كانت على عهدٍ بالموت قبل أن ألتقط منها آخر القبلات.. قبل أيامٍ هاتفتني..
آلوا ...
من، من فضلك...
خالد، أنا ريم..
أه هذه أنت، خيراً إن شاء الله.
أريد أن ألتقي بل في حديقة المدينة..
طيب. إلى اللقاء!
فتاة من معدنٍ خاصٍ، لم ألتفت إليها يوماً، لا أخفيكم سراً، كنت أحبُّ الكثير منهن لقد كان قلبي قبلة للعشق، بحجم هذه الدنيا كنت أحب، لا أبالي بين الواحدة والثانية تكون الثالثة. هكذا أشعر أن طينتي تقهر كل مسيرتي نحو تلخيص العشق في امرأة..
كنت كثيراً ما أقول، أنها لا تكفيني واحدة..
ذهبت إليها، وبعدها لي موعد آخر مع زهرة عمر أخرى...
حدثتني عن كل شيء، عن الدنيا، عن والدها، أمها، إخوتها.. حسبته المسكينة مشروع زواج، ولكنه مشروع جلسة، لتتركني وأتركها، بعد لحظات أردت أن أدثرها بجناحي لأرفع عنها وعني قلق الدنيا وشهق الحياة، استسلمت لي واستسلمت لها يحّرك أحدنا الآخر، لم نتعد أكثر من ترويض الجسد.. لحظات لأقع أنا على نهاية المشهد وتلملم هي بقاياها عائدة من حيث جاءت لتقول لي:
أتعلم كم أحب هذه المتعة. تتعبني نعم، ولكنها شهية.. على الرغم من أنها لم تكن مومساً.. إلا أنّها كانت تحبُّني، في بعض الأحيان أشكُّ أنني ما عدت أخفيها.. ومع ذلك فقد كان هذا الطريق ينسيني بعض ما في وطني..
لم يكن البلد قد شن شعار الّلاحب بعد، كانت الحياة تبدأ مسيرتها نحو رقصة جديدة، بدأ اليأس يتسرّب إلى النفوس..
كنت إذ ذاك إطاراً متخرجا بدبلوم مهندس دولة في الفلاحة، بعد مُضِيِّ السنوات لم أعد أفرّق بين ورق الفاكهة المختلفة.. هي الحياة ولا شكّ من فتحت نارها لتضطهد عنفواننا جبروت الشباب داخلنا، الكثير من الشباب أعلن حالة من التوبة الجديدة..
حينما زرت المسجد لأول مرة خفت ...حسبت نفسي كافراً، المجتمع كله هنا يصلّي إلّا أنا.. أصحاب الأقمصة البيضاء في كلّ مكانٍ، كلُّ واحدٍ جمع له أطفالاً وأتباعاً وأخذ يهردهم بدروسه عن عذاب القبر.. شدّني الفضول فقلت: لماذا لا أذهب وأستمع..
ما إن هممت بالذهاب، حتى أحسست بيد قوية تمسكني من ذراعي، تعرقل فضولي، وجّهت بصري من الخلف لأجده صديقي محمد، أه محمد: كيف الحال، بل كيف حالك أنت.. هل تبت عن شقواتك أيها الوسيم، قلت له أي وسامة يا رجل، كانت في الماضي..
لألفت انتباهه: كيف حالك يا رجل، أين أنت لم أراك منذ وقت طويل..
أنا يا سيّدي ناقشتُ رسالة الدكتوراه كما تعلم العام الماضي، وأشتغل حاليّاً أستاذاً للفلسفة الإسلامية..
أستاذ الفلسفة وجالس وحدك، يا له من موقف....
ما بك يا خالد، لماذا التعجب...؟ أنظر هناك صاحب القميص يُدرس عن عذاب القبر، إنه مكانك أنت..
الأستاذ يبتسم، يا خالد خويا.. وهل الدين عذاب القبر...؟ إنه حياة قبل أن يكون موت.. هذا الشخص الذي تراه يتكلم لم يدخل المدرسة أصلاً، يقول عن نفسه عصامي النشأة.. وهو ينصب الفاعل ويجرُّ المفعول به. لو استمعت جيداً لوجدته لا يُجيد إلّا الضرب، وكأنَّ الميّت يا صاحبي لا يليق به إلا الضَّرب، وهو أمر إلى الله. لا يعلم هذا المتفيقه ولا نعلمه نحن ممن ينتسب إلى العلم.. لينصرف.. ويتركني..
فيقول لي:
خالد دعنا في اتِّصالٍ ربما تحتاجني أو أحتاجك.. طيب. هذا رقم هاتفي..
بدأت الحياة تصفر.. بل أخذت لوناً آخر. علا الزحام الرؤوس.. كل النهار صراع، لازلتُ على علاقة جيدة بصديقي محمد، كان يشرح لي كل إشكال، يبدد عني سوء فهمي، ضميري الذي ألجأ إليه مخافة أن أقع في الانحراف، فلغة الانحراف ليست واحدة نطلقها على من يشرب الخمر، والزنا، بل تليق بصاحب المخدرات أكثر.. لا حتى الغلو في الدين انحرافاً، والمغالاة بأسلوب الحداثة انحراف كذلك.. هكذا كان يقول المرحوم سي محمد..
بكيت لأجله الدم، مكثت أسبوعاً في المستشفى لا أصدق موته، كان يوما مؤلما خَرَّبَ كل أفاقي.. كل انتظاراتي..
في صفحة الحوادث قرأت نعي الأستاذ.. قُتل رمياً بالرصاص، لأسارع إلى بيته فأرى الجموع هناك لتنقل إليّ أن أصحاب الأقمصة البيضاء هم من قتلوه.. كرهتُ الدنيا وما فيها، لأعزل نفسي عن كل هذا الجنون، لتتلاحق دفعات المحنة مع كل أساليب التشنيع...
في منتصف سنة 1994 قررت الرحيل إلى حيث لا دم، إلى بلد آخر..
كان لي زميل تاجر له علاقات جيدة بالسفارة الفرنسية.. وعدني بالفيزة مقابل مبلغ من المال، أمام المال كل شيء يذوب حتى الصداقة لا يصبح لها معنى..
وفَّي الرجل بما عليه لأجد نفسي في مدينة ليون الفرنسية، على الرغم من أنني رحلت إلى هذه المدينة الآمنة إلا أن رائحة المحنة في الوطن لم تغادرني يوماً، لم أنس وطني زمن طفولتي وعهد الصبا وزمن الشباب..
أه وتلك الفتاة التي طُبعت ذاكرتها محفورة في رأسي يبدو أنني أحببتها، ولكن هل سأعود يوماً إلى الوطن لأجد زمناً غير دروس الموت؟ هل يفهم الجميع أننا بحاجة إلى الحياة لنرفع الحصار عن الجبة.