الحب الأعمى
(القصة الفائزة بالجائزة التشجيعية الثانية في الفئة الثانية، فئة الماجستير، في المسابقة الوطنية للقصة القصيرة 2022 التي عقدتها مجلة قطوف الهند)
عبد الرقيب *
ذات يوم لقيت صديقي مساء مع اشتداد الحر بعد أن انتهي امتحان المدرسة في أوائل شهر مايو، وناقشت معه فكرة السفر في العطلة، وقررنا الذهاب إلى دار جيلينغ للنزهة وأمضينا الليل منتظرين طلوع الشمس.
كانت الساعة الثامنة صباحا، خرجنا معا من البيت حتى وصلنا إلى محطة مالدة وكان المسافرون يتدافعون بعضهم البعض ويهرولون مضطربين كأن إسرافيل نفخ في الصور، وبعضهم كانوا هادئين مطمئنين، فاصطفوا أمام مكتب التذاكر لشرائها، وبعد أن شروا التذاكر، جلسوا ينتظرون القطار كما ينتظر الحبيب حبيبته، ويتجاذبون أطراف الحديث وسط ضوضاء وغوغاء بائعي الجرائد والمسافرين، وبينما هم كذلك وصل القطار إلى المحطة، فوجد الناس مرامهم وحصلوا على ما كانوا ينتظرونه من وقت غير قليل، وكنت واحدا منهم فركبت القطار وجلست مطمئنا في إحدى عرباته بجوار النافذة، ثم سمعت أصوات البائعين "الشاى الحار" و"الرسغولا الطازج" و"المانجو" فتناومت ثم تحرك القطار حتى توقف في محطة "شمسي" فدخلت في غرفتنا بنت ترتدي لباسا جميلا فاخراً وعلى صدرها خمار، وفي يدها عصا وعلى عينيها نظارة سوداء، وكان شعرها طويلا كثيفا أسود عليه زيت عطري يفوح مثل الصندل فجلست أمامي بجوار النافذة وأخذت تفكر كأنها في عالم الأحلام، فنظرت إلى الساعة راجيا أن يتحرك القطار قبل أن ينضم إلينا مسافر جديد، تحرّك القطار بعد قليل، إذ بالشاب دخل مقصورتنا مهرولاً ومرتعشا أخذا أنفاساً طويلة بسرعة، كان قد لبس العمامة فوق رأسه، وجلس قريبا من مقعدي محتارا بعض الشيء، بعد حين قلت له، أين تقصد؟ لم يجب ورآني في حيرة واستعجابٍ، بعد برهة، أسند رأسه إلى الوراء ممدا رجليه وقال متوجها إليّ ...قبل أيام طويلة جدا، كان أبي عاملا، فصرت عاملا، لو كان أبي أهل الثروة لكان ابنه (أنا) غنيا، لما مات أبي، ترك ثروة قليلة تاركا وراءه زوجته وطفليه. وقال إن في قريته عمالاً كثيرين والأعمال قليلة، وإنه بدد كل ما يملكه وصار فقيرا، والآن قد يضطر إلى سؤال الناس، وإنه قلق إزاء هذه العاقبة السيئة، والعاقل لا يحب إلا نفسا أبية والكسل مفتاح الفقر، خلال هذا التحدث غلب عليه النعاس ونام فاغراً فاه.
ولم يزل القطار يواصل سيره حتى توقف في محطة "بارسوئي" في ولاية بهار فدخل مقصورتنا ولد شاب ضرير، أسمر اللون، طويل القامة، لابسا لباسا جديدا وحاملا في يده عصا، فساعده شيخ عجوز وأجلسه بجوار الفتاة التي جلست أمامي ووضع عصاه تحت المقعد، وما إن جلس الشاب مطمئنا حتى بدأ يغني بصوت خفي، وكان يحرك عينيه يمينا وشمالا كما تتمايل الورقة تحت تأثير العاصفة، فضحكت الفتاة له بصوت خفي، سكت دقيقة ثم التفت إلى الفتاة وقال لها: ما اسمك؟ بابتسامة منقبضة وحمرة الخجل أجابت: رحيمة من "مالدة"، وسألت: ما اسمك؟ جارك ريحان من "بارسوئي"، هكذا اقترب منها وبدأت سلسلة الأحاديث بينهما، وظلا يتحادثان لوقت طويل والشاب يتمتع بعذوبة كلامها وأناقة لهجتها ويرى جمال وجهها ورشاقة بدنها بعين القلب، فوجد نفسه تقع في حبها وقلبه يذوب شوقا ولهفة إليها، لم يمض الوقت القليل حتى أصبحا صديقين، فأخذ ينشد أبيات عديدة في مدح صوتها العذب ورائحتها العطرة تارة، ويعض أصابعه بأسنانه تارة أخرى، ثم فرك أصابع يديه ورجليه اليمنى على اليسرى، لعل سرعة حبهما أسرع من سير القطار.
فجأة سمع صوت البائعين واشترى مأكولات ومشروبات، أكل نفسه وأطعمها أيضا، أصاب من قال إن الرجل لا يملك عقله وقلبه أمام المرأة والمال. فسيطرت الفتاة على عقله وأخذت زمام قلبه فوقع فريسا لحبها ولكن لسانه لم يستطع أن يكشف لها عما يضمره قلبه مخافة أن ترفضه وحبه لأنه أعمى، هكذا توالت أوقات بينهما، فحان وقت الليل واشتاق ريحان إلى شعورها فأخذه الحنين للمسها، هطلت أمطار قلبه شوقا إليها كما تهطل الامطار الخفيفة في ليل رطب، وهبوب رياح خفيف وفي غضون ذلك، وصل القطار إلى محطة فنزلت الفتاة من القطار وودعت الشاب وداعا أفطر قلبه وأدمع عينيه فأخذ الولد يتحسس مقعدها ويتأسف على نفسه، ثم قال متوجها إلي: يا ليته تستمر الرحلة للأبد، كانت جميلة وحلوة ما أجمل عينيها وما أعذب صوتها! فسألته: كيف علمت أنها جميلة، وأنت لا تبصر: أجاب: أنا أبصر بعين القلب، وأنتم تبصرون بعيونكم الظاهرة، وقرأ شعرا رائعا بالبنغالية مفادها ما ورد في الشعر العربي:
القلبُ يُدرك مالا عينَ تدركُــــــــــــــــــــــهُ
والحُسُْ ما استحسنتْه النفس لا البَصرُ
وما العيونُ التي تعمى إذا نظــــــــــــــــرَتْ
بل القلوبُ التي يَعْمىَ بها النظـــــــــــــــرُ
**********
* طالب في الماجستير، مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند.