بعد أن أكملتُ ما نويتُ القيام به، اتصلتْ بي الخادمة وأخبرتني بأن كل شيء على ما يرام. ما جعلني أشعر بأن التجربة التي كُلْفتُ بها واخترت شخصيات حكايتها بنفسي، ستنجح حتما.
كانت الخادمة قد أتمّتْ ترتيب أثاث المنزل، بينما راح السيد (أ،أ) الشخصية المجهولة لدى أهالي القرية، يقف بنفسه على تنسيقه. ولما لم يجد ما يُعلّق عليه، أمرها في التوجه إلى المطبخ للتأكد من جاهزيته، قبل أن يباغتهم أحدٌ ويطرق الباب.
الخادمة تمتاز بذكاء حاد، تجيد إدارة المنزل، ولها أسلوبها الخاص بالتعامل مع الآخرين. أما سيّد المنزل فكان رجلًا نحيلاً، شغلتْ لحيته ثلث وجهه وتجاوزت الرقبة. يعمل بصمت ولا يفضّل كشف هويته لأحد، خلال فترة وجوده المحدودة في القرية.
أما المنزل فكان مناسبًا جدا، ويحتل موقعًا وسط القرية، يشرف على واقع وعادات الأهالي فيها.
لذلك كان خبر سكنه الجديد، قد ذاع سريعًا. اضافة الى ذلك، يبدو أن الذين يراقبونه ويتجسسون عليه كثيرون، من بينهم فتاة جميلة أبدتْ اهتمامًا وحفاوةً من أجل التقرب إليه، لذلك راحت تكرّر مرورها بالجوار لعلها ترى أو تسمع ما يدور في الداخل.
مرّت ثلاثة أيام، ولم يتوصل لمعرفة هويته أحدٌ من أهالي القرية، بما فيهم سائق الأجرة الساكن في الشقة المقابلة له. وجاره بائع الجملة الذي بجواره. أما الفتاة فكادت تختنق هي الأخرى لعدم تمكنها من معرفة سر الرجل.
-بدأت أشعر بالقلق من تلك الفتاة.
قالت الخادمة وهي تُخبرهُ لأول مرة بظهورها، ومراقبتها لهم على مدار الساعة، وكانت قد سمعت انهم يطلقون عليها (مَجَسْ الرّادار)
ضحك (أ.أ) من هذه التّسمية وقال:
- ربما سيكون مصيرنا بيدِ هذا المَجَسْ.
- وماذا نملك نحن غير المكتبة وهذه الكنبة؟ قالت الخادمة.
-وما أدراكِ ما بداخل هذه الكنبة؟ قال ذلك بتهكم وأضاف:
- نحن نملك كل شيء، لكن دعينا من التباهي بما نملك، سواء كانت ثروات أو أسماء وعناوين. ولننتظر حتى نتفرغ للمهمة التي جئنا من أجلها؟
كان (أ.أ) قد بدأ يتوجس من "موقف الأهالي" وتجاهلهم له، خاصة وقد مضت أيام على سكنه. “الحياة تغيرت ونسي الناس عاداتهم القديمة" قالت الخادمة. وتركته وغابت تعدّ القهوة.
فيما ظلّ هو جالساً باسترخاء، وعيناه مفتوحتان. يفكر فيما تخبئ له الأيام. ماذا تريد الفتاة مَجَسْ الرادار منه؟ وكأن الوقت قد بدأ ينساب ببطء، والأشياء من حوله تتداخل مع بعضها وتتحول الى نقاط بيض تتراقص أمامه، ًتراءى له من خلالها جاره سائق الأجرة، رآه بملابس العمل وبقع الدهان:
"أنا جارك…أسكن في الشقة المقابلة وأعمل سائق أجرة…"، واستمر يتحدث من دون توقف. يقصّ عليه صولاته وجولاته ويتباهى بها، مستحوذا على كل وقته وانتباهه. وكلما أراد السيد (أ.أ) أن يجاريه بالحديث، يقاطعه بحديث مختلف.
عادت الخادمة بكوب القهوة، وتوقفت قليلا قبل أن توقظه، ثم وضعت القهوة أمامه على الطاولة. -كان حلماً مزعجًا -همس مع نفسه وبدأ يرتشف قهوته.
-إذا بقينا نحلم ونتأمل زيارة أحدهم، فسوف لن ننتج شيئاً.
- ما رأيك إذن؟ قالت الخادمة.
-عليك بمتابعة تلك الفتاة ومراقبتها جيدا.
في اليوم الثاني، رأت الخادمة الفتاة تتنقل بين الجارين وتعقد معهم لقاءات غامضة.. وبعدما عرفت مكان لقاءاتها، حاولت بشتى الطرق لتسترق السمع من عند أقرب نقطة. كانت أصواتهم تأتيها وتلتقطها كما يلتقطها مجس الرادار:
"كنت أراقبه من خلال فتحة صغيرة في الحمام، فلم أرَ أحدا سواه عدا الخادمة. من لحظتها صرت أخشى جاري المجهول هذا، وفكّرت أن أبلغ الجهات المسؤولة عنه." قال السائق ذلك.
"رأيت العمال يخرجون كنبة أنتيكة ضخمة أظنهم يخبئون فيها الممنوعات!" قال الرجل بائع الجملة. "
أما الفتاة -ألمجَسْ - فقالت: "علينا ألا نتسرع ونظلم الرجل."
بلغ عند (أ.أ) التوتر مبلغه، بعدما سمع رسائل التهديد المعلنة. وطلب من الخادمة أن تتركه لكي يتدارس الأمر وحده. في ليلتها لازمه قلق واضطراب شديدين. وحين نام بعد تعب، رأى جاره بائع الجملة يزوره. وبدا له عابس الوجه، مكفهرّه. ينظر إلى المكتبة بلامبالاة كما لو أنه غيرُ مكترثٍ بأحد. ثم راح يبعثر الكتب ويرمي بها إلى الأرض.
••••••••
كشف البطل عن بوادر تمرِّده، بإعلانه قرار الانسحاب من عقدة مستفزة، بلغت ذروتها عند مرحلة التهديد واثارة الخوف لديه.
وفي الظهيرة، سمعت الخادمة طرقًا سريعًا على الباب. كان حضور الفتاة المباغت قد أثار فيها الرعب أكثر من سيدها. الذي راح يفكر بما يمكن أن يحققه مثل هذا اللقاء!
للمرة الثالثة يوعز للخادمة بأن تفتح ثم يعود عن قراره. كان يأمل من ينقذه من هذا الحرج. ليس أمامه غير خيارين. ولربما لا يمتلك الوقت الكافي للتفكير بالاختيار..
كان على وشك المغادرة والخروج من المنزل، حين اتصلتُ به أنا وطلبتُ منه أن يتحمل ويستمر فإن: -الفتاة عند الباب إن لم تقابلها فسوف يفشل كل شيء.
رافقتها الخادمة حتى غرفة الاستقبال. ورأيتُ الفتاة "مجس الرادار" تسترق النظر من فوق أكتاف الخادمة. كأنها تريد أن تحقق سبق الرؤية من النظرة الاولى.
-من خلال المكتبة، يبدو أنك متخصٌص بالفيزياء! قالت الفتاة.
-أليس هذا ما قالته لكِ الخادمة؟
همست الفتاة مع نفسها -يبدو أنه يعرف كل تحركاتنا- ومن أجل تغيير الموضوع، قالت:
-لكن قلْ لي هل حقًا الفيزياء مصدر كل العلوم؟
- مع كون العلوم تكمِّل بعضها، نعم. قال بتواضع.
- لكنّ العلماءَ يسابقون الزمن بالاكتشافات.
-وغالباً ما يسبقهم الزمن.
-كيف وهم قدموا الكثير! لا أفهم ما تقول.
-مهما قدّموا، لا يمكن للعالم أن يقدّم كل شيء في حياته.. لذا يأتي غيره ليكمل ما بدأه. ثم إن العلماء ليسوا كلهم ملائكة!
" كلامك فيه الكثير من المغالطات يا أستاذ “هذا ما فكرت أن اردّ به عليه، لكنني استدركت:
- وماذا عن أينشتاين.. والنسبية؟ هل لديك اعتراض عليه؟
-اعتراضي سيكون نسبياً أيضًا، فقد تبدو الفرضيات مثلُ وجباتِ سريعة. وعلى العالِم ألا يصاب بالغرور أو يتباهى!
"ما شاء الله" تمتمت مع نفسها:
"هذا الرجل لا يبدو عليه مدرس فيزياء ولا يميل للعلم والعلماء، لكن لمن كل هذه المكتبة العلمية إذن؟"
أصيبت الفتاة بردة فعل مُخيّبة. انتفضتْ وهي تقول، وكأنها أفاقت من غفوة:
-بالله عليك، حيّرتني يا سيدي! قلْ لي بربك من تكون، وماذا عن هذين الحرفين الأولين من اسمك؟
ابتسم السيد (أ،أ) وقال بكل هدوء:
- ألبرت أينشتاين! أنا ألبرت أينشتاين.
حدقتْ الفتاة به بتمعّن، وارتعدتْ فرائصُها من المفاجأة، حتى كادتْ تقع حال سماعها ذلك. وحين خرجتْ، لم تذهب إلى بيتها مباشرة، بل ظلّت تجوبُ الشوارع لفترة، وتقول لكلِّ من يصادفها:
"آينشتاين.. آينشتاين" هكذا مرّتينِ وليست مرّةً واحدة. لكنْ لا أحّدَ من الأهالي يَسمعها أو يهتم بها.
وفي الوقت الذي كانت الفتاة مذهولة بأينشتاين، كنت أنا أشعر بالفخر والرضا من أداء البطل.