزء الداخلي من المسجد، مرورًا بالحاضرين في البهو وانتهاء بالموجودين في الصحن. كنت قمت في الصحن لأداء صلوة السنة قبل المكتوبة، اذ شعرت بالفوضى والضجيج ووقوع الناسُ في حيصَ بيصَ فتفرقت الصفوف وتشرذمت وانقسم أصحابها إلى طوائف مختلفة، بعد أن كانوا كالجسد الواحد، متحدين ومتراصين، ولكن بعض كلمات الإمام غير الناضجة ثم ردّ الثائر المهان عليها جعلاهم متصارعين مندفعين، يندفع المتخلِّفُ إلى الأمام ويتقهقر المجلِّى إلى الوراء. أما الجالسون في الوسط، فهم بدأوا يخوضون في أحاديث، بعضهُم يبرر الإمامَ في موقفه ويخطئ الثائر في سلوكه، وآخرون يدافعون عما فعله المصلي وينددون بخطبة الإمام ويَعتبرون أجزاءها في غير موضعها.
احتدّ النقاشُ والصراع بالناس وتفاقم وتأخَّرت الخطبةُ المأثورة والجماعة وسيطر إحساس شديد بغياب التربية الاجتماعية ونقص الوعي بالتنظيم والتنسيق بين المصلين وأمة المصلين خاليةٌ تماما من روح التسامح والتضامن وأن هدف الجماعة والحياة الاجتماعية لم يصل إلى شغاف قلوب المسلمين وأنهم أمة مقلِّدة أكثر من أمة مبدعة وشعب، ما أشدَّه بعدًا عن الحياة العملية الاجتماعية البناءة، حتى سنحت لبعضهم فرصة للاستنتاج بأن كل ما يحيط بهم اليوم من الظروف المعاكسة وتعرضهم للاضطهاد، يرجع معظمُه إلى التقصير الذاتي الداخلي وأنهم إذا أرادوا لهم استعادة العزة والشرف والكرامة، فعليهم أولاً أن يصلحوا أنفسهم ويحدثوا في نفوسهم صلاحية التعليم الاجتماعي ويتعلموا كيف يعيش المجتمعُ المتحضر حياته الاجتماعية ويهتموا بالداخل أكثر من اهتمامهم بالخارج.
وأخيرا، بعد برهة من الزمان، سكنَ الضجيجُ وشملَ الهدوء وبدأ أذان الخطبة، تليه الخطبتان ثم أمَّ الإمام المصلين لصلوة جمعة الوداع بسلام ورَفع يده للدعاء واقتداه المقتدون وتضرعوا وابتهلوا إلى خالق الكون فيها ولكن لم يكن ليمر ذلك بسلام أيضا، فإن هذا الحادث المؤلم أثر على نفس الإمام تأثيرًا، سهَّل له المسافةَ الطويلة لوظيفته للإمام أثناء خطبته وصلاته وفرضَ عليه أن يتخذ لنفسه قرارًا، إما أن يبقى على وظيفته ويصبر على الضيم والظلم المزعومين أو يحفظ لنفسه ماءَ وجهه ويقدم الاستقالة ، مخبرًا اللجنةَ بان تُرتب للمسجد الإمامَ الجديد من اليوم نفسه وغيرَ مبال بالفتيلة التي أشعلها في خطابه المتسم بالجرءة المفرطة والمفعَّم بالحتمية غير الضرورية. فضَّل الإمام الخيار الثاني على الأول وترك المصلين يبقون على تشرذمٍ وتشتتٍ فكرًا ورأيًا ومجالَ الحديث حول هذا الموضوع مفتوحا وواسعاً.
[1] الوظيفة: اختصاصي سابق في دعم صحة الحساب، شركة أمازون، فرع الهند
عنوان البريد الإلكتروني: anwar12nadwi@gmail.com