في إحدى ضواحي مدينة تشيناي، كانت تعيش ليلى ذات الثالثة والثلاثين من العمر، وتعمل في مكتب محاماة كمساعدة محامي ترتب الملفات وتنظم المواعيد، بعدما تعاطف معها هذا المحامي وشغلها معه كمساعدة له في مكتب السكريتارية، الحقيقة أنها لم تكمل تعليمها لكونها يتيمة الأب، وهذا ما جعلها تترك مقاعد الدراسة مبكراًً، وتصبح هي المعيل الوحيد لأسرتها التي تتكون من ثلاثة إخوة، مؤخراًً، ومع اندلاع وباء كورونا مرضت أمها ودخلت المستشفى، ليتراجع نشاطها في العمل وتتأخر باستمرار عن العمل، وفي صباحات أحد الأيام وصلت متأخرة، فاستدعاها مديرها في العمل، لتتلقى منه إنذارها الثالث مهدداًً إياها بالفصل من العمل، وذلك بعد أن تراجع أداء عملها في الفترة الأخيرة، وأصبح رأسها الصغير مثقلاً بالهموم.
عادت إلى مكتبها مثقلةً أكثر بالأحزان، ولتروح عن نفسها فتحت حسابها على الفيسبوك، بالرغم من قلبها الذي يذرف دمعاً صامتاً، حزناً على أمها القابعة في المستشفى وعلى نفسها من توبيخ مديرها لها، وإذ بها تتلقى إشعاراًً جديداًً، طلب صداقة من شخص يدعى خليل أحمد، ضغطت على زر قبول الصداقة دون شعور، فهي تسبح في عالم آخر، مليء بالأحزان وجروح قلبها لا تلتئم...
فوراًً وبعد قبولها الصداقة، سمعت رنة رسالة الماسنجر، لذلك المجهول
تلقت ليلى الرسالة باستغراب؟ ولم ترد عليها.
فيما خليل على الجانب الأخر بقي منتظراًً... وانتظر لدقيقتين ليكتب رسالة أخرى.
هنا ابتسمت ليلى وهي تقرأ جملته الأخيرة، ثمّ راحت تلقي نظرة على صفحته الشخصية، وجدتها حافلة بآيات قرآنية وفيديوهات باعثة على الراحة، واطمأنّت لتلك اللّمسات الروحانية، مما جعلها تتناسى قليلا موقف مديرها، وعلت شفتيها ابتسامة خفية، وقالت في نفسها: "ممتنة لك يا خليل". وردت عليه هذه المرة بعدما غمرتها موجة من الراحة اتجاه هذا المتحدث اللبق.
فرح ابن دلهي باستقباله رداًً منها، ثم أردف القول.
رنّ الهاتف وقد امتلأت شاشته بصورة خليل الشاب، الوضئ الوجه، حسن الخلق والخلقة، فقد كان يتاجر في القماش والحرير، وهو ابن تاجر كبير في دلهي. وتناهى إلى مسامعها صوتٌ دافئ، وكلمات تفيض حنانا، أرغمها بلباقته أن تكلّمه وتسرف معه في الكلام، كأنّه شخص مألوف لقلبها، مؤنس لوحدتها منذ زمن، لقد كان خليل كالبلسم لجروح ليلى المؤلمة، وتبادلا أطراف الحديث، حكى كل منهما آماله وأهدافه للآخر، وامتد الحديث بينهما طويلا في مكالمة دامت لساعتين تقريبا، وانتبهت ليلى من أنه قد حان موعد مغادرتها للعمل.
وأخبرت خليل:"يجب أن أغادر الآن يا خليل".
قبل أن تنتهي المكالمة طلب منها رقم هاتفها، لكيلا تغيب عنه بغياب شبكة المكتب، فسردت عليه أرقام هاتفها الواحد تلو الأخر دون تردد صفر تسعة...الخ ودون أن تفكر مليا وأقفلت الخط، وبمجرد إنهاء الاتصال، رنّ هاتفها، "ليلاي اشتقت لك".
لم تكن حروف خليل مجرّد حروف عاديّة كالتي يكتبها النّاس ويتواصلون بها، كانت كومة من المشاعر اللطيفة، ولم تكن ليلى معتادة على هذه الأحاسيس، التي داعبت قلبها ولامست مشاعرها المدفونة، وسط آلامها منذ زمن بعيد، اعتادت المسكينة على العطاء فقط، ولم تسمح لنفسها أن تعيش كباقي الفتيات، تحلم، تحبّ وتتزوج، بل حرمت من حلم ارتداء فستان الزفاف كّأي فتاة أخرى، وامتلاك أسرة وأطفال.
ركض بها العمر وعبرت بها السنوات إلى الثلاثينات، لكنّ ظهور خليل المفاجئ وكلماته غيّرا مجرى حياتها، بل غيّرا نبضات قلبها، وأصبحت تطير فرحاًً، وبدا ذلك جليّاً على محياها، وصلت ليلى إلى بيتها وملامح وجهها تنبئ عن سعادتها الغامرة- على غير عادتها-.
لقد أمضت ليلى يومها بنشاط وحيويّة، وكلمات خليل ترافقها كل لحظة، وهي تداعب مسامعها منذ انتهى اتصالهما. وفجأة خافت من التعلق به، ولكنّ شيئا ما كان يدفعها نحوه بل ويجرفها إليه، فقد استطاع في مكالمة واحدة أن يلفت انتباهها ويجعلها متفائلة بل لم تعد خائفة من المستقبل.
استيقظت الفتاة المغرمة صباحاًً على رسالة خليل "ليلاي صباحك جميل كجمال وجهك وكإشراقة ابتسامتك"، ثم اتّصل بها.
لم ترد ليلى على طلبه، فقد سمعت طرقاًً شديداًً على الباب، ركضت نحوه دون أن تغلق الاتصال، فتحت الباب وقالت:"مرحبا خالتي أمّ أحمد".
احتضنتها جارتها أمّ أحمد وهي تبكي بحرقة، "حبيبتي ليلى عظّم الله أجرك بنيّتي لقد عدتُ من المستشفى للتو، أمّك سلمت روحها إلى بارئها يا صغيرتي، سقطت ليلى من هول الصدمة وأغمي عليها، فالانتقال السريع من شعور الفرح والابتهاج إلى شعور الألم والفقد أمر لا يتقبّله عقل ليلى، بعد ساعتين من غيبوبة تامّة دخلت فيها ليلى واستفاقت على هول فاجعتها بأمّها، ومسؤوليتها الجديدة، فقد أصبحت الأمّ والأب لأخوتها الصّغار.
كان الأهل والجيران حولهم، يحاولون أن يخففوا من مصابها الجلل، لكنّ ليلى كانت بحاجة إلى صوت يطمئن قلبها به وبأنّه بجانبها، يواسيها على ما تعانيه وتكابده، ويحاول أن يخفف من ألمها وعذابها بقليل من الحبّ الذي فقدته بين يوم وليلة، يشعرها أنّ حملها هو حمله، وأنّ وجعها يؤلمه كما يؤلمه، ولقد كان خليل يقوم بهذا الدور دون كلل أو ملل.
مرّت ثلاثة شهور... دون أن يغيّر معاملته معها، أحسّت ليلى أنّ الله بعث لها خليلا نعمةً في وسط الابتلاء والمحنة. أيقنت فيها أنّ خليلها يحبّها بصدقٍ ولن يتركها تكابد أحزانها بمفردها.
فعل كلّ ذلك وهو لم يرها قط، أحسّ بها وظلّ إلى جانبها دون مصلحة ينالها أو أجر يتقاضاه...مدّة قد ينساك فيها الأقارب والأصدقاء المقرّبون، لكنّ خليلا لم يكن كذلك، فقد طلب منها عنوان بيتها مراراًً لكي يأتي ويكون إلى جانبها، لكنّها لم تعطه إيّاه، فأخبرها أنّه يريدها زوجة له، ليستطيع تعويضها عما كابدته من أحزان وسألها: "هل تقبلين بي زوجا يا ليلاي؟":
أجابته في نفسها: "أقبل يا خليلي، وسعادة قلبي"، وصدق الشاعر عندما قال:
يا قَومِ أَذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا.
حقا هي قصة رائعة وجميلة، كتبت بأسلوب عربي مبين ولغة رشيقة- أهنئ الكاتب على القصة وأتمنى له المزيد من الإبداعات الشيقة.
مبارك جدا أستاذى المحترم لكتابة هذه القصة الرائعة الحلوة، قرأتها مرات عديدة وتمتعت برشاقتها ،وروعتها كل مرة أكثر من قبل بدون شك تساوى هذه القصة مستوى القصص العالمى، وتتوفر فيها جميع الشروط القصص الناجحة، نتمنى لك مزيدا من التوفيق والنجاح، وبارك الله في إنتاجاتك العلمية والفكرية والأدبية، ولا تنسنى من دعائك الصالح