بقلم: تاراشنكر بانديوبادياي[1]
ترجمة من اللغة البنغالية إلى اللغة العربية
د. محمد عالمغير الندوي[2]
كان تاريني ملاحا ولذلك يُدعى "ماجي"، هذا لفظ بنغالي ويعني ملاح. تعوّد تاريني على أن يمشي في الطريق مطأطئاً رأسه، ولكن عندما يركب القارب في نهر "مايوراكي"[3] يكون مستقيما. وكان قاربه مصنوعا من خشب النخيل الطويل. وهو ينقل الركاب على ظهر قاربه من ضفة النهر إلى أخرى. وكانت المهنة مصدر رزقه ولقمة عيشه، ذات مرة في شهر "أصار" (شهر بنغالي) عقد عيد أمبوباتشي (هذا مهرجان سنوي للهندوس يجتمعون فيه للاحتفال به) فازداد الازدحام لعبور النهر، كل راكب يريد أن يعبره أولا، فصرخ تاريني وهو يمضغ التبغ : يكفي يكفي، ولا متسع للمزيد من الركاب في القارب، لأن الجميع أصبحوا ثقيلين بالبر والثواب بعد الاستحمام المقدس في نهر "غنغا" فقالت إمرأة عجوز: اسمح لهذه الفتاة "سابتري" بركوب القارب، فأجابت ضاحكة وهي مع شابات القرية الأخريات: لن نذهب الآن، إذهبوا، سنركب في الدفعة القادمة، فقال تاريني مازحا لها، تعالي! تعالي! إن تركبي سيغرق القارب، فأجابت: إن يغرق فسيغرق في دفعة هولاء العجوزات لأن بعضهن اغتسلن عشر مرات أو عشرين مرة، أما نحن فمرة واحدة فقط.
قال تاريني ضاما كفيه: يا أمهاتنا! أنتن أتيتن بالأمواج العالية فبدأت جماعة الركاب في القارب تضحك. وقفز الملاح تاريني إلى أعلى القارب مع قوس من الشجر، وبدأ مساعده "كالاتشاند" يتقاضى الأجرة من كل راكب، وقال بصوت عال: هل بقي أحد لم يدفع الأجرة حتى الآن، ولا يجوز لأحد أن يخون فيها، فبدأ تاريني يقود القارب إلى الأمام قائلا: "هاريبول"[4]، فهتف كل راكب بصوت "هاريبول"، وارتجع صدى الصوت من ضفة النهر الأخرى. فقال تاريني ضاحكا: اهتفوا باسمي، لأنني أجدف بكم الآن.
فقالت إمرأة عجوز: نعم، طبعا، إذا لم يكن تاريني فمن سيجدفنا؟ فحمل تاريني قوس الشجر في يده، وقال: يا كالا تشاند، إدفع القارب إلى الماء، فبدأ تاريني يمخر القارب في النهر.
في الحقيقة كانت خصوصية نهر "مايوراكهي" هي أن يبقى جافا كالصحراء لمدة سبعة أو ثمانية أشهر في السنة، وكانت الرمال تتلألأ إلى مسافة ميل ونصف، ولكن في موسم المطر يفيض بالمياه ويصبح هائلا ومخيفا للناس، كما قد يجري التيار السريع فيه. وفي بعض الأحيان يجلب الفيضان الكبير الذي يدمر القرى والمزارع والحقول، ويحطم المباني الشامخة، لكنه قد حدث هكذا مرة قبل عشرين سنة.
وكانت الشمس ساطعة على رؤوس الركاب في القارب، ففتح راكب مظلته على رأسه ليستظل بها، فقال تاريني: لا تفعل هذا وإلا سيرميك الهواء في النهر، فأغلق مظلته. فجأة سمع الركاب الضوضاء، وأصبحوا حذرين. وقال تاريني: يا أمي العجوز، لماذا ترتجفين؟ لسنا أمام أي خطر، والقارب يوشك أن يصل إلى غايتنا، ولا داعي لأحد أن يخاف.
بينما تاريني يقول هكذا إذ بدا له اللون الأبيض مثل ساري المرأة في الماء الأزرق، وهي كانت تغرق، فقزف تاريني من القارب، ثم أخد كالا تشاند القوس في يده، وبدأ يدفعه إلى الشاطئ. وبدأت هولاء النساء العجوزات يرددن الأوراد في نفوسهن. أما تاريني فغاص في الماء لينقذ الغارقة حتى برز جسمها لكنها غرقت في عمق الماء في تلك اللحظة ولكنه نجّاها من الغرق، وبدأ تاريني يسبح على سطح الماء نحو التيار الجاري.
وكانت الحشود على ضفتي النهر تشاهد هذا المنظر كيف كان تاريني يحاول لإنقاذ السيدة الغارقة حيث كان معروفا بهذه المهنة. وارتفع صوت "هاريبول" من كلا الجانبين، وكل يصيح ويتساءل، هل استطاع تاريني أن ينقذ الغريقة؟ أما كالاتشاند فقاد القارب نحو تاريني، فركبه تاريني.
أما السيدة الغريقة في ماء النهر فقصتها هي أنها عروس من بيت فلاح وقد وضعت خمارا طويلا على رأسها الذي امتد إلى وجهها وجلست على حافة القارب واستندت إليها ثم انزلقت يداها خطأ ووجهها كان مغطى بالحجاب الطويل فسقطت في الماء وكان ما كان. وهي قد شربت ماء قليلا واستعادت وعيها بعد مدة قصيرة، وهي كانت فتاة صغيرة لايزيد عمرها عن ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاما وكانت جميلة جدا أيضا، وكانت قد تزينت بالحلى الثمينة الرائعة، ومنها أقراط في الأذنين والأنف، وأساور غالية في يديها، وقلادة لامعة في عنقها. وكانت لا تزال تلهث، وبعد دقائق حضر زوجها ووالد زوجها، فقام تاريني مطويا يديه وحيّاهما، ثم أزال الحجاب الطويل عن وجه الفتاة بسرعة وقال: لا تحزني يا ابنتي، تنفسي، تنفسي الآن، ثم أفاقت بعد لحظة.
وسأل والد زوج الفتاة: ماذا تريد مكافأة لعملك هذا الجليل؟، ففكر تاريني وجعل يحك رأسه بيده، ولم تخطر بباله أية فكرة، ثم أجاب بعد لحظة: ثمانية قدور مليئة بالخمر أو ثماني روبيات. وقال الوالد: يا تاريني، لك ملابس ورداء كهدايا بمناسبة مهرجان "دشهيرا"[5] وخذ خمس روبيات.
فشكره تاريني شكرا جزيلا وقال: يا سيدي، هل يمكن الحصول على "الساري" لزوجتي بدلا من الرداء، فابتسم السيد وقال: لك ذلك. وقالت سابِتري: سأرى زوجتك يا تاريني، فقال تاريني: هي سوداء داكنة وبشعة الوجه يا سابتري.
ورجع تاريني إلى بيته في تلك الليلة سكرانا بفعل الخمر، وكان يمشي ولا يعي أين تقع رجلاه، وظن الطريق العادية طريقا وعرة حتى قال صاحبه كالا تشاند: من حفر حفرا كثيرة في هذه الطريق؟ فأجاب كالا تشاند: نعم، نعم. من فعل هكذا؟ لأنه كان أيضا سكرانا. فقال تاريني: ولو كانت هذه الطريق مائية لوصلنا إلى بيوتنا سابحين، فلا حفرة ولا صخر فيها حتى بدأ تاريني يحرك يديه كأنه يسبح في الماء، ووصل إلى بيته مترنحا فرأى زوجته "سوخي" قائمة ومنتظرة له أمام الباب، وكان المصباح مضاء في يدها. وبدأ تاريني يغني ثم قال: وفي البلاد تحدث وقائع الانتحار الجديدة كل يوم.
وأمسكت سوخي يديه قائلة: هذا القدر يكفي، تعال! لقد أصبح الأرز باردا. ونزع تاريني يديه منها باحثا عن حزام لباسه وقال أين مدمن الخمر؟ قالت سوخي متضايقة منه: إلى متى تفعل هكذا؟ وسأضع المشنقة في عنقي يوما.
قال تاريني مبتسما: هذا "فيضان باترا"، هل أنت تخافين؟ قولي؟ نحن نحصل على الرزق بفيض نهر مايوراكهي. ثم أحضرت الطعام له بدون أن تقول شيئا، فدعاها تاريني إلى الغرفة: تعالي يا سوخي! ودخل تاريني الغرفة مترنحا يمينا وشمالا. وطوقها من خلفها حين كانت تخرج الأرز من القدر: تعالي الآن! أين أذهب؟ وقالت: أترك لباسي. وحاولت سوخي أن تسحب لباسها منه قائلة: أترك لباسي، سأذهب، فتركها تاريني، وأحضرت سوخي طبق الطعام له. وقال تاريني وهو يحملها على ظهره: فلنذهب سنقفز في مورد غنوط[6] ولنسبح فيه فقالت سوخي: طبعا سنذهب، أولاً تناول الطعام، ثم سنقرر.
وأصيب تاريني بجرح طفيف على جبينه عندما خرج من الغرفة. وأخذت سوخي حزمة فوطة تاريني وعثرت على ثلاث روبيات فيها، فسألت: أين روبيتان أخريان؟ وأخيرا أعطى تاريني تلك الروبيات الثلاث كالاتشاند ولم تحتج سوخي على هذا، وقالت: لحظة، لحظة، أنا آتي بالمرآة، وألبس القرط في أذني، فصمت تاريني بسعادة، ثم لبست القرط ناظرة في المرآة، وكان تاريني يحدق إليها وتوقف عن الأكل فقال حاملا المصباح في يده: دعيني أراك، وبدت له ابتسامة في وجهها، فتحول وجهها الداكن إلى أحمر. ومن قبل كذب تاريني إلى ساوِبتري بشأن لون سوخي بأنه أسود، في الحقيقة كانت سوخي بيضاء اللون، وجميلة الوجه، كما هي كانت سعيدة الحظ اللانهائية في حياته الكاملة.
لا يكذب تاريني وهو سكران، ولا يشعر بنقص الطعام واللباس بفضل بركة مايوراكهي. وكانت هناك مناسبة "مهرجان دشهيرا" في هذه المرة عام 1342 سنة بنغالية الموافق لعام 1936 م. وكانت ملابسهما جديدة، وكان ساري سوخي أيضا جديداً، وحصلا عليها كهدايا العيد من قبل والد زوج تلك الفتاة التي أنقذها تاريني من الغرق. وكانت الرمال في فصل الصيف تتلألأ في الشمس بسبب غياب الماء عن النهر.
ووقف كستورداسي أمام نهر مايوراكهي، واقترب من تاريني وهو ينظر إلى السماء وقال: يا تاريني، أعبد جيدا، لكي ينزل المطر الغزير، وسيجيئ الفيضان، إذا لم يكن المطر أو الفيضان، فكيف ستفلح الزراعة هنا؟ وكيف تأتي قرابين الذهب إلى البلاد؟ قال تاريني متبسما: هل هذا صحيح؟ يا شيخ، كما يقول الناس بأنني أعبد مايوراكهي، وأقدم القربان له، لكي تمطر السماء بمطر غزير، وتجود بفيضان كبير. فقال الشيخ: أنا لا أدري.
وقال تاريني: هذه نعمة الله في البلاد بفضل هذه الأم نهر مايوراكهي وأردف تاريني قائلا: خذ القربان (الماعز)، إنه يفر، أمسكه، لا يستطيع الماعز أن يبقى في الرمل الحار لمدة طويلة. وقد تم التعبد بالطريقة المناسبة وكان تاريني جالسا على ضفة النهر بعد شرب الخمر، وصاح كالا تشاند: المطر، المطر، الغيث، الغيث بعد عشرة أيام، يا تاريني في هذه المرة أنت لن تلتقط الشيء العائم في الماء، وأنا فقط سأنجي كل غريق وسألتقط كل شيء عائم في ماء النهر.
قال تاريني: يكفي، واستمع، لقد طفح بي الكيل، فغضب كالا تشاند، ماذا قلت؟ فنهض تاريني، ثم أصلحت بينهما سوخي قائلة: سيأخذ كالا تشاند كل الشيء العائم في الماء القليل في حين يأخذ تاريني في الماء الكثير، فاتفقا على اقتراحها.
وفي اليوم التالي بدأ كلاهما ترميم القارب وإصلاحه بالمطرقة، وأكملا ترميمه حتى غروب الشمس، لأن الشقوق قد وقعت في قاربه بسبب الشمس الحارقة. ولم يأت الفيضان حتى انتهى موسم الأمطار، ولم يكن هناك مطر كثير، وأمطرت السماء مطرا قليلا، وكانت الرمال مازالت ظاهرة، ولم يبلغ الماء حتى إلى الركبة كما وقعت الشقوق والثغرات في القارب بسبب الشمس الحارقة.
وبدأت البلاد تبكي وتعول للغيث، وبقيت الحقول جدباء، وعم القحط أنحاء البلاد كلها، وأصبح تاريني حزينا، فليست لديه وسيلة لكسب الرزق سوى نقل الركاب على نهر مايوراكهي. وإنه كان ينقل دراجة موظفي الحكومة في المدرسة الثانوية على متن قاربه، والكل يدفعه اثنين أو أربع بيسات، وكان يشرب بها الخمر مساء، حتى كان يدخن السيجارة المستعملة المطروحة على الطريق. وجاء الفيضان بعد أن مضى موسم المطر، ثم تنفس تاريني الصعداء، وفرح، وتسلق شجرة النخيل، وقفز في النهر وامتلأ النهر بالماء.
وبعد ثلاثة أيام انحسر الفيضان، وتقلص الماء في النهر حتى وصل إلى الركبة. وكان القارب يتمايل في مهب الريح في النهر، وكان تاريني وكالا تشاند يتمتعان به وكانا في انتظار راكب مهذب لكي ينقلاه لأنه لا يعبر بنفسه ماشيا، فكلاهما سارا إليه بالقارب وعبرا به.
وحان وقت المساء وكادت الشمس تغرب، والسماء صافية، لا غيم فيها، ولا مطر، وقال تاريني وهو ينظر إلى السماء يائسا: لم أر قط هكذا، ولم يرد عليه كالا تشاند كما كان يرد في السابق، لقد تغير تيار الريح، وقال تاريني: الهواء، الهواء، فأخذ حفنة من الرمال الساطعة وبدأ يرميها على الأرض لكن لم يتضح له تيار الريح هل هو من جهة الغرب أو من جهة الشرق، فأحس تاريني بقليل من الريح من الغرب وقال: هيا بنا نشرب الخمر، وعندي بيستان قد أخرجتهما من طرف الساري لسوخي، فسُرَّ كالا تشاند وعانقه وقال: لدى زوجك مال، وعندما تذهب إلى المنزل ستحصل على الطعام أيضا، وأنا لست بسعيد الحظ، فقال تاريني: زوجتي سوخي طيبة جدا جدا، وبدونها سأعاني في حياتي من المتاعب والمصائب.
بينما كانا يتحدثان، سقط ثمر "بوراسوس فلابليفر" (ثمر النخيل الكبير)، فقال كالا تشاند: لحظة، لحظة، فالتقطه، وذهب به إلى الحقل وتمتعا به، فهناك جماعة من الناس كانوا جالسين تحت ظل شجرة على طرف القرية، فسألهم تاريني: إلى أن تذهبون؟ وأين منزلكم؟ فأجاب أحدهم: اسم قريتنا "بيرتشاندرا فور" في مديرة بردوان، وسنذهب إلى مدينة بردوان للعمل والبحث عن الرزق. سأل كالا تشاند: هل يمطر في بردوان؟ هل توجد فيها مياه في قنواتها، فأجاب أحدهم: لا يوجد الماء إلا في القناة، ووقعت المجاعة في البلاد، وعاني فيها الشعب من نقص المنتجات والأطعمة، وظهرت الشقوق والصدوع في الأرض، وتوقف صاحب الأراضي عن بيعها، وقد بدأ الفلاحون والعاملون يصومون، وبدأ كثير من الناس يغادرون البلاد فرادى أو جماعات.
واستيقظ تاريني في ذلك الصباح باكراً، وذهب مباشرا إلى مورد النهر، ولم ير هناك كالا تشاند، حتى بزغ الفجر، ولم يأت كالا تشاند وقد طلعت الشمس، فذهب تاريني إلى منزله ونادى اسمه فلم يجب أحد من داخل المنزل، فدخله، وكان المنزل خاليا، فصرخ، هل هناك أحد، ولم يجب أحد في تلك المرة أيضا، فذهب إلى المنزل المجاور له ووجد المنزل أيضا خاليا من السكان، بل وجد الحي كله قد غشيه هدوء وصمت رهيب، وكلهم هجروا تلك القرية في البارحة، وفي الطريق سأله "هارو" رئيس المنطقة: أين تذهب؟ أجاب تاريني: سأذهب إلى صاحب الثروة طلبا للرزق والحوائج. قال هارو: لا تذهب، وليس هناك أحد، فذهب تاريني هناك، وسأل الطعام بل لم يجب أحد، فكيف أجاب دعوته عندما لا يكوي شيء في المعدة، وكلهم في مشكلة كبيرة، فأصبح قلقا وتنهد.
هناك قرية باسم "بالاس دنغا" في مديرية بيربوم اللصيقة بمديرية بردوان، ووقعت فيها وفاة رجل مهذب بسبب الجوع فقط، فارتجف تاريني على سماع هذا الحادث.
وفي اليوم التالي وقع حادث مفزع أخر قريبا من المورد، وكان جسد إمرأة عجوز مطروحا في الحقل، وعضته الكلاب والنسور، واطلع تاريني على أنها إمرأة عجوز من أسرة الخصافين (صانعي الأحذية)، وكان المسافرون الذين لجأوا بالأمس إلى الحقل قرب المورد هم تمنوا مرارا بموت هذه السيدة العجوز، وتركوها نائمة في الليل، ولم يقف تاريني هناك أكثر، فجاء مباشرا إلى منزله وقال لسوخي: خذي أربعة ملابس ومجوهراتك معك، ولن نقيم في هذه القرية، وسنذهب إلى مدينة بردوان طلبا للرزق، وسنحصل هناك على الأجور اليومية.
لم ير تاريني مجوهرات سوخي إلا أساور اليد أثناء الاستعداد للسفر فسألها: أين المجوهرات الأخرى يا سوخي، فتبسمت وقالت: كيف انقضت أيامنا حتى اليوم؟ ثم غادر كلاهما القرية.
بعد السير لمدة ثلاثة أيام استراحا طول الليل تحت الشجرة على حافة القرية، وتناول كلاهما ثمرين ناضجين من النخيل الكبير في العشاء، ثم ناما. وبعد دقائق نهض تاريني وسألها: أين المنشفة؟ فأخذها في يده وبدأ يحركها طوال الليل، واستيقظت سوخي صباحا مبكرا، ورأت تاريني جالسا ومستيقظا على جنبها، وسألت: أما نمت؟ قال تاريني ضاحكا: لا، لم أستطع أن أنام، هل لاحظت شيئا مهما؟ فأجابت: لا، لم أر أي شيء، فحكى لها: ذهبت النمال حاملة بيضها في أفواهها إلى القمة، هذا دليل على قرب نزول المطر. سوخي، أنظري، صعدت الملايين من النمل على جدران البيت مع بيضها البيضاء في الفم، قالت سوخي: ما دلاته يا ترى؟
قال تاريني: يمكن للنمل أن تحس بمجيء الفيضان والغرق إذا بقيت في الأسفل. أما لاحظت؟ كيف تهب الرياح؟ الرياح الغربية، قالت سوخي ناظرة إلى السماء: السماء صافية ومتلألئة، فسألت، متى ستمطر السماء؟ قال تاريني: أنظري كيف ينقر الغراب الثقب للعش. فنبقى هنا اليوم، ولا نذهب، وأنا أرى حركة الغيوم، وتهب الريح الغربية، ولا يخطأ الملاح، فقال تاريني: قومي، فلنعد الآن. قالت سوخي: كيف نعود الآن في هذا البلاء؟ قال تاريني: ما الذي تخافين منها؟ وأنا معك.
قال تاريني لسوخي: خذي ماتولي (مظلة الفلاح الخاصة) على رأسك، لأن هذا المطر الغزير سوف يسبب لك المرض، وقالت: أما جسمك، فهذا متكون من الأحجار؟ قال تاريني ضاحكا: واه سوخي! وهذا جسمي من الماء، وينكمش في الشمس، وينتفخ في الماء، تعالي، وأعطيني حزمة الملابس، فوضعه على رأسه، ثم جعل كلاهما يرتحلان إلى قريتهما.
بعدما قطعا مسافة قليلة توقف المطر، ثم عادت الرياح القوية في المرة الثانية، وبدأ المطر ينزل فورا. هكذا كانا يقطعان نفس الطريق في الرجوع إلى القرية في يومين ويظنّان أن هذين اليومين يساويان الشهرين، ثم وصلا إلى منزلهما مساء.
قال تاريني: دعيني أرى مورد النهر، ثم صار مسرورا وقال: يا سوخي قد وصل الماء إلى أعلى حافة النهر، فرأى السماء مغيمة، وكانت الريح تهب مثل العاصفة، فذهب تاريني إلى قاربه لترميم الثقوب التي وقعت في الشمس، فقالت سوخي: كل ثم اذهب، لكنه لم يأكل وكلاهما ذهبا إلى ضفة النهر، ورآ الماء الغزيز والموج العالي والزبد الكثير فيه. فقال تاريني: سيأتي الفيضان الكبير في هذه المرة، وانظري؟ فرجعت سوخي إلى المنزل، وأصبحت حزينة، لأن تاريني قد خرج في حالة بائسة، وكان الظلام قد غشي، والليل قد اقترب، وعلا الفيضان النهر، وحاول تاريني أن يرجع إلى منزله لكنه لم يفلح، لأنه لم يستطع أن يعرف الطريق بسبب الماء الكثير عليها، ولم يسمع إلا ضوضاء تدفق المياه فقط. فوصل إلى منزله بعد الجهد المضني وفي الطريق تنادى بعضهم بعضا من الرجل والمرأة للمساعدة. كان هناك الخوار والثغاء والنباح وغطّاها ضجيج نهر مايوراكي وصرصرة الهواء مثلما غطى صوتُ قطاع الطريق ضوضاءَ الناس وبكاءَ رب المنزل. كل يندب على حاله، وكان المنظر منظر القيامة. فبلغ السيل الزبى، ولم يميز تاريني الطريق في ظلام الليل، ولمست رجله شيئا في الماء، وأخرجه فوجده السخلة التي قد ماتت فرماها ثم وصل إلى باب منزله قائلا: سوخي!
جاء الصوت الضعيف لسوخي من داخل البيت، أنا في داخل الغرفة، فرأى تاريني بعد الدخول في البيت أن سوخي كانت متمسكة بخيزران سقف البيت وهي كانت قائمة في الماء الذي بلغ إلى ركبتها، وأخذ تاريني يداها قائلا: أخرجي. هل هنا سيبقى أحد في داخل الغرفة في هذه الحال؟ إذن هو سيموت بتهدم البيت. قالت سوخي: قد كنت في انتظارك. سأل تاريني، ماذا نفعل الآن، وما الحيلة لك؟ فكيف ننجّي أنفسنا؟ أجابت سوخي: لنبقى ههنا. سيحدث لنا ما سيحدث للجميع. قال تاريني: إذا زاد الفيضان؟ هل تسمعين ضوضاء الماء؟
سألت سوخي، هل سيزداد الفيضان أكثر؟ إذن ماذا سيحدث في البلاد؟ هل يدمر إلهنا هذه البلاد؟ فبدأ تاريني يفكر في هذه الأسئلة. وكاد أن يتوكل على الإله إذ جاء صوت انهدام المنزل، ففزع تاريني وقال: قد انهدم منزلنها يا سوخي! فلنغادر لأن الماء قد بلغ إلى سرته حتى إلى صدره، طوقي خصري ولا تتركيني، وتمسكت سوخي بلباس تاريني بقوة. وأخذ كلاهما يمشيان في الماء، وابتعدا. وكان الماء يرتفع، فقال تاريني: اصعدي على ظهري وأوشكا على الغرق قبل أن يتم كلامه إلى أين أتينا؟ فقال تاريني: ابقي ممسكة بقماشي وتاركة ظهري، فكلاهما يسبحان ويطفوان على سطح الموج، ثم جرفهما التيار بعيدا. وقد غشي الظلام في الفضاء، وهبت الريح مع الصرصرة، وكانت القطرات تتساقط على وجههما كالسهم، وهما يطفوان على سطح الماء المتموج مثل القشين.
إلى متى نسبح؟ وبدت لهما الساعة كالشهر والسنة كالدهر. وبدأ كلاهما يشعران بالاختناق، وازداد وزن سوخي، وصارت مثقلة، فنادى تاريني: يا سوخي؟ فأجابت بصوت ضعيف، أنا ههنا، وسأل تاريني، هل أنت خائفة؟ وأنا معك، بعد لحظة أحس أنهما يغرقان في عمق الماء، ومع ذلك هو ظن أنهما يسبحان ويطفوان على سطح الماء. وحاول تاريني أن يغوص في الماء لكي يفلت من ثقل سوخي ولا يغرق كلاهما معا، لكنها التصقت به كالأفعى، وكان يتقلب في الماء، وانشق قلبه بحبه ولكن غاص في العمق مرة أخرى، وأحس أن جسده ثقيل جدا لالتصاقها بجسمه بشدة. فحاول تاريني أن يفك نفسه من قبضة سوخي، لكنها التصقت به بقوة أكبر، وبدأ تاريني أن يدفعها عنه، وبعد لحظة سقطت يداه على رقبة سوخي، فسحقها في هيجان شديد، فانفكت تاريني من سوخي، وغرقت في عمق الماء، وطفى جسدها على سطح الماء، وقال بعد أخذ نفساً طويلاً: آه! آه! النور والتراب.
[1] . هذه القصة القصيرة مأخوذة من أفضل قصص تاراشنكر المنتخبة في اللغة البنغالية أصلا
وتارا شانكار باندوبادهياي (1898-1971) من كبار الكتاب في اللغة البنغالية، وهو كاتب غزير الإنتاج، كتب 65 رواية، و53 مجموعة قصصية، و12 مسرحية، وأربع كتب في المقالات والبحوث، و4 سير ذاتية، ورحلتين، وعديدا من الأغاني للأفلام البنغالية، مُنح جوائز كثيرة نظير مساهماته المبهرة والاستثنائية للأدب البنغالي، من أهمها جائزة رابندراناث، وجائزة ساهتيه أكاديمي، وجائزة جانا بيث، وجائزتا الدولة التقديرية بادام شري، وبادا بهوشان.
[2] أستاذ مساعد ورئيس قسم اللغة العربية، جامعة بردوان، ولاية بنغال الغربية.
mdalam6@gmail.com
[3] (هو نهر رئيسي في بيربوم، بنغال الغربية، الهند، وله تاريخ طويل من الفيضانات المدمرة)
. (كلمة يستخدمها الهندوس بمناسبة الطقوس أو بمناسبة حرق الجثث معتقدين بأن كل شيء في يد الإله "هاري") [4]
. (مهرجان ديني هندوسي في الهند) [5]
. (اسم مورد في نهر مايوراكهي)[6]