محطة النار والدخان
بقلم: د. محمد عفان[1]
اقتلوهم ...شردوهم ...البارحة عندما سمع النعرات والهتافات استيقظت كوابيسه المرعبة التي كانت نائمة منذ أكثر من ثلاثين سنة.
لأشهر كان الكهنة يقولون في نبوءاتهم أن القلوب في الصدور قد أضحت موادا متفجرة قد تشتعل في حين من الأحيان، وقد تلفّ نارها ودخانها العباد والبلاد، ولكنه لم يعط لها بالاً، وحسبها اختلاقا من اختلاقات الخيال، أو مبالغة محضة، أو دعاية من سماسرة الأوهام.
أولا أنكر الأصوات، وأنكرها عقله قبل أن ينكرها وعيه، أنكرها لنحسها وشؤمها، وتجاربها المتكررة الفاشلة التي لم تؤد يوما إلا إلى نتائج مرة وخيمة لا يحتاج لإثباتها إلى الأدلة، كما أنكرها لتقدم الزمان، ونمو الثقافة، وشيوع الاستنارة، وانتشار أسباب الحضارة.
خُيّل إليه مما سمع أن مارداً قد يخطفه إلى ما فوق السحاب، ويتركه بين الأرض والسماء، أو أخطبوطا عملاقا تلتف أذرعه حول كيانه ويجره إلى قعر البحر شيئا فشيئا، أو دبا مخيفا يطارده إلى كهف مظلم ليعذبه بطرق مختلفة؛ يرى شبح الموت ماثلا أمام عينيه، فلا يرى له دفعا ولا لمخرجه سبيلا.
عادت به الذكريات إلى سني طفولته، وتمثلت لذهنه مشاهد وصور مثيرة للحزن والأسى؛ كأن صبيا افترق من أبيه، وضل الطريق، وفاته القطار، أو كأنه على محطة قطار، في ليلة ممطرة شاتية، يرى بعينه المضببة القطار يقترب من الرصيف متهاديا، وفجأة يغمى عليه، أو كأنه يشاهد نهاية أغنية من أغاني فيلم "باكيزه"، صوت صفير القطار المتحلل في ظلام الليل وبالتوازي انطفاء الشموع باضطراب وتهدج، في حفلة رقص وغناء، أو كأنه يرى صورة صبية على غلاف مجلة منسية، جاثمة على الأرض في زيها المدرسي، تتناثر حولها لبنات وأحجار بناء متقوض منهار، أو كأنه يمر بالقرية المنزوية التي نبتت على جثث من أهلها القرنبيط والباذنجان والبطاطا، أو كأنه يقرأ للسياب قصة الطفل الذي "بات يهذي قبل أن ينامْ: بأنّ أمّه ـ التي أفاق منذ عامْ...فلم يجدها، ثمّ حين لجّ في السؤالْ...قالوا له: بعد غدٍ تعودْ ....لابدّ أن تعودْ...وإنْ تهامس الرفاق أنها هناكْ...في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ...تسفّ من ترابها وتشرب المطرْ"، أو كأن به في ميدان كربلاء يشاهد سهما غادرا يخترق شفاه الرضيع الشهيد، أو كأن التتر ينبشون في كل مكان كالجراد المنتشر، ويعربد الموت، وتمطر السماء دماء.
قال له أبوه أن يؤجل سفره لتعليمه، فالجو ينذر بمطر لا خير فيه، فأبدى الغلام إصرارا على عزمه. كان أبوه شم رائحة الدخان الذي سترتفع دوائره الكثيفة قريبا، وتحجب العقول والأنظار... ولكن لو لا إصراره لاتخذت حياته منحى آخر، لما كان حيث هو الآن، أو هكذا يفسر الآن موقفه وعناده. إنه يشك في همة أبيه، في أن يرسل وحيده بينما الشوارع لمثله تحولت إلى أعداء، والمحطات شبه مهجورة، وهمسات القتل والفتك تدوي في الفضاء.
وقف "دانا فور اكسبريس" على محطة "باتنا" نعسان تعبان متخاذلا بعد سفره طول الليل من مدينة "باغلفور"، وعندما خرج الغلام مع أبيه من المحطة لمس صراعا بين غلس الفجر الندي ونور الصباح الخجول الذي كان يحاول أن يضيء العالم حالا على حال. دخلا "سرفراز هوتل" الذي عرفاه في سفرهما الأول إلى مدرسته بمديرية "غوبال غنج"، فالسفر التالي هو بالحافلة، وسيستغرق عدة ساعات، فلا يصل إليها إلا بعد الظهر. تناولا الفطور المشتمل على "الرغيف وقيما سالن"، وكأن في فيه طعمه اللذيذ بعد كل هذه السنين، وبعد الفطور توجّها مباشرة إلى موقف الباص... وحان وقت الوداع فطفرت الدموع من عين الغلام. كانت أشغال أبيه في مدرسته تمنعه من أن يصاحبه في رحلته الباقية، ولكن دموعه غيرت رأي أبيه. لم يمكث في "سيمرا"، في مدرسة ابنه، إلا ليلة واحدة، رغم تعبه وحاجته إلى الراحة، ففي المرة الأولى قضى ليلتين هناك، لعلّ قلبه كان يحدثه أن يعجّل بالسفر... وأحسب لو كان مكث ليلة أخرى لطالت إلى وقت لا يعلمه إلا الله. حكى له أبوه فيما بعد، بعد أن استقر مساره، وتقرر مصيره، أن في عودته من "سيمرا" عندما اقترب "فيكرام شيلا إكسبريس" من محطة باغلفور، وتباطأ سيره، لاحظ على جانبي سكة الحديد أفواجا من الناس، حمر العيون، مدججين بالسلاح، يهتفون بنعرات تفرقهم في طائفتين بارزتين.
ثم ما وقع بعده هو محفوظ في التاريخ. وكما كان حدس أبوه؛ اكفهرّ الجو، واربدّت الغيوم، وأمطرت دماء ودموعا، فسالت بها الأودية، وتكدست الأشلاء في البرك، فتحولت من بياضها إلى أحمر قان، وتأججت النار، فذابت فيها العلاقات الحميمة الألماسية وتبخرت دخانا، وصرخت القلوب من ألم تمزقها، وتأوهت الأرواح من التشظي، واصفرت الأوراق، وذوت الأزهار، وهاجرت الطيور، وتضورت الغزلان والشياه من العطش خوفا من الوحوش والذئاب.
الغلام على مسافة أربع مائة كيلو متر يتناقل مع زملائه أحداث النار والدخان كأحداث يومية عادية لا تحرك ساكنه كثيرا، فهو لم يستوعب حجمها بعد، ولم يؤت من قوة الفكر والتحليل حتى يدرك الفرق بين "الأنا" و"الآخر"، ويتبين مقدمات الصراع بينهما ونتائجه، كان عليه أن يعبر محطات أخرى لتتجلى له الحقائق وتنكشف له الأسرار، ويعين موقفه من هذه الأحداث.
أما أبوه، فلمّا نزل المحطة لم يتجه إلى اليسار المؤدي إلى بوابة الخروج، بل سار في اليمين، وكان ذلك له يمنا بارك في حياته وعمره، سار في زقاق ضيق، وخرج على شارع جانبي ليجد الناس من طائفته في حالة هياج. كل من رأى اللحية الكثيفة البيضاء على وجهه قال له أن يستعجل إلى مأواه إذا كان له مأوى. قضى في المدينة ليالي وأياما رأى فيها الموت أقرب من وريده مرارا. كان في بيت عمه، في ركن ركين، ولكن لم يكن في حسبانه قط أنه يحيى ليشاهد هذا الوضع الاستثنائي. ولد قبل سنة أو سنتين من اللحظة الفاصلة في حياة شبه القارة الهندية التي مزقت جسمها نصفين، وغار في جسدها النصل المسموم الذي تظهر أعراضها في صورة دم وقيح ونتن لحين وآخر. ربما قرأ وسمع قصص النار والدخان في أعقاب 1947، ولعله وجد دليلا حيا على ذلك عندما كان يقارب خمسة عشر عاما من عمره. كانت جدة الغلام تحكي أن سنة في الستينيات كانت شديدة على الأسرة، وقعت حوادث النار والدخان، فساد الرعب وأقفرت الشوارع، ومما حدث معها أن تقطعت سبل التواصل بينها وبين جدي الذي كان يعمل معلما في مدينة "باغلفور" في بعض المدارس، فهم لا يعرفون عنه وهو لا يعرف من حال أسرته شيئا، أ أحياء أم أموات، لخمسة عشر يوما يطبخ الطعام ولا ترغب فيها النفوس ولا تمتد إليه الأيدي...كان جد الغلام شجاعا جريئا، وقد رآه الناس في حوادث النار والدخان التي وقعت قبل وفاته بعامين سنة 1989، (والتي اكتوى بنارها الغلام مباشرة) وازدحم بيته واكتظ بعشرات العائلات اللاجئة من القرى المجاورة، رآه الناس في فناء البيت يذرعه جيئة وذهابا مع عصا غليظة في يده... قال جده لبعض أصحابه أنه ينوي زيارة بيته وتفقد حال أسرته، نصحوه بألا يفعل ذلك، لا يستطيع إخفاء هويته، فأين وكيف يخفي ما على وجهه من زينة! ولكن جده يعرف هول ما يتمخض عنه مثل هذه الظروف... فيرى "الغلام الأربعيني" أن جده كان شابا عندما كانت بلاده في المخاض وتمر باللحظة المصيرية عند الاستقلال، ومما يذكر أنه لا يزال يحتفظ برسالة "غريبة" من جده إلى جده الأصغر أو قل من أخيه إلى أخيه الأصغر، منه إليه وإليه منه في رسالة واحدة، وكلما قرأها لا يتمالك من الابتسام، على جانب يشكو الأخ الأصغر ضيم أخيه مثلما شكا طه حسين في "أيامه" ضيم أخيه الأكبر في الأزهر؛ استئثاره بملذات الحياة، فيوبخ الأخ الأصغر في الجانب الثاني على تهوره وتجرأه على السفر إلى باكستان والوضع هو الوضع نار ودخان... لا يدري إلى أي تاريخ ترجع الرسالة، لا يستطيع أن يحدده بالضبط، ولكنها تشير إلى الظروف الطائفية المهولة...
على أية حال لما رأوا إصرار جده على زيارة بيته وأهله جاؤوا له بحل؛ ألبسوه بذلة البوليس، وجعلوه شرطيا حيا متحركا، بنطلون كاكي قصير يتدلى من جانبيه سكينان، وهراوة في اليد... مشى حوالى أربعين كيلو مترا من بين شوارع وقرى تنطق بالوحشة، وأهالي متهيبين متأهبين، ولا رفيق له في دربه إلا إيمانه بالله وثقته بالنفس... وصل إلى بيته آمنا، وطاب لأهله الطعام والمنام... ومما حكت الجدة أن في تلك الأيام كان العمال والبناؤون من مختلف الطوائف مشغولين في بناء بيته، فلما رأوا جده في تلك الهيئة الغربية من لحية كثيفة على الوجه، وبنطلون قصير، وسكاكين متدلية، انفضوا وهربوا بحياتهم هاتفين: أنجدوا قد جاء القتلة...
وأما أمه فكانت الدموع هي صلاتها وسلوتها؛ ضوضاء وقصص وحكايات العائلات المتراكمة المتكدسة لا توفر لها راحة، لا تعرف عن أمر زوجها ووحيدها شيئا... إلى أن بلغ بها الحزن شأو حزن يعقوب لابنه يوسف؛ قالت إن الدوحة التي كانت تستظل بها قد اقتلعت من جذورها وانهارت، ابتلع زوجها ووحيدها النار والدخان... ولكن أهل القرية كانوا متفائلين، بل كانوا يستفتحون بأبيه... قالوا لو نجا النعمان، نجونا وإلا...كانوا يعرفون ورعه وتقواه ونبل خلقه ونقاء سريرته، وحرام أن يمس الشر مثل هذا الإنسان الملائكي.
نعم خرج الغلام وأبوه وأسرته وأهل قريته من محطة النار والدخان سالمين، إلا من كوابيس وبقايا أحلام مفزعة تزورهم من حين لآخر، وتعيق حياتهم عن سيرها الطبيعي، غير أنهم يؤمنون أشد الإيمان أن الدخان الذي يرونه الآن متصاعدا سيتبخر بإذن الله، ولكنه قبل ذلك يفعل ما في مزاجه، سيغشى الليل والنهار، ويحجب العقول والأنظار، ويلتهم البلاد والعباد، ويوقظ كوابيس نائمة، ويخلق كوابيس جديدة... إلى أن تطفئ القلوب التي في الصدور حممها، وتستبدل بها جمرات الحب وحرارة الأخوة ودفء السلام.
[1] أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية بجامعة غلام شاه بادشاه في راجوري، ولاية جامو وكاشمير، مترجم وكاتب.