عندما بدأت أمارات الشباب تلوح على الصبي، خطب له أبوه فتاةً من قرية مجاورة، لكن قلب جبار سقط في حب شبو، ابنة حسبا، منذ اللحظة التي رآها فيها،عائدة من البئر تحمل جرة الماء،
ذهل كأنه أصيب بسُكر لا فكاك منه، كما تفيد الحكايات: إن أميراً لمّا لمح خصلةً من شعر ذهبي تطفو فوق النهر، هام عشقاً بصاحبتها ذات الضفائر الذهبية، فأضرب عن الطعام وانزوى في علية قصره،،، لقد أصيب جبار بشيءٍ من هذا القبيل، لم يبح بشيء، لكن جسمه غدا واهناً، ولون وجهه باهتاً، وروحه تائهة شاردة،
فلما رأى الوالدان حاله تلك، تداولا أمره وتشاورا، ثم، وإن لم يخبراه مباشرة، أكدا له بأن زفافه بات قريباً، والفتاة ليست بطفلة، بل هي صبية ناضجة، إنها جهنة، ابنة شمس الله الكبرى، الفتاة الوحيدة التي يُشار إليها بالبنان في القرى الأربع المجاورة، تحمل جرة الماء الكبيرة على رأسها وتسير بها طريقاً يمتد لميلين دون أن تكلّ، كما أنها تتولى أعمال البيت جميعها منذ الآن، وإذا أتت إلى هنا، فسيجد والدا جبار، وخاصة أمه المسكينة التي شاخت، راحةً وسنداً،
لكن كل ذلك لم يُشبع قلب جبار، ولم يُهدئ روحه، فكان كثيراً ما يتنهد تنهيدات طويلة، ويلزم الصمت وينطوي على نفسه،
وذات يوم، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، استحلفته أمه أن يقول الحق، فقالها صريحة: لا يريد جهنة، بل قالها قاطعة—"إما شبو، ابنة حسبا، أو لا شيء،،، لا أريد غيرها!"
حاولا معه كثيراً، فإذا أبدى أنه يصغي لهما، بالغوا في مدح جهنة وذم شبو، واستعانا بكل ما أوتيا من تشبيهات وزخارف وصور بلاغية كي يُفهماه أن من يتزوج هكذا دون اعتبار للعرف والناس، يُذم ويُحتقر، لكن جبار، بعناده الصلد، أبى أن ينثني عن رأيه،
وأخيراً، إذ لم يجدا حلاً، ذهب غفّار العجوز، والد جبار، ذات يوم إلى حسبا ليكلّمه، لكنه عاد بعد ذلك ووجهه متغير، وعيناه محمرتان من الغضب، وقد علته كآبة تُشوه ملامحه،
وضع البندقية في الركن، وألقى الشال عن كتفه على الأرض، ثم جلس على التراب صامتاً مكسوراً،
كانت أم جبار تطعم الجمال أوراق شجرة النبق، فما إن سمعت حتى هرعت إلى العجوز،
وكان جبار يُنصت من بعيد، وقد شدّه الفضول،
فانفجر العجوز قائلاً:
"ابنٌ عاق كهذا، فالأفضل ألا يكون للمرء ولدٌ أصلاً!"
فزعت أم جبار، وأخذت تُبعد الشر عن ولدها بحركاتها المعهودة، ووضعت يدها على أنفها وقالت بخوف:
"ويلي! ما الذي جرى؟"
قال العجوز:
"ماذا عساه أن يكون؟ وماذا يُنتظر من شاب عديم الحياء والغيرة؟ ذهبت الكرامة أدراج الرياح، وسينتهي حال البيت إلى الخراب،"
عادت الأم تُبعد السوء عن ولدها وسألت:
"ويحك، ما الذي حدث؟ لماذا تقول هذا الكلام؟"
قال الأب:
"إذا كانت هذه طباعه، فلِم لم يولد في قصر خان قلات؟! أتعرفين ماذا قال حسبا؟ لم يكلمني حتى بكلمة لائقة، قال بالحرف: لا تفكر في أمر شبو، ستتزوج من يأتي بربطة من المال فيها مئتان وخمسون روبية!"
عندما سمعت الأم هذا الرقم، ارتفعت عيناها في ذهول،
فقال العجوز:
"لقد شختِ أنتِ أيضاً، قولي لي، هل سمعتِ في حياتك عن عاصفة كهذه؟ مئتان وخمسون روبية! وهل هذا شيء هيّن؟!"
"لقد فاوضتُ شمس الله في أمر جهنة، وطلب في البداية ثمانين روبية، ثم رضي بستين، وتلك الفتاة ليست بهيّنة! أما هذا النذل، فيطلب مئتين وخمسين! ثم إنكِ شختِ يا امرأة؛ قولي لي، إن كانت البشرة داكنة قليلاً أو فاتحة، فما الفرق؟ النساء كلهن سواء، عليكِ أن تنظري إلى نفعك، لا إلى لونها! ألم أبع الجمل قبل ستة أشهر فقط كي أشتري لهذا الولد بندقية؟ لن يستطيع أن يجمع مئتين وخمسين روبية طوال عمره، ومع هذا يتباهى! قولي لي، وقد بلغتِ هذا العمر، هل سمعتِ يوماً أن ثمن امرأة بلغ مئتين وخمسين روبية؟! إنهم يشترون مدفعاً إنكليزياً بهذا المبلغ!"
وكان جبار يسمع، فكتم آهاته في صدره، وتقلب على جنبه الآخر،
لم يحتمل الوالدان أن يريا ابنهما الوحيد يذوب حزنًا ليلًا ونهارًا،
قال العجوز:
"وما شأني أنا؟ لقد نضجتُ كالثمرة على الغصن، لا أدري متى أسقط! كل ما أملكه لهذا الفتى، رزقنا اليومي قائم على هذين الجملين، فإذا ذهبا، فلن يبقى له إلا أن يعمل في تسوية الحصى على طريق الإنجليز، سيقول الناس: ابن غفّار صار عاملًا بالأجرة، فهذه قسمته! وهل سأبقى جالسًا للأبد؟"
وأخيرًا، بِيعت الجمال أيضًا في سوق بَنّو، وجاءت شبو إلى البيت عروسًا لجبار،
وكانت شبو لا تخفي زهوها بأنها بيعت بمئتين وخمسين روبية مدفوعة نقدًا،
فإذا خرجت لتملأ الماء، عادت بنصف الجرة فقط، تتمايل وتتماهى،
فنصحتها جارتها "ميرن":
"هذا الدلال لا يليق، فالرجال يحبون العمل، وقد تنالين في يومٍ من الأيام ضربًا يكسر خصركِ إلى الأبد!"
فأدارت شبو عينيها الواسعتين حتى وصلت إلى أذنيها، وأشارت بإبهامها قائلة:
"أوهو! هل دفع أبي اثني عشر بيزة وعشرة روبيات فوقها كي يُرسلني إلى هنا لتُضرب؟! من يجرؤ على ملامستي؟! وما شأنك أنت؟ زوجك اشتراك بثلاث بيزات فقط،،، وإن أصبحتِ عرجاء أو مشلولة، فسيأخذ واحدة أخرى مكانك!"
كانت شبو في منتهى الدلال والجرأة!
كانت ترتدي صديريًا من المخمل الأسود مُطرّزًا بثلاثمئة زرٍ من أزرار الأصداف على خياطته،
تُدهن شعرها بالزبدة، وتُسرّحه ببلّة ماء قبل الخروج،
تغسل شعرها مرتين كل شهر،
وكانت أم جبار ترى كل هذا، وتضع يدها على أنفها متحسّرة، وتقول لجارتها:
"انظري! تزوجناها بعد أن دفعنا مئتين وخمسين روبية، لكن أي راحة جنيتُ منها؟! إنها لا تنفكّ عن دلعها ونزقها!"
قال العجوز لابنه وهو يعظه:
"إنها سِنّ الشباب، وإن لم تكسب في هذا العمر، فكيف ستدبّر أمورك؟ هل يليق بك أن تبقى جالسًا في البيت هكذا؟ كان رزقنا قائمًا على الجملَين، وقد ذهبَا في زواجك، فإن لم تعمل الآن، فهل أذهب أنا إلى الغربة لأعمل بالأجرة؟"
فاضطر جبار، وقد كتم في قلبه، أن يذهب إلى بَنّو ليكسب قوته، لكن قلبه بقي معلّقًا في قريته،
لم تمضِ على ذهابه إلى بَنّو سوى بضعة أيام، حتى أخذته لواعج الشوق لشبّو، فقام في منتصف الليل وسار عائدًا نحو قريته،
وبعد أن قطع ستة عشر ميلاً، لمح أسطح بيوت قريته على سفح الجبل وسط حُمرة الفجر الضبابية، فتوقّف،
خيال وجوه أهل القرية الغاضبة وعيون الجيران المليئة باللوم قيّد خطواته، فجلس على صخرة ينظر إلى باب بيته،
قال في نفسه: "حين تخرج شبو لتملأ الماء، سأنظر إليها نظرة واحدة،،، سأجلس عند البئر، وإن جاءت، سأتحدث إليها بكلمتين وأعود،"
لكن شبو جاءت لتأخذ الماء بصحبة اثنتين من صديقاتها،
وكان جبار يختبئ خلف صخرة على بعد ثلاثين خطوة، يراقب بقلبٍ يخفق بشدّة، لكن لسانه لم يسعه أن ينطق،
وكيف له أن يتكلم؟ فهاتان الجارتان ستفضحانه،
ظلّ جبار ينظر، وقلبه يتمزق، فيما كانت شبو تمشي متموّجة، تضحك وتداعب صديقاتها، ثم عادت،
فتنهد جبار بحرقة، وعاد إلى بَنّو،
زادت نيران الشوق في صدر جبار اشتعالاً، حين أضيف إليها زيت الغيرة،
قال في نفسه: "انظري، أنا أموت هنا وحيدًا في الغربة، وهي تعيش في لهوٍ وسرور، ولا يظهر عليها أدنى حزنٍ على فراقي! لا وفاء في طبيعة النساء!"
وبعد ثمانية أو عشرة أيام، عاد جبار من جديد يسافر ليلًا، على أمل أن يلمح شبو للحظة، أو يسرق منها قبلة،
وجلس عند البئر، ينتظر،
لكنها لم تأتِ وحدها، بل جاءت هذه المرة أيضًا مع ثلاث من جاراتها، يلعبن ويضحكن،
وكان جبار يُصغي لما تقول،
فلمست ميرن ذقن شبو وقالت:
"يا لنعمتكِ ودلالكِ! شباب القرية يفدونكِ بأرواحهم، أقسم برأسك!"
فارتسم على وجه شبو بريقُ نشوةٍ وزهوٍ بالانتصار،
أخذن الماء ورحلن،
أما جبار، فقد شعر وكأن جبلًا من الحجارة قد سقط على صدره، لكنه لم يكن يملك شيئًا،
وغُرِس في قلبه بذرة الشك،
والشكّ، ككرمة السماء، ينمو في قلب الإنسان دون حاجة إلى جذورٍ أو أساس، بل ينمو في خيالٍ محض،
ولا يمضي وقت طويل حتى يتحوّل الشك إلى يقين،
وفي القرية كثير من الشبّان الطائشين، الذين لا شغل لهم سوى اللهو، وكان من الممكن توقّع أيّ شيء من رحمان وعبّاس،
وإن لم يكن هناك أمرٌ مريب، فلماذا تتكلم ميرن بهذا الشكل؟
ولمن كل هذا الزهو والتأنّق من شبو؟
انظري إليها، لا تكترث لي أبدًا، وأنا أموت من الوجد!
وكان جبار يغصّ بمرارة دمه، ويكتمها في صدره، لا حول له ولا قوة،
فكّر في نفسه: "ألستُ هنا بعيدًا عن البيت من أجل كسب المال؟ لا يمكن أن أجمع مالًا بهذه الثمان أو العشر آنات في اليوم،"
كانت نار الشوق للعودة إلى البيت قد جعلته كالمجنون، فذات يوم، حين سنحت له الفرصة، قام بعملية واحدة،
وكان الحظّ حليفه، فلم يُقبض عليه، وجمع مئة وخمسين روبية، ثم عاد إلى البيت خلال شهرٍ ونصف،
حينها شعر والد جبار بالطمأنينة، وقال في نفسه:
"لن يموت ابني جائعًا،"
كما لا يفارق دهنُ النيل القماشَ، كذلك الشكُّ إذا دخل قلبًا مرّةً، لا يخرج منه أبدًا،
سأل جبار شَبّو:
"لماذا؟ حين كنتُ في بَنّو، كنتِ تقضين أوقاتًا ممتعةً، أليس كذلك؟"
لم تكن شَبّو عاملةً بسيطة ساذجة، بل التمعت عيناها وقالت متحدّية:
"أي متعة؟ ومع من كنت أتمتع؟"
قال جبار:
"ألم يكن في القرية رجالٌ كُثُر؟ رحمن، عبّاس،،، كنتِ تخرجين كل يوم لجلب الماء متزينة متأنقة، لماذا؟"
فقالت شَبّو:
"إن كنتُ قد نظرتُ يومًا نحو رجلٍ غريب، فليقبض الله روحي، وإن كان الاتهام باطلًا، فليقبض روح من يتّهمني!"
سألها جبار بنبرة مضطربة:
"ألستِ تخرجين مزينة لتظهري جمالك؟"
أجابت:
"ولِمَ أفعل ذلك؟ لماذا أُظهر جمالي لأحد؟ وإن نظر إليّ أحدٌ بنظراتٍ ميتة، فما ذنبي أنا؟"
سألها جبار متحدِّيًا:
"إذا، لِمَ تخرجين كل يوم بهذا التأنّق والزينة؟"
فرفعت شَبّو رأسها بفخرٍ في اعتزازها بجمالها، وقالت:
"وما عساي أن أفعل؟،،، هل ألطخ وجهي بالسواد؟،،، أنا كما أنا،"
بدأ جبار يراقب شَبّو مراقبة شديدة، فحتى إذا رأى رجلاً على بُعد مئة خطوة منها، راوده الظن أن عينيه معلّقتان بها،
مرت الأيام، وتحوّل أكله وشربه إلى عذاب،
حتى إذا ما رأى مسافرًا عابرًا في قريتهم، خامرته الشكوك أن ذلك الرجل ربما جاء يسمع بجمال شَبّو، وجاء يتحجج بشيء ليُبصرها،
باتت له القرية بأكملها مجنونة خلف شَبّو،
وفي إحدى الليالي سأل جبار شَبّو:
"لماذا كنتِ تبتسمين وأنتِ عائدة من الخارج اليوم؟"
فردّت شَبّو:
"متى كنتُ أبتسم؟"
فقال جبار:
"وهؤلاء الرجال، لماذا كانوا واقفين يتطلعون إليك؟"
فأجابت شَبّو، وقد ارتجف قلبها نشوةً بإشارة إلى فخرها بجمالها، وقالت بازدراء:
"ومن يدري؟ أنا لا أعلم،"
فقضم جبار شفتاه وقال بغيظ:
"كثيرًا ما تتفاخرين بجمالك!،،، أأقطع أنفك؟"
ضحكت شَبّو في سرّها وقالت ساخرة:
"أنفٌ اشتُري باثني عشر بيصة وعشرة روبيات!"
ثم راحت تضحك في نفسها،
غفت شَبّو، لكن النوم لم يأتِ لعيني جبار،
ناداها:
"اسمعي،،،"
لكنها لم تُجِب،
فكر جبار:
"انظري إلى كبريائها! ،،، أنا أتقلب حزنًا وألمًا، وهي تنام مرتاحة البال! كل هذا بسبب جمالها، هذا الجمال الذي ألهب عقول الفساق في القرية، فأين هي كرامتي؟ لو لم يكن هذا الجمال، هل كانت كرامتي تُداس هكذا؟،،، ما الفائدة من جمال كهذا؟"
فكر بعمق في هذه المسألة، واستنتج:
"إن لم تكن هناك كرامة، فلا قيمة لأي شيء، وهذا الجمال يراه الجميع، فأين حقي فيه؟
ما دام هذا الجمال باقيًا، فلن أجد كرامةً ولا راحة بال،"
في صمت الليل، تكون الأفكار أكثر عنفًا، فليس ثمة مئات الانشغالات التي تعيقها كما في النهار،
ولهذا السبب، فإن العابدين يتأملون ليلًا، والقتلة يرتكبون جرائمهم ليلًا، واللصوص يسرقون ليلًا، والعشّاق المحرومون يجنّون أيضًا في الليل،
فتح جبار عينيه في الظلام، وهو يتأمل في كل الكوارث التي سبّبها له جمال شَبّو،
بدت له هذه الكوارث هائلة لا يمكن احتمالها،
ولم يعد بإمكانه الصبر عليها إطلاقًا،
لقد التقط جبار السكين الحاد من تحت الوسادة، ومدّ يده في الظلام متلمّسًا حتى أمسك بأنف شبّو،
وفي حركة واحدة خاطفة،،، قطع أنفها ورماه بعيدًا،
صرخت شَبّو صرخةً مدوّية،
نهضت أم جبار من نومها راكضة،
أُضيء المصباح،
وأقبل الجيران فزعين،
كان والد جبار يسبّ ويلعن من شدة الغضب،
بينما الجيران يهرعون في تقديم وصفات للعلاج،
صرخت عجوز بصوت مرتفع:
"هيا بسرعة! اقطعوا قطعةً من لحم خروف أو عنزة حارّة طازجة—وضعوها على الأنف فورًا، وإلا تموت الفتاة!"
قالت أم جبار مذعورة:
"لكن من أين نأتي بخروف أو عنزة في هذه الساعة؟"
فردّت العجوز:
"هذا شأنكم، أنا أخبرتكم!"
كان جبار واقفًا يستمع لكل شيء،
لقد قطع أنف شَبّو لأنه أرادها أن تكون له وحده،
لا يحتمل أن تقع عليها عيون الآخرين،
كان يريدها لنفسه فقط،
بل حتى النظرة العابرة من غيره كانت تجرحه في أعماق قلبه،
ولكن حين سمع أنهم يخشون موتها،،،
ارتجف قلبه،
"ماذا لو لم نجد لحمًا حيًا طازجًا؟"
أمسك بنفس السكين الحاد،،،
وقطع قطعةً من لحم فخذه،
ووضعها على أنف شَبّو،
جُنّ الأب والأم من هول ما رأياه،
وبُهِتَ الجيران من هذا المشهد،
كأنهم أمام قصة أسطورية من الجنون،
أو تضحيةٍ لا تفسير لها سوى الألم والندم والمحبّة المتطرفة،
شبّو، بوجهها المتورم من شدّة الجرح، كانت ممدّدة على السرير تتأوّه من الألم،
وجبّار، وهو يلفّ ضمادةً على فخذه، كان جالسًا على طرف السرير يطرد الذباب عن وجهها بصمتٍ حزين،
كان وجه شبّو منتفخًا حتى بدت ملامحها غائبة،
بل حتى ابتلاع رشفة ماء كان مؤلمًا،
وفوق كل هذا،،، الحُمّى لا تفارقها!
حين رأى جبّار حالتها، قرّر أن يأخذها إلى مستشفى "بَنّو" البريطاني للعلاج،
مع أنه بالكاد يستطيع المشي بنفسه،
لكنه في ليلةٍ هادئة، بعد أن نام الجميع،
حمل شبّو على كتفه، وأخذ عصاه في يده، وسار نحو بَنّو،
كان يمشي قليلاً ثم يستريح،
ويُبلل قطعة قماش ويقطّر قطرات الماء في فم شبّو اليابس،
وبعد خمسة أيام من المعاناة، وصلا إلى مستشفى بَنّو،
وهناك، وبعد عشرين يومًا،
بدأ جرح شبّو يلتئم، وتحسّنت حالتها شيئًا فشيئًا،
غياب الأنف يسبّب خللاً في الصوت،
فالصوت يخرج أغلبه من فتحات الأنف، مما يجعل النطق ممدودًا رخوًا كالحرف الأنفي الطويل،
وفي ذلك الصوت المشوّه، همست شبّو قائلة:
"المِس (السيدة الأجنبية) تقول إنه يمكن إحضار أنف مطاطي من إنجلترا،"
ارتبك جبّار وقال فورًا:
"لا، لا داعي لذلك،،، نحن لا نحتاج لأنف،
أنت جميلة هكذا بدون أنف،
ولستُ أريد أن يرى أحدٌ غيري أنفك!"
أحزنت هذه الكلمات قلب شبّو،
امتنعت عن الأكل
أصيب جبّار بالذعر—مصيبة حقيقية!
فكّر في نفسه:
"بئسًا لهذه السيدة، أنا قطعتُ أنفًا واحدًة،
وهي الآن تريد أن تُحضِر لها أنفًا جديدًة!"
وحين مرّ يومان دون أن تضع شبّو لقمة في فمها،
لم يجد جبّار بدًا—ذهب إلى الطبيب،
ودفع أربعين روبية ثمنًا لأنف مطاطي يُجلب من إنجلترا،
لكن بشرطٍ واحدٍ فقط:
"شبّو ستلبس الأنف،
لكن إذا نظر إليها رجلٌ غريب نظرةً طويلة،،،
فلتخلعه فورًا وتضعه في جيبها!"