القطار
زياد طارق عبد الله العبيدي
شاعر وقاص من العراق.
------------------
يبتعد القطار رويداً رويداً... تلك المدينة المشؤومه تتوارى ويتوارى معها الصخب ويحل الهدؤء شيئاً فشيئاً ..اطلالها تختفي خلف دخان الماضي وأطياف الذكريات... وضجيج عجلات القطار يعلو ويعلو... وهو ما زال غارقاً في صمته ينتظر وكأنه يحث القطار أن يبتعد أكثر وأكثر.. يحبس أنفاسه، يريد أن يستنشق الهواء النقي، ما زال صدره المثقل بسموم وهموم تلك المدينة التي كان يتمنى أن يفارقها ... رغم أن جذوره ممتده لآخر تفاصيلها ... مرت بخياله صور حاويات القمامة الصدئه..الرجال الذين أتعبتهم السنين بملابسهم الرثه وهم يسحبون عربات الحمل التي صنعوها بأيديهم ليكسبوا قوتهم اليومي بعناء كبير. الكلاب السائبة تبحث عن فتات الطعام في حاويات النفايات... الأمراض المنتشرة، شئ يثير الاشمئزاز في مدينة تغفو على دخان الحرائق حين يستحيل جمع النفايات مما يضطر البعض منهم إلى إحراقها. ما زال القطار مستمراً في الابتعاد ومع ابتعاده تقترب الأفكار والأحلام .. طَلَ ببصره من النافذة تأمل مناظر الأشجار اليابسة وهي تمر سريعا أمام ناظريه .. لم يكن موسم الخريف قد حان، ما زال يسمع صوت الناي وهو يبكي مرارة الحياة وصعوبتها كانت أمه تخبره دائما أن الخيط الذي يربط بين الحياة والموت هو رحله قد تنتشله بلحظة ما زال الوقت مبكراً لهذه الأحلام الجميلة، القطار لم يبتعد كثيراً وما زال هناك متسع من الوقت حتى يفكر جيداً في الخطوة القادمة لكنه قد عقد العزم على مغادرة تلك الأزقه المتهالكة التي تشبه الخرائب والشوارع الضيقة وهواؤها الذي يحمل رائحة العفن، كان بحاجه لهواء نقي يملأ صدره ، يفتح مسالك الرائه ويجعلها تتمدد بكل الاتجاهات... كتب في دفترة مذكراته يوما سوف أغادر . ابتسم بهدوء تناول منديله الأزرق جفف العرق من جبينه كان بحاجه لقدح من الماء وفنجان قهوة قد يساعده قليلا نهض من مكانه قاصداً عربة المطعم ما بين العربات كان الممر ضيق يشبه أزقة مدينته وبعض أبواب الغرف الخاصه مفتوحه تسمح له برؤية من يجلس بها هناك امرأة بدت مضطربه يجلس أمامها رجل مسن لمح ذلك بسرعة ومضى إلى عربة المطعم .. هناك طفل يبكي في الممر ربما كان يشكو من ألم ما أو أن اهتزاز القطار أرعبه .. تمر من امامه الصور القديمه ذكريات الدراسه ومعاناته مع المعلمين وكيف كان يتعرض للتوبيخ حين لا يكون قد أنهى فروضه المدرسية ، كل هذه الصور كانت تمر في خياله سريعاً ، وصل إلى عربة المطعم الدخان يملؤها.. لم يكن يرغب في الجلوس ذهب إلى النادل وطلب منه فنجاناً من القهوة وأخبره أنه لن يجلس سوف يبقى في الممر. كان يريد أن يتأمل هذه الحقول الممتدة عبر المسافات إلى اللانهاية ... ابتسم النادل بكل احترام وأخبره بأنه سوف يلبي طلبه سريعا.
أحضر النادل القهوة اخذ يرتشفها بهدوء وهو يتأمل المناظر التي تمر سريعا من أمام نافذة القطار ايقاع الحياة يمر سريعا الاشياء تتحرك من حوله ومازال يقف أمام النافذة تذكر حديثه مع والدته وكيف كانت تبكي بمرارة وهي تحاول إقناعه بعدم السفر ... إلى أين تمضي يا والدي إلى المجهول ما زلنا بحاجة لك العمر مضى بي والايام تعتصرني كيف يطاوعك قلبك وترحل عني انتظرت كل هذه السنين حتى أفوز بنظرة لحفيدي... اتمنى ان احمله بيدي المتعبتين .. لكن يا امي لن استطيع الزواج هنا .. لا مستقبل لي في مدينة تأكلني شيئاً فشيئاً .. لا بد لي من السفر ... لكنك ابني الوحيد لا أملك في هذه الدنيا إلا أنت بعد وفاة والدك .. أختك تزوجت وهي لا تعوض غيابك رغم تواصلها اليومي معي ... ارجوك لا ترحل ... كانت هذه العبارة الأخيرة تتردد في مخيلته يشعر بشدة وقعها عليه ويعتصر قلبه الألم لكن البقاء كان أصعب من الرحيل ... مازال القطار يصدر اصواته المزعجه والمسافرين بين من يتجول بين العربات وبين من فضل الجلوس والتأمل .. عاد إلى مقصورته والحزن يملأ قلبه بضع ساعات ويصل كان لا بد له يرمي الماضي وراء ظهره ، تلك الأفكار تشتته فضل النوم قليلا ربما يريح رأسه من طرق الأفكار وعجلات القطار ... غط في نوم عميق حتى أنه لم يكن يشعر بشيء لا أصوات عجلات القطار ولا المسافرين وضجيج أصواتهم وحركتهم استسلم لحلم الوصول والخلاص كل هذه السنين التي عاشها بألم ومعاناة كبيرين سوف تنتهي بمجرد الوصول إلى المرفأ كان قد اتفق مسبقاً على طريقة تساعده على الهروب مقابل مبلغ من المال كان قد ادخره لمثل هذه الظروف .. استيقظ ورأسه مثقل بالأفكار مازال هناك وقت حتى يصل القطار إلى محطته الأخيرة متأملاً تناوب الصور من نافذة القطار مساحات من الأرض المفتوحه مساحات خضراء مدن وقرى تمر بأيقاع سريع مثل هذه اللحظات رغم الخوف والحزن والمشاعر المتشابكه يغرق في حلم الوصول تناول دفتر المذكرات كان يدون كل شيء .. يكتب بعض النثر .. يجيد اختيار العبارات التي تبكي حبر القلم ..
اقترب القطار من محطته الأخيرة كانت الشمس تميل إلى الغروب ، الرحله الطويلة شارفت على الانتهاء.. يشعر بهواء البحر اول مرة يحس بأن رئتيه تريد المزيد من الهواء يستنشق بعمق كأنه لم يستنشق هذا الهواء من قبل احساس بالحرية لم يشعر به مسبقا وصل القطار إلى المحطة حمل حقيبته الوحيده ومن حوله الجميع يحاول الوصول إلى باب الخروج كأنه الخلاص من العبودية أو كأنه رحله إلى فضاء أوسع سوف تبداء الآن لم يشعر بهذه السعادة والفرح من قبل كان قلبه ينبض بسرعه كل شيء جميل من حوله يرى الوجوه مختلفه كلها تشعر بالحرية والفرح حتى الطفل الذي كان يبكي في ممر القطار يقفز هنا وهناك ويركض وأمه تركض وراءه تخاف عليه من السقوط .. صعد السلم باتجاه باب المحطة متوجها إلى سيارات الأجرة التي ستذهب به إلى المدينة ينظر في وجوه سواق السيارات كأنه يريد أن يسألهم جميعا عن العنوان الذي أرسله الشخص الذي سوف يساعده على الهجرة تقدم نحوه شاب لطيف الشكل. سيدي هل تحتاج إلى سيارة . نعم اريد الذهاب إلى هذا العنوان لو سمحت .. اخذ السائق الورقه وبدت عليه علامات الاستغراب ظل ينظر في وجهه مليا .. ثم قال:
-هذا المكان في أطراف المدينة
-هو فندق قديم
-بإمكاني أن اخذك إلى فندق أفضل منه وأسعار الخدمة فيه مناسبة
-لا لا أريد الذهاب لهذا الفندق ولا يهمني كم التكلفة.
-حسنا سوف اخذك اليه تفضل بالصعود
-هات الحقيبه حتى أحملها عنك .
-لا شكرا سوف أحملها انا.
صعد في السيارة وهو ينظر إلى الأماكن من حوله يتعمق في تفاصيلها لديه الكثير من الاسئله لكنه لا يستطيع التحدث مع السائق كان يريد الوصول بسرعه كل شيء جديد من حوله وجميل الشوارع الواسعه الأضواء الطرق الجميلة الهواء النقي فتح نافذة السيارة وراح يستنشق المزيد من الهواء والفرح يملء قلبه مزيج من المشاعر لا توصف كأنه ولد من جديد . وصل إلى الفندق بعد مرور نصف ساعه لم يشعر بها ابدا كان الفندق في زاوية مظلمه والبناء قديم ، شئ يثير الريبة.
قال له سائق سيارة الأجرة :
-هذا هو الفندق هل تريد النزول فيه ام تذهب لفندق آخر
-قال له لا شكرا سوف انزل هنا هذه الليلة.
أبتسم السائق واخذ الأجرة منه واستدار راجعا عسى ان يجد شخص آخر يحمله إلى مكان آخر. دخل إلى الفندق وكانت الصاله رثه تتوزع فيها مقاعد الجلوس بلا ترتيب منضده كانت هناك في ركن الصاله هناك رجل يكاد لا يظهر من وجه شيء يقف خلف منضدة عالية لا يكاد يراه وخلفه مصباح يمنع الرؤية بصورة جيدة اقترب منه،
-مساء الخير سيدي
-لطفا هل أجد لديكم غرفة للمبيت.
رفع الرجل رأسه من خلف المنضده وتمعن في هيئة الزبون.
-آسف جدا لا توجد غرفة فارغه الليلة.
-كيف ذلك لقد أخبرني صديقي أن انزل هنا وقال لي أن اعطيك هذه الورقة حتى تؤمن لي غرفة.
تأمل صاحب الفندق الورقه من بعيد وقال له:
-ناولني إياها.
أخذ يتأمل بها قليلا كان مكتوب فيها هذا الشخص عائد لي أرجو تسهيل إقامته. أبتسم صاحب الفندق مما منحه شعور بالراحة.
-نعم نعم يمكنك البقاء هنا تعال معي لأريك الغرفه.
صعد السلم المتهالك بحذر إلى الطابق الثاني كان هناك ممر ضيق يشبه أزقة مدينته والأبواب على اليمين واليسار من الخشب لم يتم دهنها منذ زمن بعدها توقف الرجل وفتح الباب وقال له:
-هذه غرفتك عليك الانتظار هنا ولا تتحدث لأي شخص.
استغرب من كلام صاحب الفندق وسأله:
-لماذا ؟
-لا تسأل كثيراً عليك البقاء هنا وسوف نلبي كل طلباتك.
أخذ المفتاح ودخل إلى الغرفه وهو مستغرب من كلام صاحب الفندق كانت الغرفه قديمه جدا. الجدران متهالكه لا شكل للدهان فيها اختلطت الألوان وما عاد يميز شيء، هناك سرير قرب النافذة، ودولاب صغير لا قفل فيه، وفي الجانب الآخر حمام قذر وصنبور الماء يصدر صوت مزعج تتساقط منه قطرات الماء ربما ليلة واحده هكذا قال مع نفسه وغدا سوف أغادر هذا المكان الذي يشبه مدينتي فتح حقيبة وأخذ يرتب ملابسه في الدولاب وبعد أن غير ملابسه اكتفى بأن يغسل وجهه لأن الحمام كان هو بحاجه لاستحمام هناك عدد من الفطائر كانت أمه قد وضعتها في حقيبته .
بعد الانتهاء من أكل الفطائر، شرب قدحاً من الشاي كان قد طلبه من عامل الفندق، كانت النافذه تطل على جدار كبير لم تكن تستحق النظر من خلالها حاول الاستلقاء والنوم لكن الأفكار كانت تحاصره من كل جانب ظل يتأمل المكان رغم التعب لم يكن يستطيع النوم أغرق في التفكير حتى أنه لم يشعر بمرور الوقت سمع طرقاً على الباب .
-قال: من؟
-قال أنا مراد الذي أرسلت بطلبك حول موضوع السفر.
لم يصدق ما سمع بهذه السرعه وصل. أسرع وفتح الباب، مراد كان شخص قاسي الملامح بيده لفافة تبغ انتهى نصفها.
-أهلا مراد تفضل.
-لا شكرا ليس لدي الوقت للجلوس ، هل أحضرت المبلغ معك.
-نعم احضرته ، لكن اليس الاتفاق أن اعطيك المبلغ حين أغادر؟
-لا ليس هكذا علي ان ادفع أجرة القارب الذي سوف يقلك إلى الجانب الآخر، وان كنت لا تريد بالإمكان أن نلغي الأمر وتعود إلى مدينتك.
لم يتحمل كلمة تعود لمدينتك أسرع إلى الحقيبه وفتحها اخذ المال منها وأعطاه لمراد حاول أن يتحدث لكن مراد كان قد أنهى الحديث وقال له:
-عليك البقاء هنا بعد المغيب سوف أرسل في طلبك إياك والخروج من هنا.
وأي طلب بأمكانك أن تطلبه من عامل الفندق .
وخرج مراد دون أن يستمع لأي تعليق اخر . لم يكن قادر على الكلام أسلم امره له بانتظار ما سوف يحدث عاد إلى السرير والأفكار تراوده ماذا سوف يحدث وماذا سوف يأخذ معه في رحلته في القارب .
قال وهو يحدث نفسه :
-انا بحاجه إلى نجادة لأني لا أجيد السباحه ، كذلك احتاج إلى معطف لأن الجو سيكون بارداً في الليل والبحر سوف يزيد من برودة الجو.
نزل إلى عامل الفندق واخبره أنه بحاجه إلى نجادة ومعطف وبعض الاطعمه التي يمكن حملها .
ضحك العامل وقال له:
-كل شيء موجود في القارب الذي سوف تستقله لا تفكر بشيء.
كان مصراً على أن يخرج من أجل التسوق لكن العامل أخبره أنه لا يمكنه الخروج لحين عودة مراد.
استغرب من هذا السجن الصغير لم يكن يعرف ماذا يفعل، صعد إلى غرفته واستلقى على سريره بانتظار ما سوف يحدث، مرت الساعات ثقيلة، جدا فجأة سمع طرقاً على الباب، كان الوقت ما بين الظهيرة والعصر لم يكن هذا موعد مراد نهض وفتح الباب ليجد عامل الفندق وهو يحمل كيساً، ودون أي مقدمات قال العامل:
-هذا طعامك بإمكانك أن تأكل الآن لأن الرحله طويلة.
أخذ الكيس منه وأغلق الباب دون أن يعرف ما بداخله لم يكن قادراً على أكل شي استلقى على فراشه ينتظر الوقت أن يمر سريعا لكنه كان يمضي ثقيلا جدا.
شعر بالتعب وهو على السرير أغمض جفنيه وغط في نوم عميق وبعد برهة من الوقت سمع أصواتاً كثيرة وضجيج ووقع اقدام بكل اتجاه أسرع إلى الباب ليرى ماذا يحدث لمح عامل الفندق في آخر الممر يصرخ:
-عليكم الخروج الآن الشرطة قادمة.
لم يفهم ماذا يدور، أسرع إلى عامل الفندق مستغربا من كلامه .
-ماذا يحدث؟
-لماذا تأتي الشرطه؟ أين مراد؟
ضحك عامل الفندق وقال له بسخرية:
-لقد ألقي القبض على مراد والقارب.
-عليك مغادرة الفندق فورا.
-لماذا ماذا فعلت؟
-عند مراد قائمة باسمائكم، وسرعان ما ستأتي الشرطة للبحث عنكم.
-عليك الخروج حالا.
عاد سريعا إلى غرفته، لملم حقيبته وملابسه، وأسرع إلى خارج الفندق مرتبكا مذهولاً لا يعرف ماذا يفعل، أوقف سيارة أجرة كانت تمر من هناك. قال للسائق:
-أرجوك خذني بسرعة إلى محطة القطار.
۞۞۞