لَمْ يَكنْ أحـدٌ في المنطقةِ يَقتربُ مِنَ الطَّائرِ الكَبيرِ اللَّطيــفِ الذي يُعــرفُ بـِـ «مالكِ الحَزين» لاعْتقادهمِ بِأنَّ الحُزنَ المَقرونَ بِاسْمهِ هوَ مَرضٌ مُعدي، وَكلُّ مَنْ يَقتربُ مِنهُ يُصابُ بِالحُزنِ مِثلهِ، لِذلكَ كانَ هَذا الطَّائرُ يَعيشُ وَحيدًا وسطَ أنواعِ طُيورِ مِنطقتهِ التي تُقاطعهُ!
في أحَدِ الأيامِ بَينما كانَ «مالكُ الحَزين» يَقفُ عَلى ضِفَّةِ البُحيرةِ يَصطادُ السَّمكَ، اقتربَ مِنهُ صَغيرُ البُومةِ وَسألهُ:
- ماذا تَفعلُ هُنا يا عَمُّ؟
فِرحَ «مالكُ الحَزين» بهِ جِدًّا، فَمنذُ زَمنٍ بَعيدٍ لَمْ يُحَدِّثهُ أحدٌ، وَقالَ مُبتهجًا ومُرحِّبًا بِهِ:
- أهلاً يا صَغيري.. أنا أصْطادُ السَّمكَ، خُذْ هَذهِ السَّمكةَ وَكُلها، إنَّها طَيِّبَةٌ.. أخذَ صَغيرُ البُومةِ السَّمكةَ وأكَلها وَسألهُ بِفُضولٍ:
- لِماذا يَبتَعدُ عَنكَ الكلُّ يا عَمُّ؟! فأنتَ تَبدو طيِّبًا جدًّا!
رَدَّ «مالكُ الحزين» بِحُزنٍ:
- الكلُّ يَعتقدُ بِأني أنقلُ لَهُمْ مَرضَ الحُزن، وَهمْ لا يَعلمونَ بِأنَّ هَذا هوَ اسْمي وَليسَ مرضًا مُعْديًا، فَرآهما أحدُ الطُّيورِ وَأسرعَ إلى البُومةِ وأخبرَها بِأنَّ صَغيرَها يَقفُ مَعَ «مالكٍ الحَزين» قُرْبَ البُحيرةِ، فَجُنَّ جُنونُ البُومةِ وأسرعتْ إليهِ وأخذتْهُ وَهيَ تُعاتبهُ بِصوتٍ مُرتفعٍ:
- لَقدْ حَذرتكَ كثيرًا مِنَ الاقتراب مِنْ هَذا المَريضِ وَلمْ تَسمعْ كَلامي.
- وَلكنْ يا أُمِّي إنَّهُ لَيسَ مَريضًا، هَذا اسْمهُ فَقطْ وَهوَ طَيبٌ جدّاً.
نَظرَ إليهما «مالكُ الحَزين» وَهُما يَبتعدانِ وَلمْ يَقلْ شيئًا، فَقدْ عانى الكَثيرَ مِنْ هَذا المَوضوعِ دُونَ جَدوى.
كانَ «الببَّغاءُ» مُختارُ المِنطقةِ لِهؤلاءِ الطُّيورِ التي يُطيعونَ أوامرهُ.. فَذهبتِ البُومةُ إلى مَجلسهِ غاضِبةً وَقالتْ:
- أيُّها المُختارُ، يَجبُ أنْ تُصدرَ أمرًا بِرحيلِ «مالكِ الحَزين» عَنَّا، فَقدْ كانَ ابْني يَقفُ مَعهُ، وَنحنُ نَخافُ عَلى صِغارنا أنْ تَنتَقلَ لَهمْ عَدوى الحُزنِ التي تُصيبهُ!
فَقالَ أحدُ الطُّيورِ المَوجودين في مَجلسهِ:
- نَعمْ أيُّها المُختارُ، مَعها كُلُّ الحَقِّ «فَمالكُ الحَزين» خَطرٌ عَلينا وَعَلى صِغارِنا، وَنحنُ مُنزعجونَ جِدًّا مِنْ وُجودهِ بَينَنا..
وقالَ آخرُ:
- لَقدْ قُلتُ لَكمْ هَذا سابقًا وَلمْ تَستمِعوا لي!
واتَّفقَ الجَميعُ عَلى إصدارِ أمرٍ عاجلٍ بِترحيلِ «مالكِ الحَزين» مِنْ مِنطقتهمْ..
وَذهَب المُختارُ «بَبَّغاءُ» مَعَ بَعضِ الطُّيورِ إلى «مالكِ الحَزين» وَقالَ لَهُ:
- لَقدْ ارْتكبتَ اليومَ جُرمًا كبيرًا وَتركتَ صَغيرَ البُومةِ يَقتربُ مِنكَ، وَنحنُ قَدْ حذَّرناكَ سابقًا بِأنْ تَبقىَ بَعيدًا عَنَّا وَعنْ صِغارِنا.. لِذلكَ قرَّرَ مَجلسُ الطُّيورِ رَحيلكَ عَنِ المنطقةِ فورًا.
كانَ هَذا الخَبرُ صَدمةً لِلمسكينِ «مالكِ الحَزين» فَقالَ:
- وَلكنْ يا مُختارُنا، هَذهِ منطقَتي وَوطَني، وَقدْ وُلدتُ هُنا.. كَيفَ أتركُها وأرحلُ عَنْها؟ وَلِماذا؟ لأنَّ اسْمي مَقرونٌ بِصفةٍ تُخيفكمْ؟ وَما الذَّنبُ الذي ارْتكبْتهُ؟!
فَقالَ أحدُ الطُّيورِ المُتعصِّبينَ:
- هَذا قَرارٌ تَمَّ الإجماعُ عَليهِ، وَعليكَ التَّنفيذُ حتَّى لا نَتخذَ أيَّ عُقوبةٍ ضِدَّكَ..
فَطلبَ مِنهمْ «مالكُ الحَزين» أنْ يُمهلوهُ يَومينِ حتَّى يَجمعَ حاجياتهِ، فَوافقَ المُختارُ.
بَعدَ يَومينِ حَملَ «مالكُ الحَزين» حَقيبتهُ وغادرَ منطقتَهُ الجَميلةَ وَدموعهُ تَنهمرُ مِنْ عَينيهِ وَهوَ لا يَدري أينَ يَذهبُ! وَعندَ وُصولهِ إلى أطرافِ المنطقةِ سَمعَ صَوتًا يَطلبُ النَّجدَةَ، فَبحثَ عَنِ الصَّوتِ وَهبطَ قُربهُ فَرأى المُختارَ قَدْ هاجمتْهُ أفْعى كَبيرةً كَسرتْ جَناحهُ، وَكانَتْ تَنوي أكلهُ، فَحملَ حَجرًا وألقى بهِ عَليها فَهربتْ.. وَحملَ المُختارَ عائدًا بهِ إلى منطقةِ الطُّيورِ، تَفاجأتْ جَميعُ الطُّيورِ وَهمْ يَرونهُ يُحلِّق في السَّماءِ حامِلاً مُختارَهُمْ، وَبعدَ أنْ أنزلهُ إلى الأرض استعدَّ للمُغادرةِ مِنْ جَديدٍ، لَكنَّ المُختارَ قالَ لَهُ:
- لَنْ تُغادرَ يا «مالكَ الحَزين»! اسْتغربتِ الطّيورِ فأكملَ حَديثَهُ:
- لَقدْ أنقذَ «مالكُ الحَزين» حَياتي وَحملني، وَكنتُ شَديدَ القُربِ مِنهُ، وَها أنا أمامكمْ لَمْ تَنتقلْ إليَّ عَدوى حُزنه، وَلا أشعرُ بِالحُزنِ بَلْ عَلى العَكسِ فأنا سَعيدٌ جدّاً.
فَقالَ صَغيرُ البُومةِ:
- وأنا لقدِ اقْتربتُ مِنهُ قَبلَ أيَّامٍ، وأطعَمني سَمكةً اصطادَها بِفَمهِ، وَمعَ ذَلكَ فأنا سَعيدٌ جدّاً بِهِ، وَلا أشعرُ بِالحُزنِ أبدًا.
فَقالَ المُختارُ «بَبَّغاءُ»:
- أنا أتنازلُ عَنْ رِئاسةِ مَجلسِ الطُّيورِ «لِمالك الحَزين» هَلْ هُناكَ مَنْ يَعترضُ؟ فأخذتْ جَميعُ الطُّيورِ تَهنِّئهُ:
- مُباركٌ لَك المَنصبَ يا مُختارَنا الجديدَ، فأنتَ تستحقُّهُ، وَعادَ «مالكُ الحَزين» لِلعَيشِ في مِنطقتهِ وَوطنهِ الذي أحبَّهُ كثيرًا.