المقامة الاقتصادية
بقلم: د. محمد سليم[1]
حكى خالد بن سلام قال مرّة حداني التفكير في قضايا الاقتصاد، ودفعني فضول البحث للخوض في اقتصاديات عامّة الناس والسواد. فقصدت أحد المعاهد التي تُدرس فيها مادّته، لألقى فيه صديقاً لي معروفاً في الفن بمهارته. وعندما وصلت إلى مكتب الرجل استقبلنى استقبالاً، وسألني عن حالي سؤالاً. وسلّم عليّ بتحيّة الإسلام، فرددت سلامه بسلام، ثم خضنا في الكلام، وانشغلنا بالحديث عن كل ما يجري في الأنام، وكان موضوعنا عن اقتصاديات الناس وكل ما أقاموا فيه من نظام. فسألته عن ماهية علم الاقتصاد وأصوله، وأرباب العلم فيه وفحوله.
فأجاب صديقي سائلاً ماذا تريد أن تعلم بالضبط؟ وقل كلامك في صراحة لا يكون فيها غموض ولا خبط. ولي متّسع من الوقت أتكلم فيه معك، والزمن يسعني لساعتين أتحدّث فيهما إليك. فقلت له أريد أن أعلم عن النظام الاقتصادي الرائج في العالم الراهن، أهو مبني على الخير والعدل أم هو معاب فيه وشائن؟ أم هو نوع من التّجارة يمارسها كل مخادع خائن؟ فيمتصّون فيه دماء الفقراء، ويتباهى بأموالهم المكدّسة الأمراء. ويخدع به الخادعون المساكينَ، ويعد الأثرياء أنفسهم من السلاطين، والأغنياء يتفاخرون بما ادّخروا من العقار والضياع، ويعتزون بما اكتنزوا من المال والمتاع. والوجهاء في هذه الدنيا في جنّة ونعيم، ومن سوء الحال في جُنّة وفي مقام كريم، والفقراء كأنهم على مائدة لئيم.
وقال خالد بن سلام ثمّ قلت لصديقي أهذا هو الحال كما يذكرها الرجال؟ أهذا هو الأمر كما يأتي فيه الناس بالسؤال؟ فهزّ صديقي كتفيه كأن سؤالي قد فُهّم، ورأيته يجمع شتات أفكاره وبعد حين تكلّّم. وقال يا أخي كما وصفت النظام الاقتصادي في الحاضر هو على هذه الحال، فالأغنياء يدّخرون الأموال. والقائمون على أمره معظمهم الظلمة الفاسقون، والمهتمّون بشؤونه هم المضرّون المفسدون.
وليس الأمر مقصوراً على أغنياء وفقراء في دول خاصّة، بل الأمر فاشٍ في جميع الدول بصفة عامّة. فدول العالم الثالث التي تثقل كواهل رجالها بأعباء الديون، لا تزال تئنّ تحت وطأة القروض وأفرادها يذرفون الدمع الهتون. وفي الماضي رأينا استعمار البلاد والعباد جهاراً، والاستعمار قائم حتّى الآن لكنّه قد ألقى عليه ستارا. وقد تقنّع المستعمرون بقناع مزوّر للعدل والرحمة، وتلثّموا بلثام زائف للعطف والشفقة. فالاستعمار الحديث الجاري هو استعمار الناس والعقول بالقوّة الاقتصادية، وإخضاع الناس للاستسلام لأنظمة هيئات الدول الغنيّة وممارساتها الإجبارية.
وكثيرا ما نرى الدول المتقدمة تُملي شروطاً على الدول الضعيفة، وتَعُدُّ الدولُ الغنيّةُ الدولَ الفقيرةَ سخيفة. وهذه الشروط تُلزم الدول المقترضة لأن تخضع لسلطان الدول الثريّة، فتبدأ تستنزف مواردها الطبيعية، وتنهب أموالهما بطرق واضحة وخفيّة، أو تسلب حرّيتها الاقتصادية بحيل كاشفة أو خفيّة. فتفقد الدول الضعيفة سيادتها، وتذهب عنها إرادتها، وتغيب صلابتها. وأحيانا نجد الدول المتقدمة تضرب عقوبات اقتصادية على بعض البلاد، إذا عارضت مصالحُها مصالحَ هذه الدول في شؤون الاقتصاد.
وتتساوى في هذا الأمر الكتلة الاشتراكية والكتلة الرأسمالية، وهما كتلتان اقتصاديتان كبيرتان، وكلتاهما في الاقتصاد والسياسة متنافستان عظيمتان. ولا فرق بين مناظيرهما إلا رفع الهتافات، ورفع العقيرة بالشعارات. أما العمل فهما متساويتان فيه كأسنان المُشط، وكلتاهما تنقضّان على الدول الضعيفة بالغيظ والسُخط. ونرى روسيا والصّين وغيرهما من الدول الموالية لليسار، تمارس أعمالها وفق أيدولوجية الرأسمالية في علانية وإشهار. وجميع الدول الموالية لهاتين الكتلتين تستغلّ الفقراء استغلالاً، وتغتال من هم أضعف منها اغتيالاً، وتحتال في مكرها ودهائها احتيالاً، بينما يبقى الفقراء في الفقر سنيناً وأجيالا. ولنظرة عجلى في تقارير وإحصائيات الهيئات العالمية، تُظهر لنا الحقيقة الجليّة. وهي أن الفقراء في العالم كله يزدادون فقرا، وتزداد أراضيهم قفرا. فهم لا يستطيعون شراء التقاوي والسماد، ولا يجنون المحاصيل الزّراعية أيّام الحصاد. وأمّا الأغنياء فيزدادون ثروة، وتزداد أملاكهم قوّة.
وقد بدأ المال يتكدّس في أيدي أشخاص قلائل، وهذا يجرّ لعامة الناس ضنك العيش والغوائل. والتّجار الكبار يحتكرون الأشياء الضرورية اللازمة، وإذا نفد في الأسواق وجودها فيبيعونها بأثمان غالية باهظة. وبذلك تكون هي كالقشّة الأخيرة التي تقصم ظهر البعير، وسواد الناس يضطرّون لأن يعيشوا حياة البغال والحمير. لا عزّة لهم في الحياة ولا كرامة، ولا شرف لهم في المجتمع ولا في الموقف صرامة. ثمّ أنشد قائلاً:
لقد مضى الدهر الذي كانوا
يكرّمون فيه المحتاج والفقير
وانصرم الزمان الذي لم يكن فيه
فرق بين أهل الحرير وغير الحرير
وقد داهمنا عهد خطير
يظنون المعدم فيه مثل الحقير
وهل نسي الناس أن للخلق أرزاقا
قسّمها بينهم الخالق العليّ القدير
وقد ابتلاهم بغنى أو بفقر
ليخبرهم فهو العليم الخبير
وأضاف خالد بن سلام قائلاً: إن معظم الحاكمين على البلاد يتّخذون قرارات فى الاقتصاد، ضدّ الفقراء ومصالحهم ويعملون في حياد. يعطون لأصحاب الشركات الكبيرة العطايا الضّخمة، وهم يعيشون في بحبوحة من العيش وبيوت فخمة. يبيعون الأراضي الحكومية بثمن بخس دراهم معدودة، ويريدون أن يجعلوا أبواب الرزق في وجوه الفقراء مسدودة. ويخيّل إليّ أن الحكومات المحليّة الآن هي التي تستعمر بلادها وأناسها بنفسها، فهي مسؤولة عن فقر رجالها ومرضها وبؤسها.
وقال خالد بن سلام ثم رأيت صديقي يقول إن القوى المستعمرة قد انسحبت من المستعمرات في القرن الماضي، لكنها تركت وراءها نظاما للحكم الفاسد الذي هو في أقدار الناس القاضي. وقد زادت الطين بِلّة، وانحنت هامّات الرجال بالذلة، وتقوّست ظهورهم بالمذلة، وقد دهمتهم بليّة إثر بليّة. وقد بدأ يُباع كل شيء ويُشترى، ونفق سوق الأكاذيب وكلُّ ما يُفترى. وقد أصبح التعليم العام ألعوبة، ووزارة الصحة أضحوكة، وبالجملة قد أصبح للحاكمين في كل شيء أحبولة. فصار التعليم بضاعة تشترى وتباع، وأصبحت قدرات الصغار تفقد وتُضاع. ونسي الأغنياء أن للفقراء في أموالهم نصيباً مفروضاً، وعليهم أن يؤدّوا هذا الحق إلي الفقراء كاملاً محفوظا. وفي أموال الأثرياء حق معلوم، للسائل والمحروم.